غربة - جزء سادس
وأكمل الحاج قائلاً والجميع مشدوه بما يسمع بأن الجميع كان على أرضية الدوار ملقي حول المنزل وكأنهم خراف مذبوحة لقد رأى البعض منا ما حصل لهذه العائلة المنكوبة، منذ ذلك الوقت أصبحت القرية في خوف دائم أصوات النحيب تُسمع في الليالي المظلمة لا أحد يعرف لها مصدراً فيُقتل أحد أولاد الحاج ذبحاً أو أحد أحفاده إلى أن أُبيدوا عن بكرة أبيهم ولم يتبقى منهم سوى فاطمة تلك الفتاة التي أحبت سالم وبيومٍ عاصف شديدُ المطر شاهدها البعض وهي تُلقي بنفسها في البئرِ المجاور الذي أُلقيت به جثة سالم
كنت أسمع قصة الشيخ وأنا مشدوهاً بما يقصه الشيخ غير مصدق وأحسب نفسي أستمع لقصة من قصص ألف ليلة وليلة، أسطورة تناولها الأولاد عن الأجداد لكن الشيخ عاصرها بكل أحداثها وأبنه عبد السلام رأى بعض من نهايتها المفجعة حسبما يقول
- من بقي يا عم من عائلة الحاج حسين هذا على قيد الحياة
- ابنة تزوجت من عمدة أحدى القرى البعيدة، لكننا لم نراها ولم نسمع عنها أبداً بعد ذلك
- هل تظن بأنها قد قتلت أيضاً
- لا إعلم ذلك .. فكل الذين قتلوا كنا نراهم مذبوحين بأرض البيت هناك (و أشار صوب المنزل) وجميلة هذه لم تطأ قدماها أرض القرية ولم نراها بين الأموات الذين كنت أشارك بدفنهم والصلاة عليهم
- إنها قصة غريبة يا عم، ولكن هل تذكر أسم القرية واسم العمدة أي زوج جميلة ابنة الحاج حسين
- أعتقد بأن أسمه الحاج عارف عبد الرحمن وهو من قرية صغيرة أسمها الخطارة .. نعم قرية الخطارة
- حسناً يا عم وأهل سالم من أي قرية هم
- لا أدري يا ولدي فأنا لم أحادثه أبداً إلا مرة واحدة اختلفنا بها على سقي الأرض، فنصره الحاج حسين عليَّ ومن يومها ....
كان علينا العودة إلى المدينة حيث أن موعد الليل قد اقترب دنوه وكان من الطبيعي أن لا نجد سيارة تقلنا من هذا المكان البعيد عن العمران لذا طلبتُ من الشيخ أن يسمح لنا بالرحيل لكنه أبى مصراً على بقائنا وتناول العشاء وأقسم بأغلظ الأيمان، فأوضحت له بأننا قد أتينا بسيارة أُجرة وبأننا لن نجد سيارة تقلنا إلى المدينة فيما لو تأخر الوقت أكثر من ذلك لكنه أصر على أن نبقى لصباح يوم الغدِ أي أن ننام عندهم
كان الموقف شديد الحساسية فهم كما فهمت من العم عبد السلام قد جهزوا لنا "أنا وزوجتي المزعومة" غرفة تليق بنا وعملت النساء على تعطيرها بعد فرشها بملآءآت جديدة وخلافه
أحضر لي سليمان أبن العم عبد السلام جلابية بيضاء ناصعة اللون بعد انفضاض المجلس وتوجههم بي إلى داخل الدار قائلاً:
- والدي أرسل لك هذه كي تستطيع أن تأخذ راحتك بها بدلاً من الملابس التي تقيدك يا أستاذ ،،، أجبته ضاحكاً
- حسناً يا سيد سليمان ولكن ما أدراك بأن ملابسي تقيدني
- يعني .... الجلابية برحة ولكن هذه الملابس تبدو ضيقة بعض الشيء أليس كذلك
- هذا صحيح، أخبرني يا سليمان ألا تذهب للمدرسة
