يوم الثلاثاء 9 مارس 2010 خرج قضاة فرنسا "بأروابهم" السوداء والحمراء. وخرج معهم المحامون, وكتاب الضبط ,ومدراء السجون, والمربون والنفسانيون العاملون لحساب المؤسسات القضائية, في تظاهرات في المدن الفرنسية الكبرى: باريس. ليون. تولوز ..
سابقة لم يشهد لها تاريخ فرنسا القضائي مثيلا من حيث الاتساع. مشاركة 25 منظمة قضائية وعاملة في مجال القضاء, بينها: مجموع نقابات القضاة و الملاك القضائي. نقابات ادارة السجون. محامون. بلغ عدد المشاركين في مظاهرة باريس 2300 متظاهر حسب البوليس, واكثر من 5000 حسب المنظمات المشاركة ", بينهم وزيرة عدل سابقة ( Elisabeth Guigou ) , هذا دون حساب القضاة الذين ارادوا المشاركة ولكن بقوا في امكانهم لتأمين الجلسات أو لتأجيلها, كما صرح العديد من القضاة.
"حتى ينزل القضاة للشارع لا بد ان يكون قد طفح الكيل فعلا ". وليصرخوا في باريس بملء أصواتهم: "ساركوزي ما تفعله سيء . القضاة في الشارع" . " عدالة موجهة لا نريدها"... وعلى لافتات كبرى كتب "العدالة في خطر. لنتحد". " لاعدالة دون ضمانات حق الدفاع, لا عدالة دون استقلال". " لا لعدالة تحت الاوامر". وحتى ينزل الجميع للشارع ويهتفوا لابد ان يكون الشعور بالتدخل في شؤون القضاء قد اصبح سافرا وحالا. والمستقبل غامض.
غضبة خارج مقار العدالة لماذا؟
هل لمن يجلس لإقامة العدالة ان يغضب علنا وعلى الملأ ؟. هل تتلاءم صرخات الغضب والهتافات في الشوارع مع وقار القضاة رجال العدالة؟. هل لمن يحاكم الاخرين لإخلال بالنظام العام ان يخل هو نفسه بالنظام العام؟. اليس القضاة مواطنين عاديين كغيرهم؟. ولكن اليسوا هم ضمير الامة؟ وهل لضمير الامة ان يصمت باسم الوقار اذا ما انتهكت العدالة فيها؟. وهل على القضاة , تحت صفة الوقار, ان يكونوا كتماثيل من جليد؟. اليس من الاولى لمن من مهامه حماية الحريات الفردية والحريات الاساسية والتصدي للمجرمين والجانحين افرادا او عصابات, ان يتصدى لكل من يحاول الاعتداء, باسم القضاء واصلاح القضاء, على القضاء نفسه وعلى استقلاله, ويذهب لحرفه عن المهمة التي وجد اصلا للقيام بها باستقامة وشرف ونزاهة؟. هل من كرامة الامة تدجين العدالة في الامة؟. الا يستحق هذا استنكارا وغضبة؟.
اسباب الغضبة
من الاسباب التي دفعت هؤلاء للتظاهر في الشوارع: الروتين المستفحل. التضخم في التشريع. الحذر المتزايد تجاه وزارة العدل. ظروف احتفاظ الشرطة بالموقفين في مراكزها, garde à vue . أما السببان الاكثر اثارة ودفعا للتظاهر فهما: مشروع اصلاح الاجراءات الجزائية, الغاء قاضي التحقيق "القاضي الصغير". ونقص الوسائل المتاحة للقضاء.
بعد ما سمي بفضيحة اوترو, قبل 4 سنوات ,تشكلت لجنة برلمانية لتحليل عيوب النظام القضائي الفرنسي وصياغة اقتراحات بهذا الصدد. وقد جاء تقرير اللجنة خال من النص على الغاء قاضي التحقيق, مع ملاحظته بان هذا القاضي اخذ يصبح " شيئا فشيئا محقق اكثر منه قاض".
رغم تقرير اللجنة المذكورة جاء ساركوزي في جانفي 2009 ليطرح مسألة الغاء قاضي التحقيق. "لم يكن بطبيعة الحال القاضي نفسه هو المستهدف, وانما مهامه التي تبدو متعارضة مع المبادئ المعتمدة في المحكمة الاوربية لحقوق الانسان. حسبما يعلن فديريك فيفر نائب الجمهورية Procureur de la République لدى محكمة ليل. (لوموند 12/03/2010).
اصلاح الاجراءات الجزائية المتوقعة بداية الصيف القادم لإلغاء قاضي التحقيق juge d’instruction, واحالة التحقيقات الى قضاة النيابة التابعين لوزارة العدل دون تعديل جدري لوضع هؤلاء, رأى فيه القضاة المتظاهرون اعتداءات كبيرة على استقلال القضاء. ورغم نص مشروع الاصلاح المقدم من الوزارة على انشاء مؤسسة جديدة اسمها "قاضي للتحقيق والحرياتjuge de l’enquête et des libertés ".فان ذلك لم يقنع المتظاهرين وشككوا بجدواه . وطالبوا بسحب المشروع المذكور.
