غادرتُ القطار بعدما توقفَ على الرصيفِ المخصص له، ووقفت لمدة تزيد على العشرة دقائق في مكان قرب الرصيف أتابع الناس من حولي، لا شيء بهذه المحطة يختلفُ عمَّا رأيته في المحطة الرئيسية إلا انها أصغر حجماً، ويُخيل إليَّ أن الناس هنا هم نسخٌ عن الذين رأيتهم في القاهرة، الوجوه تتشابه تبشُ للقادمين وترحِب بهم ... تودع المسافرين وتحزن لفراقهم ... وهذا شأن محطات السفر في العالم وكأنها خُلقت للألمِ والسعادة في آنٍ واحد، والباعة منتشرين هنا وهناك على الأرصفة ينادون على بِضاعتهم ويتجولون بين الناس يحثونهم على الشراء ... كم من الأنين يُسمع هنا وكم من الدمع المراق على الرصيف ... وفي مكان ليس ببعيد تصطف سيارات الأجرة تنتظر الصيد الثمين .... لمحتُ سعاد وهي تُغادر القطار برفقة أخيها، كانت لا تزال تُخفي عيناها بنظارتها السوداء ولا أظن بأنها قد رأتني ... لم أراها تتلفتَ صوبَ المكان الذي أقِف به، متشاغلة مع من كانت تخبرني أنه صديق ... أخاها .. ألآ ليته كان صديق؟ يتحادثان في شأنٍ ما ... لبُرهة بدا لي من طريقة كلامها أنها غير موافقة على شيء ما لا أدري ما هو
وفيما هما متوجهان إلى خارج المحطة إلتفتت سعاد صوبي تُشير إليَّ بيدها مودعة، فوجئت بها تفعل هذا ... إن كيدهُن عظيم، كيف رأتني ولم تلتفت من قبل إلى صوبي؟ .... لم يكن بوسعي الردَّ عليها إذ أنها سرعان ما اختفت وراء الحاجز الإسمنتي الموصل لسيارات الأجرة ... كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة والنصف عندما توجهتُ بدوري إلى خارجِ المحطة، ألقيتُ حقيبتي بأول سيارة أجرة صادفتها وأطلعتهُ على العنوان الذي أريد قصده على أن نمرَّ أولاً على فندق من الدرجة الأولى ... كان يبدو لي إن هذه المدينة تتسم بطابعها الريفي سواء من ناحية عمارتها أو تصرفات من أراهم من أهلها وهذا ما يُفترض بمدينةٍ تُحيط بها الحقول والبساتين كما الآثار من كل جهة بينما يشق النهر الخالد الكبير وسطها فيُحيلها إلى جزأين شرقي وغربي، لم يُكن الفندق الذي قصدناه بعيداً عن مكان المحطة إذ سُرعان ما وصلنا إليه ... إذ أنه يقع على الجزء الشرقي من مدينة الأقصر، حجزتُ لنفسي غرفة تطلُ على نهر النيل بينما كنتُ أتابع تجمع لمجموعة من السائحين اليابانيين وهم متوجهين إلى الحافلة في طريقهم لزيارة منطقة وادي الملوك الذي يقبع على الضفة الغربية لنهر النيل وحيث إكتشف العديد من المقابر الملكية وأهمها مقبرة توت عنخ آمون الذي كان لإكتشاف مقبرته دوي عالمي في أوائل هذا القرن لِما حوته من كنوز وآثار عديدة ...وغيرها من مقابر لملوك وملكات توارثوا حُكم هذه البلاد الجميلة ... أترى يسعفني الوقت لزيارتهم؟
لم تكن غرفتي تخلو من اللمسات الفرعونية الجميلة وكأنها تخاطبني من الماضي العريق وتدعوني للتأمل وتحثني على زيارة المعالم الأثرية المنتشرة على أطراف المدينة لكن لم يكن لدي متسع من الوقت لذا إطمأننتُ على حقيبتي التي أدخلها الساعي إلى الغرفة وعدتُ أسرع الخُطى صوب سيارة الأجرة التي تنتظرني لنتوجه بعد ذاك إلى الجزء الغربي من الأقصر حيث يقطن صديقي جميل، لم يكن هذا السائق يختلف عن غيره من السائقين الذين صادفتهم خلال تجوالي في دول العالم الثالث التي أقصدها في بعض الأحيان للعمل أو السياحة ... الحديث لم يخرج عن كون الغلاء مستشري في كل شيء والعمل في كساد لكنه بدا أكثر إصراراً عن غيره في تفسير ما يريد إيصاله إليَّ
توقف السائق بنا مراراً ليسأل بعض المارة عن العنوان الذي أخبرني في محطة القطار أنه يعرفه جيداً، وفي النهاية وصلنا إلى وجهتنا في الثانية عشرة وأربعون دقيقة أي بعد حوالي أربعون دقيقة من البحث والتقصي، أنقدتُ السائق أجرته مع الزيادة التي طلبها مُعللاً هذه الزيادة بأنه استهلك الكثير من الوقود والوقت في البحث والتقصي عن المكان الذي اقصده، وما أن إنطلقت سيارة الأجرة بعيدة عني حتى أرخيت النظر لعيوني تتنقل بين العمارات التي صُفت على طرفي الشارع، وبدت هذه المباني مبنية على طراز واحد وكأنها مشروع إعماري لشركة واحدة، سألتُ أحد البوابين المتواجدين في الجوار عن الشقة التي