بقلم/ مـمدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
يموج العالم بنقاش ساخن حول التنظيم الاقتصادي/ السياسي وتداعياته وبخاصة لجهة الكفاءة الاقتصادية للدولة. وخلال السنوات القليلة الماضية نجحت أمريكا بعد زوال النظام ثنائي القطبية في أن تحفر مجرى نهر يمثل القيم التي تراها "حاكمة" للنظام الاقتصادي/ السياسي، واستطاعت، ولو جزئيا، أن تدفع العالم للسير فيه عبر مؤسسات دولية كالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.. .. وغيرهما. لكن الجدل حول القضية عربيا ما زال يأخذ منحى مغايرا تغلب عليه رغبة عميقة في إثبات أن التقدم ممكن دون حرية، وأن على العالم العربي أن يحرم على نفسه – لأسباب غير مبررة عقليا – الاستفادة من التجربة الغربية التي أكدت على نحو قاطع أن الديموقراطية شرط لازم للنهوض.
وبعد عقود من نقل تجارب الاقتصاد المخطط مركزيا والشمولية السياسية: مرة بالانحياز للتنظيم السياسي المخطط مركزيا من أعلى كطريق للنهوض، ومرة باستنساخ النموذجين الفرنسي والألماني في التنظيم السياسي عبر دولة مركزية صاهرة تسيطر على الاقتصاد والسياسة والثقافة.. .. حتى الأحلام!!.
والآن يعود مثقفون عرب لخوض معارك أصبحت بالفعل محسومة، باحثين عن "شهود" يؤكدون صحة قناعاتهم المسبقة، بعد أن أصبحت التقارير التنموية الدولية مناسبة لشعور عربي عميق بالحرج من حصيلة تجارب النهوض المخططة من أعلى سياسيا واقتصاديا. ومؤخرا كان المفكر السينغافوري كيشوري محبوباني بطل قصة من هذا النوع انطوت على مفارقات كثيرة، بعضها أقرب إلى الكوميديا السوداء!
ومحبوباني حاليا عميد معهد "لي كوان يو" للسياسات العامة بجامعة سينغافورة وكان قبلها دبلوماسياً تقلد مناصب عديدة، كان آخرها ممثل بلاده بالأمم المتحدة. كان محبوباني ألقى كلمة بمؤتمر دولي للفكر بكندا تشكك بإمكانية تطبيق المفاهيم الغربية المتصلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان عالميا، وهو ما احتفى به الإعلام العربي بشكل غير مبرر. وقبل أن تهدأ الضجة كانت أطروحته عن "أعمدة الحكمة السبعة" قد ترجمت وصدرت بالعربية وهي صدرت لأول مرة عام 2008 في كتابه: "العالم الأمريكي الجديد: تحوّل لا يقاوم للقوة العالمية نحو الشرق".
وقد لخص محبوباني في كتابه القيم الغربية التي نقلها الآسيويون من الغرب وساهمت في النهوض الآسيوي، في سبع: اقتصاد السوق الحرة، العلم والتكنولوجيا، الجدارة والكفاءة الشخصية للفرد، ثقافة السلام، احترام سيادة القانون، التعليم، والبراغماتية. وجميعها قيم تؤسس للديموقراطية، ومن الخطأ تصور أنه يمكن نقلها لمجتمع ما ث منعها من أن تؤدي للديموقراطية، وهو ما راهنت عليه القيادة الصينية حتى حدثت كارثة أحداث "تيان آن مين".
وبينما يمتلئ الإعلام العربي بتحليلات مضللة تؤكد أن التجربة الصينية شهادة نجاح للاقتصاد المخطط مركزيا فإن محبوباني "يعترف" بأن الصين حققت قفزتها "فقط" بعدما هجرت مبادئ ماو في التخطيط المركزي وأدخلت اقتصادات السوق الحرة. وهو يقول في عبارة موحية: "كثير من الناس علموا عن نمو الصين المدهش، لكن القلة فقط فهمت فعلاً المعدلات المتفجرة التي نما بها الاقتصاد الصيني".
وفي المسافة بين المعرفة والفهم انتشر الخطاب التحليلي الانتقائي الذي أكد دائما أن التقدم سيحدث دون تغيير ديموقراطي!
وفي مقابل الاحتفاء المبالغ فيه بانتقادات محبوباني للديموقراطية يتم تهميش كتاباته عن الهند (الديموقراطية الأكبر في العالم) وقد كتب مؤكدا أن الشراكة بين مانموهان سينج رئيس وزراء الهند وسونيا غاندي رئيس حزب المؤتمر الحاكم، تعني اتجاه الهند لمزيد من الإصلاح والتحرر الاقتصادي، ما يتيح أن ينطلق "النمر الهندي الناشئ". وكما قال سينغ ذات مرة: "رغم السوق المحلية الضخمة التي تمتلكها الهند إلا أن تجربتنا مع السياسات السابقة المنعزلة نسبياً، وكذا التجربة العالمية في هذا الصدد، تشير بوضوح إلى إمكانات النمو التي يوفرها التعاون التجاري والاقتصادي مع الاقتصاد العالمي".
ويرى محبوباني أن "الثقة الثقافية الجديدة" التي اكتسبتها الهند ستكون دافعاً للنهوض الكبير، فهل يمكن أن ينكر أحد مركزية الديموقراطية في التجربة الهندية؟
وقد كان نادي الصناعيين في مومباي ميالاً إلى الحماية على نحو متأصل. واليوم أصبح رجال الصناعة أنفسهم يؤيدون الإصلاحات التي تبناها سينج، بعد اقتناعهم أن الهند أصبحت قادرة على منافسة الأفضل. وتجربة سينج "الديموقراطية" من جانب آخر تؤكد إمكان الموازنة بين السياسات الداعمة للسوق والسياسات المناصِرة للفقراء.
ولم يتوقف موقف محبوباني عن التطور فكتب بعد الأزمة المالية العالمية عن مزيد من الانخراط الآسيوي في الشأن الدولي لا عن مزيد من الاحتماء بـ "الدولة"، وبعد أن كان الآسيويون يقدسون الثبات أصبحوا قادرين على التكيف والتغير. وبعد كانوا يهتمون أشد الاهتمام بحماية سيادتهم حذرين من التعامل مع أي توجه متعدد الأطراف قد يضعف هذه السيادة أصبحوا يدركون أن العمل الجماعي لا يؤدي لتآكل السيادة بل إنه يحميها. وقد اتفقت البلدان الآسيوية، رغم انتقاداتها لصندوق النقد بعد الأزمة المالية التي ضربت المنطقة عام 1997، فإنه تسهم بمليارات الدولارات في صندوق النقد الدولي عقاب الأزمة المالية العالمية الأخيرة. وفي إطار حسهم العملي يحافظ الآسيويين على استعدادهم لتقبل الزعامة الأمريكية المستمرة وهيمنة المؤسسات العالمية، وهم كذلك لا يتحدون المظلة الأمنية التي تتزعمها أمريكا لحماية منطقة آسيا والباسيفيك.
إن العام العربي مصاب بـ "غواية" استيراد الحكمة، لكن هذه الغواية توشك أن تتحول إلى وسيلة لتأكيد القناعات المسبقة لدى شرائح من النخبة تريد "الدولة" في محيطنا العربي "سجنا" لا "حصنا"، وقد طاش سهمهم هذه المرة، عندما قرروا خوض المعركة وراء درع "كيشوري محبوباني"!.
التعليقات (0)