يصرح احد قضاة التحقيق في فرساي بان: " لقاضي التحقيق عيوبه". "ولكنه مع ذلك يبقى ضامن للتوازن. الغاؤه, دون اي ضمان مقابل, يقود الى قضاء بمعايرين. فهناك الميسور الذي يستطيع الدفع لمحامين جيدين, وهناك من لا يستطيعه".
رغم بعض الإخفاقات القضائية لبعض قضاة التحقيق خلال ممارستهم لمهامهم, وصعوبة الدفاع عن هذه الاخفاقات, فان من الصعب ايضا انكار الفوائد الكبرى في التحقيق الذي يتميز به النظام الفرنسي بإسناده ذلك لقاضي حكم مستقل وغير قابل للعزل. ووظيفته تتبع المجلس الاعلى للقضاء وحده . في حين ان النواب العامون, قضاة النيابة, يسمون من قبل مجلس الوزراء. ويمكن ان تكون هذه التسمية مخالفة لراي المجلس الاعلى للقضاء.
نقل سلطات التحقيق من قاض مستقل الى قاضي نيابة عامة يتبع وزارة العدل, وإحالة قضايا قضائية معقدة وحساسة اليه, يرتب نتائج خطيرة . اذ يصبح من السهل تأخير بعض الملفات "المزعجة" في المجال السياسي والاقتصادي والمالي .. او التلاعب فيها او حفضها نهائيا. ومن هذا الواقع, واقع التبعية, فان قاضي النيابة اقل نزاهة من قاضي التحقيق قاضي الحكم المستقل. علما بان 96% من الاجراءات الجزائية تعالج حاليا من قبل النيابات دون العودة لقاضي التحقيق .
اذا كان للنيابة في الاجراءات الجزائية الحالية سلطة حفظ قضية ما, فان بالمقابل, ولموازنة هذه السلطة الهامة للمعتدى عليه حق الادعاء بالحق المدني constitution de partie civil امام قاضي التحقيق.
ترى الغالبية ان المسألة الاكثر اثارة للجدل ليس في الغاء قاضي التحقيق وانما في البديل الذي سيقوم بمهامه. السلطات المتزايدة للنيابة يجب بالضرورة ان يوازيها ويرافقها تعزيز حق الدفاع وحقوق المعتدى عليه. مثل, على سبيل المثال, حق الموقوف في مقار البوليس, بتعزيز دور المحامي خلال مدة التوقيف هذه.
فكرة الغاء قاضي التحقيق في مثل هذه الظروف وبهذه السرعة وبهذه الطريقة لا يمكن ان يعتبر الا وضعا للقضاء تحت الوصاية. ففي الوقت الذي لم تقترح اللجنة البرلمانية المشار اليها اعلاه الغاء قاضي التحقيق وانما قررت, وصوت البرلمان على قرارها عام 2007 ,على جعل التحقيق في هيئة جماعية مكونة من 3 قضاة تحقيق, وتستأنف قراراتها امام الغرفة الجزائية بمحكمة الاستئناف مشكلة بهيئة جماعية, جاء رئيس الجمهورية ليعلن العام الماضي الغاء قاضي التحقيق .
ومن الجدير بالذكر ان المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان اعتبرت في قراراها الصادر في 10 جويليه 2008 ان صفة الهيئة القضائية لا تنطبق على النيابة لأنه " ينقصها بشكل خاص الاستقلال عن السلطة التنفيذية حتى يمكن وصفها بصفة الهيئة القضائية", وعليه لا يملك قضاة النيابة, المعتبرين دستوريا قضاة, هذه الصفة بنظر الاتفاقية الاوربية. ويترتب عليه ضرورة تغيير وضعية النيابة, التي تعمل عكس ذلك , فتوسع سلطاتها وتقوي وسائلها بشكل كبير, وتبقى هكذا خارج مشروع اصلاح الاجراءات الجزائية الحالي.
استقلال القضاء, كما يصرح رجاله, ليس لرفاهية القضاة, وانما هو ضرورة وواجب, وضمان للمواطنين بشكل يقنعهم بان القضاة, قضاة الحكم وقضاة النيابة, لا يحد من استقلالهم الا القانون والمصلحة العامة . فحين يخيم الشك حول العدالة فان المجتمع معرض للتمزق, والامة مهددة بوحدتها.
القضاء الاداري هو ايضا قلق على مستقبله. فزيادة على مسالة الوسائل والامكانيات فان القضاة الاداريون قلقون بدورهم من "حرف سير المحاكم الادارية" . وتُذكّر نقابة القضاء الاداري على ان "المحكمة الادارية ليست ادارة, وليست مشروعا".
الوسائل المادية للقضاء
كانت ميزانية القضاء عام 2009 6, 6 مليار يورو اي 2,5 % من ميزانية الدولة. مما جعل المجلس الاوروبي يصنف فرنسا في الدرجة 35 على 43 فيما يتعلق بما يقدم ماليا للقضاء.
