مواضيع اليوم

غروب...بلا شروق

بدر الشبيب

2010-07-09 12:20:47

0

 غروب...بلا شروق

 

نظرت إلى الأفق البعيد، خلف مياه البحر الشاسع ليمتزج لونه الأزرق الماسي بشعاع الشمس الذهبي لتنعكس دفئا وراحة للناظرين...استنشقت بعمق تلك النسائم النقية ...لتداعب خصلات شعرها الأسود الفاحم ...دغدغت هذه النسائم أحاسيسها ومشاعرها المتوهجة فرحا وسعادة فهي في حالة قصوى من النشوة والاغتباط . فمن سيلوم فرحة ناجحا بتخرجه...تملاها الأحلام لمستقبل جديد. فكل ما في حياتها سيتغير عن قريب، ستحظى بوظيفة مرموقة وستساعد عائلتها التّي ضحت من اجلها بالكثيرلتسطيع إكمال دراستها الجامعية.

 فقد كانوا يتطلعون شوقا إلى تخرجها لتمسح عنهم ذلّ الأيام وقسوة الزمان..ها قد مرت تلك السنوات كوميض البرق كأنها امغاث أحلام ...هاهي الفتاة الصغيرة البريئة قد اشتدّ عودها واحتدّت نظرات عينيها الخضراوين الساحرتين لتعزف أنشودة الجمال الاهي و تأسر قلب ادم...فقد وهبها الله ميزات حوريات الجنّة من كمال الجسد وجمال الرّوح، فطيبتها من سماتها وتواضعها من حسن أخلاقها صفاء نيتها من شيم تربيتها. لقد انتظرت طويلا موعد مقابلة العمل في تلك الصحيفة المرموقة والتي تعتبرها مثلها الأعلى في مجال السلطة الرابعة ، كما أنها تنتظر شوقا مقابلة رئيس التحرير الذي تنحني له جميع الأقلام لما يتميز به من جرأة مقالاته السياسية الفكرية التي تنم عن شخصية فذة ومثقفة .

توجهت بخطى ثابتة نحو مقر الصحيفة، ولم تمر سوى لحظات حتى ولجت مكتب رئيس التحرير وهو مكتب يدل على وجاهة صاحبه وعظمة مكانته.

-       آنسة مريم تفضلي بالجلوس.

كاد قلبها أن يتوقف من شدة الاضطراب- ما ألطف أسلوبه – هكذا تبادر في ذهنها في تلك اللحظة، لكنها تساءلت لاحقا إن كان يعرفها لشدة نظراته وتطلعاته من تحت نظارتيه. ربما هي نظرات استكشاف لمدى ثقتها بنفسها و استعدادها الذهني و النفسي للعمل.

اتفقا على تمضية فترة تدريب لمدة أسبوعين كمرحلة أولى –هاهي أبواب المستقبل فتحت على مصراعيها دون عناء. أزف موعد الأخبار السعيدة إلى أهلها. سلمت عليه بلطف لكنه ضغط على يدها الغضة بكل قوة- ماذا يقصد من ذلك؟- هل وراء هذه الحركة معنى آخر- تبادرت في ذهنها جملة من الأسئلة زادت من ارتباكها وقلقها...تجاوزت تلك اللحظة بصعوبة وغادرت مقر الجريدة والهواجس تعتريها..............

-ما رأيك أن نشرب قهوة هذا المساء و نتحدث عن مقالك الأخير؟

وافقت على هذا الاقتراح ظنّا منها أن المثقفين أمثاله لا يتحدّثون سوى عن شواغل العالم والسياسة وعن الاقتصاد والوطن..ظنت أن الحديث سيكون شيّقا وسيتيح لها التعرف على وجهات نظر لمثقف صاحب رؤية علمانية ليبرالية متحررة، كم يحتاج هذا الوطن لأمثاله من المفكرين، ركبت معه في سيارته السوداء الفخمة، ووصلا إلى مقهى بإحدى المدن الساحلية، جلسا قرب النافذة المطلّة على البحر..لطالما أراحها منظر البحر المنبسط كأنه صورة زيتية انسكب فيها اللون الأزرق فقط..لكن لماذا اليوم يبدو هائجا مضطربا و لما طيور النورس تحلق فوقه كأنها تستشعر بموت احدهم أو بكارثة ستحل عما قريب. شعرت بالخوف لأول مرة من البحر لمنظره المخيف لقد تحولت الوداعة إلى قسوة و شدة وتغير لونه الأزرق النقي إلى سواد وكراهية...كأنه إنسان عندما يغضب و يخرج الزبد من جوفه ...لكنه سيهدأ بلا ريب وسيعود إلى صفوته.

اقترب بكرسيه منها فتشابكت الأقدام تحت الطاولة ..شعرت بالخجل الشديد وحاولت الابتعاد لكنه لف ساقيه ومنعها من التحرك ..ماهذا التصرف؟ لماذا تغير الوضع في لحظات ؟ الم يكونا منذ لحظات يتحدثان عن الدور الأمريكي في زعزعة استقرار العالم العربي من خلال نظرية الفوضى البناءة ونجاحها في تحقيق هذه الفوضى داخل الأنظمة العربية بل أصبحت تهدد لعملية بقاءها  واستمرارها.