- لقد أنهيت الإعدادية منذ فترة وأنا الآن أساعد والدي بالغيط
- الآ تذهب أنت وأصدقاؤك إلى المنزل القديم المشرف على القرية
- بعض الأحيان ولكننا لا نسمع شيء مما يقوله جدي هناك
- حسنا ألم ترى أنت أو أصدقاؤك أي شيء منذ فترة قصيرة
- تقصد ما جرى من شهرين تقريباً، نعم لقد جاء منصور يركض مذعوراً ويقول بأن الأشباح عادت للظهور مرة أخرى
- كيف ذلك ولماذا قال هذا
- لقد رأى امرأة ميتة بنفس الطريقة التي أخبرنا جدي بها، كان ذلك بعد صلاة العصر بقليل، فتوجه جدي برفقته أعيان البلد إلى هناك ومن ثم رأينا بعض أفراد الشرطة يسألون عن منصور الذي كان يصيح من شدة خوفه، أشباح حتى أن أولاد القرية لاحقوه وهم يحسبونه مجنون، أخذته الشرطة ولم يعيدوه إلا في اليوم التالي
- كيف أستطيع رؤية منصور هذا
- هو يعمل لدى والدي في الغيط أتود أن أناديه لك
- نعم ليتني أستطيع محادثته يا سليمان
- سوف أذهب لإحضاره إليك يا سيدي
لبست الجلابية التي بدت طويلة بعض الشيء ولكنها بدت مريحة حقاً كما قال سليمان وخرجت بعدها إلى فناءِ الدار وكان عبد السلام يجلس في الفناء يحادث بعض الأشخاص وما أن رآني حتى انتصب واقفاً وقال: نعم هكذا يا رجل خذ راحتك فأنت ببيتك وبين أهلك، شكرته وجلست قربه أستمع لتوجيهاته التي كان يلقيها لرجاله الذين كانوا يعملون في أرض أبيه وعندما انتهى منهم التفت نحوي يسألني عن طبيعة عملي ومن أي البلاد أنا فأخبرته النذر القليل عن نفسي مما هو بحاجة لأن يعرفه عني، اعتدل بجلسته قائلاً:
- لماذا أنت مهتم بحكاية هذا البيت، هل تود شراءه
- لا، ولكن هل هو معروض للبيع؟
- لا بالطبع نحن لا نعلم له مالك
- كيف إذن أستطيع شراؤه؟
- من الحكومة بالطبع، نعم هو الآن من الأراضي الأميرية
- ولكن جميلة ابنة الحاج حسين ربما لديها أولاد أو أحفاد ولهم الحق بهذه الأرض
- معك حق ولكن هذه الأرض ومنذ حوالي الخمسون عاماً لم يطالب بها أحد ولو بقي أحداً منهم على قيد الحياة لأتى مطالباً بحقه، المنطق يقول هذا أليس كذلك
- نعم .... نعم معك حق بالطبع
- ها هو منصور (جاء الصوت من ورائي)
التفت إليه كان رجلاً بالعقد الرابع من عمره قصيراً بعض الشيء يرتدي جلباباً رمادي اللون صبغته رمال الحقل وطينه بالحمرة في بعض أجزائه مبتسم يبدو عليه قليل من البله ،،، قال عبد السلام
- هه .. كيف حالك يا منصور
- بخير يا حاج
- كيف الغيط والزرع
- كله تمام يا حاج
- ماذا ورائك يا منصور ما الذي تريده (مستلماً دفة الحديث )
- أنا استدعيته يا حاج عبد السلام بعد إذنك
- بيتك يا راجل تفضل
- أقعد يا منصور (جلس منصور متربعاً على أرض الفناء) أخبرني ماذا حصل معك عند البيت منذ شهرين
اختفت الابتسامة عن وجه منصور وابتدأت أساريره توحي بالخوف والرعب منظره كان يوحي بما رآه هناك، طمأنته وساعدني الحاج عبد السلام بذلك واعداً منصور بأن يعطيه وزة عند العشاء إذا أخبرني بما رآه
