توقع البعض، نظراً للأسم الذي حملته الفعالية الثقافية التي أُقيمت قبل أيامٍ قليلة في مدينة مانهايم بألمانيا، توقعوا رؤية مُثقفينَ و أقلاماً و ريْشاً و محابراً و ألواناً و كراريساً و كُتباً و لوحاتاً، فالصورة النمطية لهكذا عنوان عريض (مهرجان الثقافة الكُردية) هي وجود فعاليات فنية من غناءٍ شعبي، و دبكاتٍ فولكلورية، و أفلامٍ (غير مُسيئة طبعاً)، و مسرحياتٍ و أزياءَ شعبية، و الأهم إظهار السلوك حضاري و الإنضباط الشديد اللذان ينسجمان مع المناسبة. كان المفروض إذاً أن يقدم كل ذلك حوالي أربعين ألف كُردي، توقعت الجهة المنظمة للمهرجان أن يجتمعوا في مانهايم من مختلف بلدان أوربا و العالم، فإسم المهرجان و مكان إقامته جعلنا نتخيل شكل الحضور، و مستواهم، و الفعاليات المُفترض أن يشاهدها العالم عنه.
لكن (الثقافة الكُردية) برهنت في مانهايم على أن لها نكهة خاصة، و أن لها طعم و لون و غنى مختلف تتميز به عن ثقافات العالم كله، لقد غيرت تلك الثقافة بقوتها الصورة النمطية عن الثقافة، فبدلاً من الأقلام حضرت السكاكين، و بدلاً من كُتب التراث عُرضت الزجاجات الفارغة الطائرة، و بدلاً من الغناء الرقيق حضرت الألفاظ البذيئة و الشتائم، و بدلاً من أصوات الآلات الموسيقية إستمتعت مانهايم الحالمة، و إستمتع سُكانها الرقيقون في عطلة نهاية الأسبوع، التي تأملوها كالعادة هادئة، بأصوات المُفرقعات، و ضاعوا فيما بعد بين أكوام القاذورات التي خلفها رُسل الثقافة الكُردية.
أربعون ألف كُردي يُمثلون ملايين الكُرد و ثقافتهم أرعبوا (مانهايم) بعروضهم الثقافية على مدى يومين، فأنسوها تشيلر و بريخت و غوته، ففي اليوم الأول لم يتمالك هؤلاء أنفسهم ولم يضبطوها ليبعثوا رسالة تنسجم مع الهدف النبيل الذي أعلنوه عنواناً لمهرجانهم، فلقد تشاجروا مع الأتراك في المدينة، و هنا ليس مهماً من أستفز الآخر، المهم هنا هو من صاحب المصلحة في عدم إفشال المهرجان و إيصاله إلى أهدافه، و بالتالي صاحب المصلحة في ضبط نفسه و تقديم صورة طيبة عن نفسه، في ذلك اليوم نجحت الشرطة بعد جهدٍ جهيد في صدهم و الفصل بين الطرفين، أما فعاليات اليوم الثاني فقد كانت أكثر إثارةً، لقد إستعرضوا عضلاتهم الثقافية على ألمانيا هذه المرة، و من بين ما فعلوه هو أن الآلاف منهم أمطروا رجال الشرطة بالحجارة، و حطموا الأملاك العامة و الخاصة، و جُرح بسبب ذلك حوالي ثمانين شرطياً، و أُعتقل بالمقابل عشرات المثقفين التقدميين، و عثرت الشرطة في حافلاتهم على العصي و المناجل و المفرقعات.
على مدى يومين قدم أكراد الثقافة للعالم درساً ثقافياً بليغاً في ممارسة حقوق الإنسان، و في كيفية إعترافهم بالجميل، و كيف يقومون بشكر من أواهم بعد تشرد، و أجابوا عملياً على السؤال العريض، ألا و هو: كيف يغدو البعض، إذا ما شبع بعد جوع، و إكتسى بعد عُري، و تدفأ بعد برد، و أمِن بعد خوف.
على مدى يومين قدمت الجهة المنظمة لمهرجان الثقافة درساً في الإقتصاد الحديث، في كيفية البدء بأكل الكتف، إذ بلغ حصادها مئات الآلاف من اليوروهات، منها ثمن البطاقات التي باعتها لأنصارها الحاضرين و الغائبين، زائداً بذوراً ثقافية زرعتها، ستحصدها في المهرجان الثقافي القادم، بإذن الله.
هذا الإختراق الثقافي في مانهايم لم يكن الأول كما أنه لن يكون الأخير، إذ كثيراً ما حصل و أن قامت مجموعات ثفافية بالهجوم على فنانٍ لا يتفق مع إتجاهها السياسي، فتعدت عليه و على جمهوره، و خربت حفلته.
التعليقات (0)