غموض فوكو
شريف هزاع شريف
افتتح قبل سنوات مؤتمر خاص بالفيلسوف الراحل ميشيل فوكو الذي تنظمّه إلى جانب سلسلة أخرى من المؤتمرات، مفوضية بلجيكية في بروكسيل وذلك في المملكة المغربية. ويركّز المؤتمر الذي يترأّسه أكاديميون من تونس والمغرب على أعمال فوكو الذي كان إلى جانب فيلسوف الوجودية جان بول سارتر أحد الوجوه الأكاديمية الفرنسية المؤثّرة في أواخر الستينات.
لم يبرز في العصر الحديث من انحاز الى “ نيتشه “ مثلما برز فوكو ،ويبدو اليوم، وبعد مرور اكثر من عقدين ونيف على رحيل” فوكو “ ان من المستحيل مناقشة سيرة حياته واعماله دون ان يثير ذلك حساسيتنا. ومايزيد الامر حساسية انحياز اتباعه ومريديه الشديد له ، من ناحية وما تثيره الظروف الغامضة التي احاطت بموته من الناحية الاخرى. لكن السبب الاهم هو ما تثيره فلسفة نيتشه بالذات. فكيف يمكننا ان نقيم شخصاً يعترف انه يعيش ( فيما وراء الخير والشر )؟
كتب ادوارد سعيد " حين توفي في العام 1984 بمرض الـ "إيدز"، كان ميشيل فوكو في السابعة والخمسين، وكان المثقّف الأكثر شهرة في أوروبا، مثلما كان معروفاً تماماً على نطاق واسع في العالم. لقد عمل أستاذاً للفلسفة متجوّلاً في أماكن مثل تونس، وارسو، وأوبسالا حتى العام 1970، حين فاز بأحد كراسي التدريس في الـ "كوليج دو فرانس"، وهي موقع التدريس الأعلى صيتاً ونخبوية في فرنسا. ورغم أنّ الكلية تخلو من الطلاب المسجّلين الباحثين عن شهادات، فإنّ أساتذتها الخمسين يلقون محاضرات في وسع مَن يشاء الإستماع إليها، دون طرح أسئلة أو خوض مناقشة. كان كتابه الأوّل «الجنون والحضارة» لم يُترجم بعد إلى الإنكليزية في نصّه الكامل (وهناك ترجمة مختصرة)، ومع ذلك فقد تمتّع فوكو بجمهور شديد الانتباه في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، وكانت كتبه العديدة المتعاقبة تشكّل بالنسبة إلى هؤلاء مصدراً ذا أهمية تاريخية ونظرية هائلة."
ولد ميشيل فوكو في عام 1926، وتوفي في 25يونيو 1984) فيلسوف فرنسي كان يحتل كرسياً في الكوليج دو فرانس، أطلق عليه اسم (تاريخ نظام الفكر) او ما يسمى في الادبيات العربية التي تناولت اعمل فوكو بتاريخ ( انساق الفكر) وقد كان لكتاباته أثر بالغ على المجال الثقافي، وقد تجاوز أثره ذلك حتى دخل ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية ومجالات مختلفة للبحث العلمي.
عرف فوكو بدراساته الناقد والدقيقة لمجموعة من المؤسسات الاجتماعية، منها على وجه الخصوص: المصحات النفسية، المشافي، السجون، وكذلك أعماله فيما يخص تاريخ الجنسانية. وقد لقيت دراساته وأعماله في مجال السلطة والعلاقة بينها وبين المعرفة، إضافة إلى أفكاره عن “الخطاب” وعلاقته بتاريخ الفكر الغربي لقي كل ذلك صدى واسعاً في ساحات الفكر والنقاش.
