غزّةُ تحترقُ. غزة تحت النّار. هكذا أعلمتنا بعضُ فضائياتنا العربية في خبر عاجل ومضت في سبيلها تُرَوِّضُ مُشاهديها على حسن هضمِ ما تُقدِّمُ من تفاهات تسِمُها بالبرامج الثقافيّة والمنوّعات الفنيّة وهي موادُّ سرطانيّة ما أن تدخل عقل المشاهِد حتى تُخرِّبَ فيه إحساسَه بذاتِه وبمشتقّاتها من هُويّةٍ وأصالةٍ وانتماء.
غزّةُ تحترقُ. وجلسنا نشاهد آلات أولمرت العسكريّة وهي تُقَطِّعُ لحومَ الفلسطينيّين من الأطفال والنساء إربًا إربًا ببرودةِ دمٍ كبيرةٍ معضودةٍ بصمتٍ عربيٍّ حارٍّ وبتواطُؤٍ دوليّ كأنّما فلسطينيو غزّة لا يتوفّرون على مواصفات الكائن البشري الذي تتسارع النُّخبُ الفكريّة والسياسيّة والأمميّة للدِّفاع عنه من خلال مراسيمها القانو نيّة ومحاكمها الدّولية.
غزّةُ تحترقُ. ومضينا نقتُلُ الوقتَ في أسرَّتِنا الدّافئة بالتفرُّجِ على أرواح الأطفال وهي تصعُد من طينها إلى ربِّها ونُقشِّرُ الفُسْتُقَ ونتملّى "سيقانَ" المطربات العربيات ، فلا تتحرَّكُ فينا غير مشاعرنا الحيوانيّة وتخملُ فينا باقي خلايا التفكير والتبصُّرِ.
سنكتفي بالبُكاء على غزّةَ، لعلّه أضعفُ إيماننا نحن الشعوب العربية التي لا تمتلك من أمرها شيئًا، فذا ملكتْهُ باعتْ ما فيه من شهامة ورجولة وحياءٍ وتآزر وإيثار على النفسِ وغوث المحتاج في الأسواق السوداء بالملّيم الرمزي لتتخلَّصَ، هكذا، من كلِّ ما يمكنُ تأويلُه بالتعصُّبِ والإرهابِ.
ولكن هل نستطيع البكاء؟ لا أظنّ أحدًا منّا يقدر في هذه الساعات على البكاء بعينيْهِ الاثنتيْن، لا أظنّه يفعل ذلك لسبب بسيط وهو أنّ أعينُنا سُمِلَتْ من فرط ما بكينا أحوالَنا الفرديّة والقوميّة حتى بتنا لا نرى الهزيمة فينا، فإذا رأيناها حوّلوها بيننا إلى غنيمة من غنائم عصر الدّيمقراطيات العامّة والحرّيات الفرديّة التي تتدافع من أجل إرسائها بيننا أعظم دول العالم حتى بلغت في ذلك حدَّ الطغيانِ.
أين الشعب العربي الذي طالما كتب القائد في فلسطين وغنّاها؟ أين الزّعامات العربية التي تمعّشت من دم الفلسطينيّين، فعقدت في منتجعاتها الرئاسيّة مؤتمرات للسلم "أعني للاستسلام" دعت إليها سادةَ الحكم في فلسطين وأصحابِهم من الإسرائيليّين بحضور مراقبين مُحايِدين من أمريكا ليتقاسموا فيما بينهم قضيّة شعبنا العربيّ هناك قسمة الشَّفْعِ؟ أين الزعامات العربية التي تبيع الماءَ والغازَ والاسمنتَ خفيةً لإسرائيل لمساعدتها على بناء الجدار العازل كأنّما الفلسطينيون وباءٌ فتّاكٌ لا بدّ من مُحاصرتِه حتى لا يتفشّى في المنطقة بأكملها؟
ماذا يفعل شعبٌ مُحاصرٌ بفعل سياسات خاطئة غير أن يموتَ؟ إنّي أسمع أنينَ طفلٍ فلسطينيّ جريحٍ يصرخ بما بقي فيه من أنفاسٍ "لا تبكوا عليَّ أيّها العربُ، وفِّروا على أنفسكم عناءَ ملوحةِ الدُّموعِ، فأنا رؤوف بكم رحيم، اُبكوا على أحوالكم يا أحبابي" ...
عبد الدايم السلامي
التعليقات (0)