- بطة يا حاج (منصور ينظر إلى عبد السلام والشك ينتابه)
- نعم جوز بط يا منصور (أجابه الحاج عبد السلام)
- حسنا (وهو ينظر يميناً ويساراً والخوف واضح على قسمات وجهه ) كنت نائماً عندما جاءتني عديلة بالغداء وعندما أفقت من نومي لم أجد سعاد فتشت عنها بكل مكان ولكني لم أجدها سألت عنها حمودة ( مستوضحاً منه من سعاد هذه ) فأجاب الحاج عبد السلام ضاحكاً
- بقرته يا سيدي .. بقرته أسمها سعاد
فوجدت نفسي أضحك ملئ شدقي، أهـ لو كانت سعاد هنا تسمع ما يقال الآن لماتت من الغيظ في الغيط
- نعم أكمل يا منصور (ودموع عيناي تتساقط من ضحكي) أكمل
- أين كنا أهـ نعم سألت عنها حمودة (موضحاً) حمودة هذا ابني يا سيدي فأشار لي صوب البيت القديم، جريت خلفها علي ألحقها خوفاً من أن تقع قدمها في البئر القديم بجانب المنزل وعندما رأيتها من بعيد انشرح صدري واطمأننت (تبدلت سحنته هنا وانقلبت أساريره رعباً) رأيت يا سيدي قرب سعاد حرمة نايمة لكن لما قربت منها وشفت الدم على صدرها عرفت إنها منحورة وعندها نسيت سعاد وجريت من خوفي إلى البلد لأخبرهم بما رأيت
- ألم ترى أي شيء آخر يا منصور
- زي إيه يعني
- يعني رجلاً قي القرب منهم
- مذبوح؟
- لا أعني ..... (عبد السلام موضحاً عني)
- البيه يا منصور يقصد ما شفتش حد غيرها في المنطقة قبل ذلك أثناء بحثك عن سعاد
- لا يا حاج ولكن كان في سيارة تقف قرب البيت
- آهـ (معتدلاً في جلوسي) لونها إيه يا منصور شكلها، هل قرأت لوحة أرقامها
ضحك عبد السلام قائلاً:
- إنه لا يعرف ما القراءة ولكن لونها ممكن أهـ ما لونها يا منصور
- سوداء يا حاج وكانت متسخة يملؤها الطين
- ألم ترى بداخلها أحد
- يا سيدي أنا عندما رأيت ما رأيت ألقيت نفسي في مهب الريح صوب البلد
- (موجهاً كلامي لعبد السلام) ألم تروا السيارة عندما ذهبتم إلى هناك
- لا لم يكن هناك شيء أبداً
- سيارة سوداء يعلوها الطين من كل جهة ، هل تذكر يا حاج إن كان يوم مطر أم لا
أجاب منصور عن الحاج قائلاً :
- كان المطر على ما أذكر شديداً طوال الليل ولكن في الصباح أشرقت الشمس، أذكر هذا لأنني توجهت للغيط فرحاً وأخذت معي حمودة الذي يحب اللعب تحت أشعة الشمس
- وحمودة ألم يرى شيئاً
- حمودة عمره ثلاث سنوات يا بيه
وضحك منصور عندما شاهد جوز البط بين يديه وقام يرقص جذلاً ويقبل يد الحاج عبد السلام، أخذ منصور جوز البط واعداً نفسه وأهله بوجبة دسمة في هذه الليلة المقمرة ليلة الجمعة