توصف أعمال ميشيل فوكو من قبل المعلقين والنقاد بأنها تنتمي إلى “ما بعد الحداثة” أو “ما بعد البنيوية”، على أنه في الستينيات من القرن الماضي كان اسمه غالباً ما يرتبط بالحركة البنيوية. وبالرغم من سعادته بهذا الوصف إلا أنها أكد فيما بعد بعده عن التفكير أو الاتجاه البنيوي في التفكير. إضافة إلى أنه رفض في مقابلة مع جيرار راول تصنيفه بين “ما بعد البنيويين” و “ما بعد الحداثيين حصل فوكو على شهادة الأستاذية عام 1950. ليعمل محاضراً في مدرسته (École Normale) لفترة ما لبث بعدها أن تقلد منصباً في جامعة ليل (University of Lille) ليحاضر في علم النفس ما بين 1953 و 1954. في العام 1954 نشر كتابه الأول بعنوان ” Maladie mentale et personnalité”، وهو عمل تراجع عنه فيما بعد. وقبل انقضاء وقت طويل بات واضحاً أن ميشيل فوكو غير مهتم كثيراً في مجال التدريس، وعزل نفسه لمدة بعيداً عن فرنسا. في عام 1954 عين فوكو مندوباً عن فرنسا إلى جامعة أوبسالا (University of Uppsala) في السويد، منصب أعده جورج دومزيل خصيصاً لفوكو. غادر فوكو منصبه هذا في عام 1958 لمنصب لبث فيه فترة وجيزة في جامعة وارسو وأخرى في جامعة هامبورغ.
عاد فوكو إلى فرنسا عام 1960 ليتابع الدكتوراه ويحصل أيضاً على شهادة في الفلسفة من جامعة كليمونصو فيران (University of Clermont-Ferrand) حيث التقى دانييل ديفر وعاش معه بقية حياته في علاقة متعددة. حاز على شهادة الدكتوراه عام 1961 بعد أن قدم بحثين كما هي العادة في فرنسا، أولهما رئيسي بعنوان “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” وآخر ثانوي تضمن ترجمة وتعليقاً على الفيلسوف الألماني “كانط” في الأنثربولوجيا والنظرة النفعية. لقي (تاريخ الجنون) (والذي صدرت ترجمته الإنكليزية بعنوان “الجنون والحضارة”!) ترحيباً واسعاً في الأوساط الثقافية. وفي عام 1963 نشر كتابه (ولادة العيادة) بعدها ارسل شريكه “ديفير” إلى تونس لأداء خدمته العسكرية، وانتقل فوكو عام 1966 إلى جامعة تونس. ونشر في عام 1966 كتابه (الكلمات والأشياء) والذي لقي بالرغم من كبره وصعوبته شعبية واسعة. كان كل ذلك إبان اهتمامه البالغ بالبنيوية. وسرعان مع اعتبر فوكو واحداً من مجموعة مفكرين من أمثال جاك لاكان، وكلود ليفي ستراوس ورولاند بارت باعتبارهم الموجة الأحدث من المفكرين الساعين لتقويض النزعة “الوجودية” التي نشرها جان بول سارتر. أثار فوكو بعض الشكوك حول الماركسية، ما أغضب عدداً من النقاد اليساريين، وكان قد سئم من وصفه بأنه بنيوي. في أيار/مايو من عام 1968 اندلعت عصيان للطلبة وكان فوكو لا يزال آنذاك في تونس، وقد تأثر بعصيان محلي في بداية العام نفسه. وفي خريف ذات العام عاد لفرنسا، حيث نشر عام 1969 كتابه “حفريات المعرفة” أو “أركيولوجيا المعرفة/ L’archéologie du savoir” ـ حيث قدم رداً منهجياً على منتقديه.
اذا كان تاريخ الجنون يشكل منعطفا في تاريخ فلسفات القرن العشرين وحدثا هاما فان فوكو تناول في الكلمات والاشياء جملة من نظريته حول الخطاب وحفريات المعرفة البشرية او ما يسمى بأركيولوجيا للعلوم الإنسانيّة و ذلك في ضوء مفهومين أساسيّين: المفهوم الأوّل هو تشكّل الخطاب Formation discursive وهو مفهوم يحتاج الى الكثير من الايضاح والتحليل. و المفهوم الثّاني هو القطيعة الإبستيمولوجيّة التّي تشير إلى إندثار رؤية معيّنة للعالم بكلّ أطرها و شروطها و بظهور رؤية جديدة تعوّضها و لا تواصلها.
من الممكن تصنيف كتابات فوكو على أنها تعكس فكر ما بعد الماركسية، وذلك لانه سعى إلى تطوير إستراتيجيات في التفسير تعرف وتحدد آليات السيطرة خارج إطار العمل أو حتى خارج مفهوم نمط الإنتاج. ان كل عمل من أعماله يعالج موضوعا تاريخيا يحاول من خلاله الكشف عن كيفية ممارسة النفوذ والسلطة في بنية الأجهزة الهرمية.
