(إعادة نشر بمناسبة الذكرى الأولى لقصف غزة).
ما أشبه اليوم بالبارحة, وما أشبه البارحة بأول البارحة, وما أشبه أول البارحة بعقود ماضية في تاريخ امتنا. وسوف لا يكون المستقبل, المنظور, ضمن شروطنا الحالية, إلا كاليوم والبارحة وأول البارحة, والعقود الماضية.
مرور الزمن لا يفعل فعله عندنا في عالمنا, إلا باسترداد النفوس المستحقة بفعله إلى بارئها. وقد عجز إلى الآن, عن فعل ما فعله في غير عالمنا, من تغيير وتطوير للعقول والأفكار, والمفاهيم, ورديء القيم والعادات, وعجز عن تثبيت الصالح منها. كما عجز عن ضمنا لركب الحضارة والتطور والنمو الاقتصادي والعلمي والثقافي. فكانّ الزمن العربي لا علاقة له بهذا الزمن. أو أن الزمن لا يأخذنا باعتباره لتخلفنا ورفضنا لمساره.
غزة تُقصف.
مئات بين شهيد وجريح ومهجر من كل الأعمار ومن الجنسين. وكالبارحة وأول البارحة وقبل عقود, يعلن المقصوف النصر المبين. ويتوعد بنصر شبيه قادم. فهو مازال حيا وفي سلطته. وهذه قمة الانتصار. الشهادة قدر محتوم على أبنائنا. شهادة مجانية دون مقابل من تحرير أو حرية, شهادة يخطط لها صاحب القرار, ويطلبها من غيره ويحرم نفسه منها. ويعد طلابها بالنصر والتحرير, وبالجنة في الآخرة, ويضمنها لهم كضمانه لحماية الأوطان.
خلال كل قصف تعلو التوصيفات ليُقصف بها العدو في عقر داره, فهو:
صهيوني و بربري وغاشم, وعدو الإنسانية.
وعدوانه: وحشي وهمجي وخال من كل القيم والأعراف التي عرفتها البشرية, وانه إبادة جماعية, وانه مجازر صهيونية.
توصيفات يتم ترديدها عند كل عدوان, مفاجئ دائما, وكأننا كنا ننتظر عدوانا يتم إعلامنا به مسبقا , حتى لا يكون غادرا. وكانّ التوصيف هو ما ينقصنا. ماذا يُنتظر من عدو عرفنا هو حق المعرفة, ولم نعرفه نحن حتى في الحدود الدنيا. هل سنكتفي بقصفه بنعوت سيذوب خجلا عند سماعها؟. قصفناه بها البارحة وأول البارحة واليوم, ولم يخجل ولم يمتقع لونه , ولم يرف له جفن, ولم يرعوي. ومع ذلك سنقصفه بها غدا وبعد غد, دون أي قصف آخر, ولن ننثني ولن نلين. وزيادة في إيذائه سندعو عليه ببالغ الدعاء علنا نحرقه عند رب العالمين.
غزة تقصف.
ويحول الغاضب من الحكام غضب شعوبنا وسخطها إلى مسيرات منظمة منتظمة تردد الشعارات ذاتها, شعارات البارحة وأول البارحة وقبل عقود, دون أن يسمح لها بزيادة أو نقصان, شعارات صالحة لكل قصف, والى يوم النصر. غضب حتى لا يخرج عن السيطرة يحول إلى السير بنفس الشوارع, والتجمع بنفس الساحات, ويتم تنفيسه بنفس الخطابات الهادرة, والكلمات المعدة جيدا, والفصيحة بما فيه الكفاية لتوصيل كل الرسائل, ومن بينها رسالة النصر المرتقب. وتنتهي بأغلظ الأيمان بنصرة الأوطان. وكان احمد سعيد مازال يزأر من صوت العرب ويبشر بالنصر امة العرب, كل امة العرب.
غزة تقصف.
وتنطلق الأناشيد الثورية من المحطات الأرضية والفضائية الأكثر ثورية. وتنطلق ألسنة كل المحللين السياسيين والاستراتجيين, المجند منهم والاحتياط, المستقدمون للمناسبة على عجل, ليقولوا قولوهم, ويصفوا ويحللوا, ليعدوا ويتوعدوا, وفي الختام يدعو كل منهم الآخرين للاحتذاء بمواقف زعيم بلده والاقتداء بها, للوصول إلى توحيد ورص الصفوف بانتظار الرد القادم, فالحالي فوتته المفاجأة .
إنهم محللو البارحة وبكلمات البارحة وأول البارحة وقبل عقود, و للقادم من الأيام , ويعدون ورثتهم لشغل المكان, وإتباع نفس المنطق وذلاقة اللسان. وفي المحطات الفضائية الأقل ثورية لا تتعدل البرامج, وتبقي في مواعيدها حلقات فنون الطبخ والطبيخ, والطرب و الأغاني, والرقصات, والمقابلات الفنية, والمسلسلات العربية والتركية.
غزة تقصف.
وتدبج المقالات بالصحف الرسمية المكتوبة وامتداداتها على شبكة الانترنت, والكل ينصح أو يُنظّر, أو يشيد بمواقف زعمائه, التي لو تبعتها المواقف الأخرى ودرسها بعمق الفلسطينيون لكنا نحن الآن من يقصف وليس من يُقصف.
غزة تقصف.
ويتبادل بعض الفلسطينيين القصف البيني والاتهام, والاتهام المضاد. ويقسمون على الانتقام, ولكن بعد تصفية كل الحسابات البينية المتأخر منها والمستحق حاليا ومستقبلا. وكأنّ الجماهير الفلسطينية البطلة الغاضبة, والحاملة وحدها صدق المقاومة وروح وغضبة المقاوم, المقاومة بالأصالة عن نفسها وليس بالوكالة, المتصدية للعدوان بالصدور العارية والحجر, كانها لا تفعل ذلك, من اجل غزة والضفة, من اجل الوطن, من اجل فلسطين, وإنما من اجل هذا الفصيل أو ذاك.
غزة تقصف.
وكالبارحة وأول البارحة وقبل عقود, وعند كل قصف وعدوان, يبدأ القصف العربي العربي البيني بأقذع الألفاظ وأحط والصفات. فالكل يُخّون الكل. والكل يتهم الكل بتفريق الصفوف وإضعاف النفوس وإيهان الهمم. والتخلي عن القضية. و بعدها يتداعى الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ (والكل زعماء دون استثناء) لقمة تدين ــ بعد مداولات وتبادل التهم والشتائم ــ القصف وتستنكر وحشية القاصف وهمجيته وتشهر به في بيان ختامي. وتكتب الأمانة العامة للقمة قرارات للأرشيف. لا يتداعون للقمة لنصرة القضية أو لنخوة عربية, وإنما للهروب من المسؤولية. فالكل ــ خوفا من عسير حساب قادم من ما وراء البحارــ لا يجرؤ على تصريح أو إعلان موقف فردي واتخاذ قرار, فيُترك الأمر للقمة لتضيع المسؤولية عن الدم المهدور بين كامل القبائل العربية.
غزة تقصف.
وكالبارحة وأول البارحة وقبل عقود, وبعد انتهاء كل قصف وعدوان, تهدأ النفوس ويبدأ البحث عن المصالحات, وإعادة ترتيب التحالفات, ونسيان ما فات. ويلتحق الشهداء بالقوائم المليونية المنسية, ويدخل الجرحى في عداد المعاقين العاجزين عن العمل وتدبير لقمة العيش. و من دمرت بيوتهم وأرزاقهم فالله وحده يعلم أعدادهم ويحس بمآسيهم.
وكالبارحة, وأول البارحة, وقبل عقود, واليوم, وللقادم من الزمن, ستبقى شعوبنا تحت الظلم و الاستبداد, وتضليل الزعماء والمتزعمين المتاجرين بأرواح الآخرين, وبدمائهم إلى أخر قطرة, دون ضمير أو مسؤولية. وسيبقى الإنسان بين مطرقة العدوان الصهيوني وسندان الطغيان.
غزة تقصف. وتتفهم أمريكا دوافع إسرائيل, مؤكدة أن تفهمها لهذا يلتقي مع التفهم المعبر لها عنه سرا وخلف الأبواب الموصدة, بمقابل أو بدونه, من غالبية الزعماء العرب.
غزة تُقصف.
ويدفع الثمن الأبرياء. و كالبارحة وأول البارحة وقبل عقود, ما دامت أوطننا بيد الزعماء, سيقصف القاتل كل الجبهات و كل الأعماق, وفي كل الأزمان, وسيفلت من كل حساب و عقاب.
د. هايل نصر
التعليقات (0)