ابتدأ الظلام يخيم على المكان، فما أن بدأت الشمس بالغروب حتى تسارع الظلام وأصبحت الأشجار البعيدة تبدو للناظر مثل الأشباح وابتدأت البيوت تشعل قناديل الزيت والكاز ... فليل الريف مازال عذري تشوبه لمساتٍ من الماضي الجميل الذي أعشق سحره، أين هذا من ليالي الغربة الصاخبة وضجيج السيارات التي تصم الأذنين غير الهواء الملوث والمليئ بما يذخر من أتربة، وهنا هدوء لم تعتاده أذناي منذ أمد بعيد، وأفاق لم تألفها عيناي تمتد أمام بصري ... سعاد في مكان ما لست أدري أين هي ولكن الحاج عبد السلام طمأنني أنها مع نساء العائلة اللواتي يُحضرن العشاء، ويعدن المائدة للرجال، دوى صوت المؤذن في القرية يعلن عن صلاة المغرب فتوجه كل منا للوضوء ومن ثم إلى مسجد القرية القريب الذي بقينا به نتدارس بعض الآيات القرآنية شرحها لنا شيخ المسجد حتى صلاة العشاء
بعد الإنتهاء من صلاة العشاء عُدنا أدراجنا إلى الدوار حيث وجدنا سماط الطعام ممدوداً يضم ما ذُبح من بط ووز وحمام وغيره من أصناف الطعام الشهي ورأيت عندها سعاد وهي تنظر إلي من نافذة المنزل وهي تضحك لشكلي في الملابس الجديدة، أهـ كم أتوق لأن أحدثها عن بقرة منصور "سعاد" وبعدها فالتضحك ما تشاء
إمتدت الأيدي إلى الطعام وفي مقدمتنا الشيخ أبو عبد السلام الذي أخبر الجميع بأن هذه المائدة هي على شرفي
ومن بعده شربنا الشاي وابتدأت سهرة إمتدت حتى قبيل منتصف الليل بقليل تناولنا بها أحاديث شتى من هنا وهناك وابتدأ القوم ينسلون كل بدوره للنوم وعندما رأيت الحاج عبد السلام يتثاءب وقفت لأشكره على هذه السهرة اللطيفة التي أمضيناها معاً وبأن النعاس يداعب عيناي فاصطحبني إلى غرفة داخل داره قائلاً:
- البيت بيتك يا ولدي ونحن كلنا هذه الليلة ضيوفك تفضل على الرحب والسعة وخذ راحتك
دخلت الغرفة وأغلقت الباب على نفسي ولسان حالي ينطق بالشكر على ما بذلوه من أجلنا، التفت ورائي وإذ بسعاد جالسة على طرف السرير تنظر إلي وهي تبتسم فرحة ... فما كان إني إلآ أن وضعتُ راحة يدي على فمي عندما شاهدتها خوفاً من أن أضحك بصوت عال لما تذكرته عن بقرة منصور
- ما بك ألم يعجبك فستاني الجديد (واقفة لتريني ما ترتدي)
- أهـ حتى أنت ألبسوك هذا الثوب الجميل ولكن ماذا فعلت بشعرك
- جدلته كما يفعلون هنا، جميل؟
- نعم جميل والآن كيف سنتدبر أمر النوم .. معاً؟
- عادي .... أنا سأنام على السرير بينما تنام أنت هنا (مشيرة إلى أرض الغرفة)
- حسنا لا بأس بهذا أطفئي السراج من فضلك
- أهكذا .. تَعِبٌ أنت لهذه الدرجة (بدلال وغنج وهي تمسك جدائلها بيدها)
- لا ولكن القوم هنا يصحون مبكرين فلا يصح أن نبقى نياماً
- لما؟
- لا أدري ولكن أظن بأنه ليس من اللآئق أن ندعهم ينتظرون قيامنا لفترة طويلة
- حسناً ماذا وراءك من الأخبار، هل عرفت شيء يفيد القضية التي جئنا من أجلها؟
فأخبرتها عن قصة الحاج حسين وسالم وقصة البقرة الضائعة التي أسماها منصور بسعاد، فقامت إلى النوم وهي مغتاظة من منصور هذا الذي لا يعرف كيف يسمي أبقاره
أنزلت فتيل السراج قليلاً فأصبح الضؤ خافتاً ومن ثم استلقيت وظهري يقابل السرير الذي نامت عليه سعاد بعدما جهزت لي فراش على أرضية الغرفة وأطلقت سبيل النوم لعيناي ألتمس الأحلام وما شعرت إلآ والديكة تصيح وكأنها تزمجر عند الفجر، فتحت النافذة المطلة على فناء الدار بعدما أشعلت لفافة تبغ ونظرت إلى سعاد التي تغط في نوم عميق، شعرت بشيء من السرور يسري بجسدي، إنها تثق بي ولهذا تراها نائمة وكأنها طفل صغير، غطيتها بلحاف وجدته على طرف السرير حينما أحسست بالبرد ينساب من النافذة التي فتحتها فرأيتها تتململ وتفتح عيناها قائلة دعني نائمة قليلاً يا أحمد فلم أرد عليها وخرجت إلى الفناء بعدما سمعت صوت عبد السلام ينادي على أبنه سليمان
- صباح الخير يا حاج
- صباح النور، صباح الورد يا أستاذ أحمد
- كيف أصبحت يا حاج
- بخير من الله تعالى
- أين الشيخ الوالد
- في المسجد، يبقى لقراءة القرآن حتى طلوع الشمس
- بارك الله لنا ولكم به يا حاج عبد السلام
- (منادياً أبنه) يا سليمان اللبن يا ولدي
- (جاء سليمان وبين يديه طاسه اللبن) ها قد أتيت يا والدي
- كيف حالك يا سليمان
- بخير يا سيد أحمد الحمد لله تفضل (مقدماً اللبن)
شربت بعضاً من اللبن الطازج اللذيذ وقدمت الطاسه للحاج
- هنياً يا سيد أحمد أكمل بالله عليك
- لا الحمد لله هذا يكفي
شرب الحاج و سليمان من بعده ومن ثم طلب الحاج منه أن يسرع لإخبار النساء لإعداد الإفطار
- صباحكم جميل يا حاج وسط الحقول والبساتين
- لا نستطيع العيش بعيداً عن أرضنا هذه، أنظر فكما ترى هناك (مشيراً إلى مقبرة القرية) هذه المقبرة تحمل بطياتها رفات الأجداد منذ قديم الزمن ولا أظن بأن أحد منا يستطيع الغياب عن أرضه التي يعرفها شبراً شبراً ... بها ترعرعنا ... زرعناها ومن خيراتها نعيش ... إلى أين نذهب يا ولدي إلى المدينة؟ وهل حياتهم أحسن من حياتنا؟ يا أستاذ أحمد دعني أقول لك شيء وصدقني إنه حقيقي .. إن ابن المدينة يتمنى هذه الحياة التي نعيش ... لكنه تربى على شيء آخر يعني إحنا مثلاً هنا .. إذا أردت تزويج ولدي سليمان الليلة فما يمنعني عن ذلك؟ لا شيء، خلال يومين أو ثلاثة يكون عنده بيت يؤثثه كما يشاء، سليمان إذا أراد التوجه لعمله لا تمنعه زحمة المواصلات ولا خلافه، لا مدير يتحكم فيه ولا باش كاتب ولا من يحزنون، حر بأرضه يزرعها يقلعها زي ما هو عايز أما يا عيني أبن المدينة لو حب يتزوج .. هيه حلني بقه ألف مشكلة تطب على رأسه من سكن وعفش ومهر وشبكة وحماة متفقة مع مديره يطينو عيشته ومواصلات وحاجات كثيرة يا استاذ أحمد، لا .. يكفي إنحنا هنا لا ندفع إيجار ولا عندنا طابور جمعية ولا خلافه فلسفة بسيطة جداً تحل مشاكل الشباب المعقدة من أهل المدن، ما الذي يدفع إذن بأهل القرى للذهاب إلى المدن أهو الانبهار بالحياة هناك لا أدري
كنت أستمع للحاج وهو يكلمني عن فلسفته البسيطة هذه ورأيه بالحياة ويؤكد على صحة كلامه كلما رأى التعجب والاستغراب يبدوان على محياي
سمعت صوت من ورائي يدعوني، وإذ بها سعاد وقد استيقظت من نومها وتريد محادثتي في أمر ما فأستأذنت الحاج ومضيت إلى غرفتي
- متى الرحيل (بعصبية واضحة)
- صبراً يا سعاد فالوقت مازال مبكراً
- ما بال هذا الرجل يحاول إقناعك بالحياة معهم وربما أغراك أيضا بالزواج بابنته، بنت القرية التي لا تكلفك شرو نقير ويمكن كمان يبني لك بيت من الطين
- ما بك يا سعاد (ضاحكاً) أهي غيرة أم ماذا، الرجل يبدي لي رأيه وأنا حر بأن أوافقه عليه أو لا أوافقه ولكن في الحقيقة كلامه معقول
- حسنا لتبقى أنت هنا إذن سأبدل هذه الملابس وأذهب في طريقي إلى المدينة
- أبقي على الأقل لتناول الإفطار
- (الشرر يتطاير من عيناها وهي تصر على أسنانها) اطلع بره
خرجت من الغرفة ضاحكاً حتى بدت نواجذي كما يقال فأستقبلني الحاج مبتسماً
- أسعدك الله يا أستاذ أحمد وأبقاك ضاحكاً طوال العمر، أضحكنا معك يا راجل
لم أدري ما أقول له لكنني رأيت نفسي أقول له دون تفكير
- سأصبح والداً يا حاج .. نعم سأصبح والداً
- ألف ألف مبروك يا ولدي ألف مبروك، هذه بشرى خير الحمد لله يا أم سليمان (منادياً زوجته التي أسرعت نحوه)
- أمرك يا حاج
- الست الهانم سعاد عليك بها فهي ستصبح أم راحت أم سليمان تطلق الزغاريد وماهي إلا ثواني حتى سمعنا الزغاريد تطلق في كل بيوت القرية القريبة، يشاركون الفرحة حتى قبل معرفة ما الخبر هذه هي عادات القرى البسيطة الجميلة، ولكن يبدو أنني أوقعت نفسي بفخ لم أدري ما أبعاده لأنني عندما انتبهت لنفسي هالني ما قلت وعرفت بأنني قد أخطأت ولا سبيل لإصلاح الخطأ أمام هؤلاء القوم الطيبين، جاء سماط الطعام المليء بالفطير المشلتت والعسل والبيض والجبن البلدي وأصناف كثيرة لم تعدها عيني الخجولة من كرم أهل البيت وعندما انتهينا من طعامنا طلبت من الحاج الإذن بالانصراف والعودة للمدينة خاصة وأن الساعة قد أقبلت على التاسعة والنصف صباحاً وبأن علينا التوجه بعد الأقصر إلى أسوان، دخلت الغرفة التي خرجت منها سعاد لست أدري إلى أين وغيرت ملابسي وأصبحت مستعداً للعودة إلى المدينة، كانت سعاد قد غيرت ملابسها وعادت ترتدي الملابس التي جاءت بها معي وورائها فتاة تبلغ العاشرة من عمرها تقريباً تحمل بيدها صرة ملفوفة وعلى رأسها سلة لا أدري ما بها، ودعنا الحاج عند الطريق المؤدي للأقصر بعدما أوقف لنا سيارة أجرة وأوصاه بنا خيراً في طريق العودة الذي لم يستغرق طويلاً لاحظتُ بأن سعاد لم تتفوه بأي كلمة منذ أن غادرنا القرية، أهي غاضبة يا ترى مما سمعته مني ومن الحاج عبد السلام أم أنها الكذبة التي ألقيتها دون قصد مني وعندما وصلنا إلى الفندق دفعت أجرة السيارة بينما كانت سعاد متوجهة إلى غرفتها، طلبت من الحمال الصعود بالأغراض إلى غرفة سعاد وذهبت إلى غرفتي
التعليقات (0)