ما الذي يربط بين المسافر، والقطار الذي يركبه ؟ لا شيء، حقيقة لا شيء، يلتمس المسافر مقعدا مريحا قدر الإمكان، يرفع بصره لينظر بلا مبالاة إلى مجموعة من الوجوه أحاطت به منها الجميل ومنها الدميم، منها المبتسم ومنها العابس، منها الصغير ومنها الكبير وفي جميع الأحوال لا يهمه إن وجدت هذه الوجوه أم لم توجد فما هي بالنسبة له سوى ديكور قد يكون أنيقا أو لا يكون لقطار سفره، تارة يصطدم به مار عن قصد أو عن غير قصد، وتارة يشعر بالملل والسآمة من طول الرحلة، وتارة يتطلع من نافذة القطار إلى عالم لا ينتمي إليه بحال من الأحوال .
بمثل هذه العلاقة كان يرتبط غريب بالدنيا، فقد ولد وحيدا في إحدى قرى الريف المصري، فأرضعته الطبيعة من عذب نقائها فهام بخضرة الزروع وزرقة السماء، تعلم من طيور الحقول كيف يحلق عاليا في سماء الخيال فينسج خيوط أحلامه بأشعة القمر المتربع على عرش ليالي الصيف الحالمة، علمه أبوه أن الحق لا يتجزأ وأن الفضيلة كساء الأنقياء، وقالت له أمه لا تعص الله إلا في مكان لا يراك الله فيه فشب كما يشب الأسوياء، بدأت أنامله الصغيرة تمسك بالقلم فخشي أن يضعه على الورقة حتى لا تسود صفحته البيضاء؛ ولكنه سرعان ما اكتشف أن سواد القلم هو الذي يظهر بياض الصفحة، وأن حياته ما هي إلا مجموعة من الخطوط تستقيم حينا وتعوج أحيانا.
تعلم أن السيف حين يضرب بالمطرقة فإن ذلك لا يزيده إلا حدة وصلابة وأن الذهب حتى يصير نقيا لا يخلصه من شوائبه إلا أن يصهر في النار، فاقتحم خضم الحياة بنفس مشتاقة إلى المعرفة، إلى الحقيقة، من أنا ؟ من أين ؟ وإلى أين ؟ تأمل .. وتألم، واجه .. ووجه،نافس .. ونوفس، حارب .. وحورب، انتصر .. وانهزم، أحب .. وكره.
وفي النهاية أخيرا وصل إلى الحقيقة، تأكد له أنه في هذه الدنيا … غريب.
التعليقات (0)