" إن فوكو يرفض مفهوم الحقيقة كتوافق مع الموضوع، ولا يعترف الا بالخصوصيات بدلا من «الحقائق الكبرى» التي تعودنا على تداولها، وهكذا تصبح كل الخطابات متشابهة لانه لا يوجد خطاب يمتلك الحقيقة وحده كاملة بطريقة متفوقة. وان الحقيقة موجودة في قوالب الخطابات البشرية، وفي قالب خطاب واحد على الاقل، فالمعرفة ليست مرآة تعكس الموضوع، بل تداخل مستمر بين حقيقتين كبيرتين في عالمنا: الفرد ومحيطه، وهي بذلك تكون مسارا تجريبيا مستمرا . وهذا هو الدرس الكبير الذي قدمه فوكو للبشرية"
"لم تتوقف نصوص فوكو عن اثارة الجدل، ولم يتوقف النقاد عن تقديم قراءات مختلفة لها. فقطيعاته تواصلت حتى بعد رحيله وتفكير القراء في المفاهيم المتجددة والمتميزة التي قدمها كفيل بإثارة الدهشة حول المواضيع الكثيرة التي اثارها، ولعل تلك كانت رغبة فوكو، رغبة في ان تكون تركته هي اسلوبه، اسلوب التجاوز المستمر للرؤى والخطابات السائدة في مختلف ميادين العلوم الانسانية والبحث الدائم عن «القطيعة المستمرة» ."
"فوكو كان كاتبا مهجنا، يستند في كتاباته إلى كل أنواع المصنفات، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والفلسفة، ولكنه يتجاوزها جميعها. وبالتالي فهو يضفي، عامدا، على أعماله قدرا من العالمية جعلها، في ان واحد، نيتشوية واحدث من الحداثة نفسها: فهي ساخرة، ومتشككة، وعنيفة في راديكاليتها، وهي، أيضا، مضحكة ولا أخلاقية في إطاحتها بكل تقليدي ملتزم، وبالأصنام وبالأساطير..."
في عام 1978، وبينما بلغت التظاهرات ضد الشاه في إيران أوجها، عمل ميشيل فوكو مراسلاً صحافياً خاصاً لجريدتي: (كورير ديلا سيرا/Corriere della Sera) و (لونوفل أوبزرفاتور le Nouvel Observateur).
عمل فوكو صحافياً لفترة قصيرة، فسافر إلى إيران، التقى بقادة وبسياسيين وناشطين في التظاهرات التي قادتها المعارضة ضد نظام الشاه، كما التقى بأناس عاديين، التقى أيضاً بقائد الثورة الايرانية الاسلامية الخميني في ضواحي باريس، وكتب سلسلة من المقالات عن الثورة. معظم هذه المقالات لم يظهر بالإنكليزية إلا مؤخراً.
قدم فوكو من خلال مقالاته رؤية لما سماه "الروحانية السياسية" فأثار الزخم الذي تحركت به الثورة حماسه، وبدا وكأنه يدعم اتجاهها الإسلامي، وفي حين اعتقد كثيرون أن اليسار العلماني سوف يزيح التيار الإسلامي بعد سقوط الشاه، أطلق هو تهكماً واضحاً من أصحاب تلك النظرة، ورأى في الحركة الإسلامية بل وفي الإسلام برميل بارود سيغير ميزان القوى في المنطقة، وربما أكثر، من خلال مقاله (الإسلام،برميل بارود).
يعتقد كثيرون في الغرب بأن كتابات فوكو حول إيران كانت زلة أو خطأ سياسيا وفكريا في الحسابات، وأنه تحمس أكثر مما يجب للنظام الإسلامي، ولم يتح الحصول على معلومات حول موقف فوكو من أداء الحكم الإسلامي الذي
تزعمه الخميني في إيران بعد سقوط الشاه، ولا حتى تعليقا عن الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت سرعان ما تسلم الإسلاميون السلطة، رغم أن فوكو عاش حتى 1984، حين كانت الحرب العراقية الإيرانية ما تزال مستعرة.
عادت كتابات فوكو عن إيران إلى الساحة الثقافية بعد أحداث 11 أيلول 2001، وكذلك من خلال كتاب (فوكو والثورة الإيرانية 2005) .
لقد كانت حياة فوكو تكتنفها غموض الطرح والمواضيع التي تناولها من قريب او من بعيد ، لكن موته او شذوذه كان محط استغراب من الجميع ، لقد تعالت دراسات جادة تؤكد ان فوكو مات بالايدز الذي جلبه من امريكا حين سافر لمهام خاصة جدا ..
التعليقات (0)