الم يخبرها آن القضية الفلسطينية هي قضية امّة بآسرها – وحلّ هذه القضية سيأتي بلا ريب لان التاريخ قد اثبت أن كل الأنظمة بلا استثناء  مالها الزوال والانهيار وان الدول تبعث من جديد كحال الإنسان.

أين حماسه المتقد أثناء حديثه عن بناء نظام عربي موحد أو اتحاد عربي حقيقي قادر على مضاهاة الاتحادات الغربية..عندئذ سيتمكن من اتخاذ قراراته المصيرية في الشأن العربي والعالمي.

الم يوضح لها منذ قليل أن الكيان الصهيوني هو مرض التاريخ المعاصر وقد انجر عن هذا المرض الخبيث أوبئة ومجاعات وحروب وماسي..أصابت الجسد العربي بمرض عضال يستعصى معالجته على الأمد القريب..........

أين جرأة حديثه؟ لماذا تحول من رجل يحترم مبادئ العالم المتقدم ويتشبه بهم إلى رجل أميّ تقوده غريزته الشهوانية وتركعه أمام هذا الجسد الفاني. نهضت بقوة والتفتت للمضي قدما لكنه امسك بيدها بعنف ..

-       "لن تزاولي عملك كصحفية إن لم تتنازلي عن كبريائك، وضعي مستقبلك المهني أمام عزة نفسك".

لم تتمالك نفسها أمام هذا التجريح ..لا بد انه فقد صوابه كيف يطلب منها ممارسة الجنس؟ وهي التي لم تفرط في شرفها يوما..إن كان يظن أن عقليتها المتفتحة والمتحررة في الفكر قد تبيح له تجاوز الأعراف و كل الخطوط الحمراء...فقد اخطأ التفسير والتأويللأنها لازالت تلك الفتاة الشرقية المكبلة بقيود الأعراف والتقاليد التي تنتظر الرباط المقدس لدخول "الدنيا الحقيقية" هكذا تربت منذ نعومة أظفارها، علموها أن جسدها لزوجها فقط ولا يحق لأحد غيره بلمسه. واخبروها أن الزواج هو رباط قدسي بل هو توحد روحين في جسد واحد..لتصبح هذه الأفكار جزءا من عقيدتها ومبدأ من مبادئها الفكرية والروحية..فهل يستحق مستقبلها المهني هذا التنازل الأخلاقي و تضحي بشرفها وشرف عائلتها...امتلاها الغضب تجاهه-فترجمتها بصفعة دوّى صداها أرجاء المقهى، وقف من شدة الذهول لهذه الحركة المفاجئة..نظرت إليه باحتقار شديد وتحولت تلك العينين البريئتين إلى عين لبؤة مليئة الغضب...غادرت المقهى بكل غرور ...وعيناها تشعان براءة وعزة وكرامة...

                                      

حضرت حقائبها وجهزت أوراقها للمغادرة ..عانقت عائلتها واخفت دموع الفراق..وحاولت ان تتظاهر بالسعادة ..وان لم يبدو عليها كذلك..أخيرا وجدت عقد عمل خارج وكر الوطن، لقد لفظها هذا البلد إلى أحضان الغربة..ودفعها قسرا إلى الهروب منه..لقد انغلقت أبواب الرحمة ولم تجد سوى الصدّ ..فلا تهم المؤهلات العلمية دون تنازلات أخلاقية أو دون دفع ضريبة العمل أموالا كانت أو أعراضا...هكذا أدركت أخيرا حسابات الحياة العملية بهذا الوطن..فما من سبيل غير الرحيل.. والنسيان...

استقلت سيارة أجرة وتوجهت نحو المطار..وفتح السائق التاكسي الراديو ..وامتلأ الجو بنفاثات الدخان الكريهة...و علا صوت الراديو وتشابهت الأصوات كان هذا الصوت مسجل بذاكرتها..."إن المرأة هي نصف هذا المجتمع وبناء عليه يجب توظيف هذه القوة البشرية لتعزيز المكانة الاقتصادية للوطن..واني أناشد جميع الرجال إن يحترموا قدرة المرأة الفكرية ويحسنوا توظيفها في المنظومة العملية لتحقيق التنمية الاجتماعية..أليس هو ...بلى ..انه لرئيس التحرير الذي أصبح وزيرا للإعلام هاهو يتجاسر ويتحدث عن القدرة الفكرية للمرأة..هل سيتحدث عن الجسد..وعن الشهوة الحيوانية للرجال فبسببه وبسبب أمثاله حرمت من تحقيق أهدافها في وطنها ومنعوها من الحلم بقدوم الغد..هاهي تشد الرحال لتبحث عن يوم جديد يستوي فيه الليل والنهار لأنها لم تشاهد في وطنها سوى سواد الليل الحالك و الظلمة العمياء...

-اطفىء جهاز الراديو من فضلك.

هكذا نطقت كلماتها الأخيرة بهذا الوطن ...و التفتت لتشاهد لأخر مرة شوارع مدينتها،  الكل يجري بحثا عن الغد..لكنه لايزال بعيدا لان أصحاب اليوم هم أصحاب الغد..ولان الشمس تشرق من الغرب وتنسى أهل الشرق الذين يتسترون بسواد الليل ...فأصبح نهارهم ليلا وغروبا بلا شروق..........

سناء محيمدي




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !