قدّر الله لها أن تكون عصية عن الانكسار، ومُبدعة في مواجهة الحصار، وقُدّر لها أن تحفر الأنفاق، وتُدخل مواد البناء لتعيد الاعمار، فذُهل الغرب وذهلت إسرائيل، وتوافقوا سويّاً للضغط على النظام المصري المخلوع من أجل بناء جدار فولاذي في باطن الأرض لمنع التهريب عبر الأنفاق، فسقط النظام المصري قبل أن تسقط الأنفاق.
أما اليوم، وبعد أن تكسّرت حلقات الحصار، وبدأ الشعب الفلسطيني في غزة يحصد ثمار صموده وصبره بعد أكثر من أربع سنوات من المعاناة والحرمان والبطالة والفقر، عاد ليتنفس الصعداء، من خلال عودته لعمله ، بعد أن بدأت عجلة الاقتصاد بالدوران، وبدأت الحكومة الفلسطينية في قطاع غزة بسلسلة مشاريع حيوية تتمثل في إعادة اعمار ما دمره الاحتلال بحربه الأخيرة على قطاع غزة في ديسمبر/2008م، وكذلك مشاريع شق الطرق وإعادة تعبيدها، وبناء المدارس والمستشفيات والحدائق والمتنزهات وغيرها، وبدأ القطاع الخاص بالعمل على بناء العديد من الأبراج السكنية والمباني والفنادق السياحية، والجميع يعتمد في الحصول على المواد الخام من خلال الاعتماد على الأنفاق التي تصل قطاع غزة بمصر الشقيقة أو كما يحلو للغزّيين تسميتها بشرايين الحياة، فتدخل مواد البناء ولوازم الصناعة والزراعة والتجارة من خلالها، وربما ذلك أفشل المخطط الصهيو أمريكي بتركيع وإذلال الشعب الفلسطيني نتيجة خياره الديمقراطي في يناير/2006م، فبدأ الغرب يبحث عن طرق وأشكال أخرى للحصار، فتم الضغط على اليونان لمنع وصول قوافل المساعدات الإنسانية للقطاع، وفعلاً خضعت اليونان لذلك وبدأ الموساد الإسرائيلي بالعمل على وقف الرحلات البحرية من خلال تعطيل بعض سفن أسطول الحرية (2) المقرر إبحارها لغزة.
هذا النجاح الباهر الذي سيكتبه التاريخ بحروف من ذهب لتجربة حصار غزة، وكيف نجحت غزة من محاصرة (إسرائيل) سياسياً واقتصادياً وقانونياً وأخلاقياً، دفع الوكالة الأمريكية للتنمية (USAD) إلى اتخاذ قراراً يشترط على المقاولين الفلسطينيين المنفذين لمشاريعها في قطاع غزة استخدام المنتج الإسرائيلي، في إشارة اقتصادية ضمنية لتضرر الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة السياسات الإسرائيلية الحمقاء من حصار قطاع غزة.
إن قرار الوكالة الأمريكية للتنمية (USAD) يعيد للذاكرة الفلسطينية قراراً سابقاً لنفس الوكالة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى يشترط على مؤسسات المجتمع المدني التي تتقدم بمشاريع تنموية في الأراضي الفلسطينية بضرورة التوقيع على وثيقة نبذ الإرهاب والعنف حتى تحصل على بعض من المال الأمريكي المسيّس والمنحاز لصالح إسرائيل.
إن الوعي السياسي الذي بات يتمتع به كل فلسطيني وعربي، ورياح المقاومة والتحرير التي بدأت تهب مع حلول ربيع الثورات العربية، ستدفع الجميع لإعادة النظر في حقيقة الدعم الدولي للشعوب العربية بشكل عام، والشعب الفلسطيني بشكل خاص، والاستفادة من تجربة غزة الاقتصادية التي تشكل نموذجاً مميزاً في الاعتماد على الذات، واستثمار الموارد المتاحة، كون المال الغربي ليس نظيفاً، لأنه في الحقيقة يخدم أهداف سياسية تصب في المصلحة الغربية والإسرائيلية، ولذلك البحث عن البدائل أصبح ضرورة ملحة وفاتورة يجب دفعها قبل التحرير، وباتت اليوم ضرورة لأنها هي العقبة الحقيقية التي تقف في وجه المصالحة الفلسطينية.
التعليقات (0)