ومع ذلك تذكر وزارة العدل بانه " بعد سنوات من الجمود فان المخصصات المادية لم تتوقف عن الازدياد فمنذ عام 2002 ازدادت الميزانية 50%. وازداد عدد القضاة من 7344 الى 8510. واستحدث 20 مؤسسة سجون, و 7225 وظيفة في ادارتها.
أما القضاة فيعلنون بتصريحاتهم بانهم لا يتظاهرون لزيادة مرتباتهم, ولكن من اجل توفير الدعم المادي الضروري لتمكين القضاء من القيام بمهامه على افضل وجه.
المحامون:
مشاركة المحامين في هذه التظاهرة تعود , حسب ما يعلن بعضهم, لقلقهم مما يمكن ان يترتب على فقر القضاء. ولإصلاح قانون الاجراءات الجزائية . وللكم الزائد والمتواصل للنصوص القانونية التي تنظم عمل القضاء. فهم يطلبون من الحكومة تبني فقط القوانين القابلة للتطبيق. فكل قانون, كما يرى فينسان بيرتات رئيس الاتحاد الوطني للمحامين avocats confédération nationale des, يجب ان يخضع مسبقا لمداولات ومناقشات, ودراسات كافية ليصبح قابل للتطبيق ولمدة طويلة.
و يضيف بان " وضع القضاء لا يسر أحدا. وهذا بطبيعة الحال يستوجب الاصلاح". ويعتبر مشروع الاصلاح المقدم من وزارة العدل رغم احتوائه على اشياء كثيرة جيدة, الا انه غير كاف, فهو لا يذهب بعيدا. خجول. لا يضمن احترام بعض الحقوق الدستورية. و يضرب مثلا على ذلك عدم احترام حقوق الموقوف في مقار الشرطة garde à vue.
حراس السجون
يأخذ حراس السجون على السياسة توجهها الى اغلاق السجون الصغيرة لإقامة سجون واسعة ممنوحة للقطاع الخاص. "نريد تقديم خدمات ذات طبيعة جيدة للمساجين ولكننا لا نستطيع ذلك لنقص الوسائل". حسبما جاء في تصريح الأمينة العامة لنقابة السجون. وتُذكّر بان هناك في السجون الفرنسية 62000 سجين في حين انها لا تتسع الا 53000 سجين. كما ان التوزيع الجغرافي الجديد المقرر للسجون سيعمل على اغلاق اكثر من 60 سجنا صغيرا بين الاعوام 2015 و 2017 . بحيث تحل محلها سجون كبيرة شبه خاصة. ولهذا نتائج تنعكس عل شروط العمل وظروف السجن. ولا يوفر معاملة متساوية للسجناء واهلهم وزوارهم, حسب اماكن السجن.
المربون المختصون بالحماية القضائية والمكلفون بمتابعة الجناحين الشباب يشكون من تقليص الميزانية المخصصة لهذه الحماية. مما يعيق عملهم بسبب نقص التوظيف , وتسبب اغلاق المؤسسات الخاصة باستقبال الأحداث.
يضيف المتظاهرون ان قانون اجراءات جزائية اكثر وضوحا واكثر بساطة واكثر حماية للحريات الفردية فرصة للعدالة , وهذا ما يساهم بعمق في حركة تحديث المؤسسة القضائية.
وزيرة العدل Michèle Alliot-Marie التي استقبلت وفدا من المتظاهرين صرحت بان اصلاح الاجراءات الجزائية ضرورة ملحة. وقد اعتبرت بان الاصلاح في مصلحة حقوق المعتدى عليه " لقد تم اعداد كل شيء الآن لإجراء هذه الاصلاحات بأفضل الظروف الممكنة بالنسبة للقضاة وكل ملاك القضاء" مضيفة في اعلان صادر عنها بان " المعايير التي تم وضعها تؤمن عدم اهمال اية قضية". وبان هذا الاصلاح سيكون بتنسيق مع كل الفاعلين في هذا المجال. وقد بلغت وزارة العدل عشية المظاهرة امرا لرؤساء المحاكم, كشفت عنه النقابات, بتذكير القضاة بانهم لا يملكون الحق في الاضراب, او في خلق الاضطراب في المحاكم.
رد القضاة على الاصلاح المعلن من قبل الحكومة ان اعطاء النيابة سلطات واسعة دون علاج مسألة تبعيتها, يلحق ضررا كبيرا بنزاهة واستقلال القضاء. حتى ان البعض وصف وزير العدل على انه "رئيس النيابات".
كما ان تعديل قانون الاجراءات الجزائية, مع ابقاء ممثلي النيابة مرتبطين وتابعين لوزارة العدل, سيؤدي الى انحسار ديمقراطي خطير في مبدأ منتسكيو , المنُظّر الاول لفصل السلطات, وسيمكن الحكومة من توسيع سلطاتها على حساب السلطات الاخرى .
غضبة العدالة التي تستطيع ان تهز اشياء كثيرة في الدولة الديمقراطية, يقابلها في منطقتنا العربية غضبة صاعقة تهز العدالة وتقتلعها من جذورها ان هي يوما نادت بالعدالة أو غضبت من اجلها.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)