1
عندما خاطب زرادشت في لحظة الوداع تلك الجموع من مريديه وطالبهم بالإنصراف عنه وحيدين في مسالك الحياة البهيجة حاثا إياهم على تجاهله ونسيان خطابه بل ومحترسين منه..انصرف هو الآخر إلى عزلته.
وقد اختلف الرواة بعد ذلك حول الطريق التي سلكها زرادشت والجبل الذي كانت فيه مغارته،ذلك أن الألماني المجنون لم يكن يهمه، أثناء نسجه لتلك الخرافة التي ادعى أنها أسمى هدية تلقتها البشرية عبر التاريخ، مسار الحكاية ولا اختلاف الناس بعد ذلك في تفاصيل حياة زرادشته.
ولقد صادفت أثناء بحثي في تلك التفاصيل مجموعة من الروايات كانت أشدها مكرا هذه الرواية.
2
كان زرادشت على عجالة من أمره أثناء توديعه لمريديه ذلك أنه في اللحظة التي كان بصره يتجه نحو المكان الذي سيقصد إليه..حثهم عن غير وعي منه على تجاهل كل تعاليمه.
لم يقصد زرادشت الناس في البداية إلا لكي ينشر تعاليمه..لكنه وعندما صادف من يعتنق تلك التعاليم أمره بتجاهلها بل وشكك في حقيقتها عندما طالب مريديه بأن يحترسوا من الإنخداع بها.
وأمر كهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا انشغل تفكيره بشيء أعظم من تلك الأقوال والتعاليم..والحقيقة أن زرادشت لم يكن يفكر إلا في المكان الذي يقصد إليه ويعتزل فيه ليغترف من معين حكمته التي استنفذها أثناء معايشته للناس اللذين حذره ذلك الشيخ في سفح الجبل من المضي إليهم.
إن المكان الذي انشغل تفكير زرادشت به لم يكن غير جبل كيسان الممتد على طول نهر درعة المبارك..وما يزيد صدق هذه الحقيقة أن زرادشت أثناء بثه بعض تعاليمه في وقت من الأوقات،قال لمستمعيه:"إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الإعتلاء،أما أنا فقد علوت حتى أصبحت أتطلع إلى ما تحت أقدامي.."
أما المكان الذي يقصد زرادشت بأن الناس ينظرون إليه أثناء تشوقهم للإعتلاء فهو قمة جبل كيسان المرتفعة حد السماء،ولأن زرادشت قد بلغ تلك القمة واعتزل في مغارة تقع فيها فإنه لم يعد يتطلع إلا إلى ما تحت قدميه،والحقيقة أنه ليس تحت قدمي الجبل أعظم من نهر درعة.
3
وقد زاد أحدهم في رواية أخرى امعانا في الغوص في التفاصيل،أن الشيخ الذي صادفه زرادشت أثناء انحداره في البداية لم يكن غير "ابن صحصاح"[1] ذلك الدرعي الذي خالط الناس وأدرك أن الإفراط في حبهم سيقتله،وذلك ما لم يستوعبه زرادشت في تلك الأثناء بعد.
4
أما ما تعمد الألماني المجنون إسقاطه من روايته هو ذلك الحوار الذي دار بين زرادشت وابن صحصاح في سفح الجبل،وقد كان ذلك الحوار بين اللحظة التي قال فيها ابن صحصاح بأن حب الإنسان يقتله واللحظة التي ادعى المجنون بأن زرادشت قال فيها بأنه يقصد الناس من أجل أن ينفحهم بالهدايا.
وحقيقة الأمر أن زرادشت كان يقصد الناس لأنه أحبهم في خلوته..أحب الصورة التي رسمها لهم في خياله،وهو يقصدهم لكي يختبر حبه لهم في الواقع وعندما التقى في طريقه بابن صحصاح وصدمه بأول حقيقة لم يكن قد رسمها في خياله وهي أن حب الإنسان يقتل،بدأت أولى معالم عناد زرادشت تظهر وهي ادعاؤه بأنه لا يقصد الناس من أجل حبهم بل من أجل نفحهم بالهدايا وهو الذي يدعي بأنه لا يعطي ولا يتصدق..وإن لم تكن هذه الهدايا عطايا أو صدقات فما هي إذن؟
5
عندما واجه ابن صحصاح زرادشت بأسمى الحقائق وهي أن حب الإنسان يقتل،سأله زرادشت:
ماذا تعني أيها الشيخ القديس بأن حب الإنسان يقتل؟
أجابه ابن صحصاح:
ليس حب الناس وحده ما يقتل بل إن كرههم كذلك.
ألا تسعى يا زرادشت إلى بلوغ الإنسان الأرقى؟وأنت تعتقد بأن المرأة والعبيد لم يصلوا بعد إلى الدرجة التي يستطيعون معها بلوغ الإنسان الأرقى.
غير أن الذي تجهله يا عزيزي هو أن الناس ليسوا إلا عبيدا أو نساء..وهم ينظرون إلى المتوحدين أمثالنا بحذر شديد أما إذا أظهر أحدنا حبا مفرطا تجاههم فإنهم يسعون بكل ما لديهم من وسائل إلى الحفاظ على هذا الحب،وهم يقتلوننا في الوقت الذي يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
لقد سمعت عرافة تقول بأن المرأة إذا أحبت الرجل سحرته وإذا كرهته تسببت في جنونه.
وفي الوقت الذي تسعى فيه المرأة إلى سحر الرجل الذي يحبها تستعمل كل الوسائل في ذلك وقد يصادف أن تعطيه عشبا قاتلا وهي تحسب أنها ستحتفظ به فقط إلى جانبها.
التعليقات (0)