أقصدها فأشار إلى العمارة الثانية على يمين الطريق وبدا لي أن المصعد يستلزم مفتاح للدخول إليه فأضطررت لصعود سلم العمارة قاصداً الدور الثالث حيث يسكن صديقي، أربع شقق واحدة منها لجميل يبدو أن شقته تحمل الرقم 10 لأنه لا يوجد عليها ما يؤكد إسم صاحبها كما الشقق الأخرى، أصلحت من هندامي والتقطت أنفاسي فيما وضعت إصبعي على مفتاح الجرس الذي أطلق نغماته الموسيقية معلناً عن وصولي، نعم .. أذكر ذلك اليوم الذي توجهت به وجميل لشراء جرس المنزل هذا فقد كان معجب بأنغامه العذبة وهنا تأكد لي أن هذه هي شقته لذا شعرت بالراحة تنساب إلى نفسي عندما سمعت صوت المفتاح يدور في القفل وصوت امرأة تسأل عن الطارق؟
- أنا المهندس أحمد صديق جميل ... صديقه من الكويت
- مين جميل؟ (أجاب صوتها متسائلاً )
- جميل مصطفى حسن ،، يبدو أنها حريصة بعض الشيء وهنا فتح الباب وظهر على عتبته رجل يبدو في أوائل العقد السادس، يرتدي جلباب أبيض أجاب قائلاً :
- أيوه يا أستاذ .. أعتقد بأنك غلطان بالشقة
وأخبرني بأنه لا يعلم من هو جميل هذا ولا يظن بأن أحد من سكان العمارة أسمه جميل، أريته العنوان المدون على الورقة فأكد لي بأن العنوان صحيح ولكنه لا يعرف من هو هذا الشخص فأخبرته بقصة الرسالة، هز رأسه بعد قليل من التفكير ثم دعاني للدخول
- تفضل ،، تفضل الحمد لله على السلامة .. القهوة يا أم محمد
جلست في صالة الشقة أنقِّلُ البصر بزواياه بينما ذهب مُحدثي لتغيير ملابسه، كل ما بالشقة ينطق بأن صاحبها هو جميل تلك الفازة التي اشتراها منذ عام تقريباً والصورة المعلقة على الجدار وحتى الهاتف المتنقل وقبلهم جرس الباب، جاء مضيفي تُرافقه زوجته التي أحضرت لنا القهوة، رحب بي كثيراً بل وأقسم بأن لا يدعني أغادر المنزل إلا بعد تناول الغداء بعدما عرف إنني من لبنان وأخبرني بأنه قام بزيارات عدة للبنان ولديه هناك أصدقاء والكثير من الذكريات التي لا يستطيع نسيانها وكم أن أهل بلدي مضيفين كرماء
- ها .. أيام لا تنسى فعلاً .. يا مرحبا
قالها بلهجة لبنانية والتفت إلي مضيفاً
- نحن اشترينا هذه الشقة من امرأة تسمى سميرة وكان ذاك منذ حوالي الأربعة أشهر كانت تقول بأن زوجها قد توفى منذ فترة وجيزة وترك لها على ما أظن ولداً وابنة مازالا في طور الطفولة، في الحقيقة إشتريت المنزل مع الأثاث (وأدار يديه بأرجاء الصالون) الذي قالت أنه يذكرها بزوجها الراحل، لقد تألمنا لحالة هذه المرأة الذي تركها زوجها وهي مازالت بريعان الصبا ..
دخلت الزوجة معلنة بأن الغداء جاهز، وقف مضيفي يدعوني لمرافقته على أن نكمل الحديث بعد تناول الغداء .
أطفأت سيجارتي وتوجهت معه، لم أكن قد تناولت إفطاري بعد الذي حدث في كافتيريا القطار، لهذا كنت أتضور جوعاً فألقيت نقمتي كلها على الطعام، كان الطعام لذيذاً أو بدا لي ذلك ... لا أعلم إذ أنني إلتهمت طبقي بسرعة لم أعهدها بنفسي حتى أن أم محمد بدت فرحة ومسرورة ويبدو أنها وجدت أخيراً من يؤكد بأنها طاهية ممتازة فراحت تضيفُ من أصناف الطعام إلى طبقي وتحلفني بإبداء رأي بكل صنفٍ وزوجها مستغرق في ضحكٍ متقطع لِما يعرف عنها، لكن ما شغل تفكيري حقاً التساؤل ... أهو جميل من يتكلمون عنه وكيف توفى ومتى؟ وما هذا الذي أسمعه؟
وأخيراً جاء دور القهوة التي خُيرتُ باحتسائها على الشرفة أو في الصالة فاخترتُ الشرفة، جلست ام محمد معنا بعدما جاءت بالقهوة تُجاذبنا أطرافَ الحديث الذي دار حول الغربة وأولادها الذكور وبأنها تفتقدُ أولادها الثلاثة الذين سافروا للعمل بعدما أنهوا دراساتهم الجامعية الواحد تلو الآخر، أصغرهم يعمل في ألمانيا والآخران في الدول الخليجية ... وأن خلفة البنات أحسن لأنهن يبقين قرب الأهل في معظم الأحيان، سألتهم عن كيفية شرائهم للمنزل فأخبرتني أم محمد بأن ابنتها تُقيم في المنزل المقابل منذ أكثر من ثلاث سنوات وتعرفت على السيدة سميرة صاحبة هذا المنزل بحكم الجيرة وكان زوج السيدة سميرة بالغربة إلى أن جاء في يوم من الأيام واستقر وكان ذلك قبل سنة أو أكثر بقليل ويبدو أن زوجها قد وجد وظيفة في القاهرة لأنه كان يتردد على منزله بصورة متقطعة وفي كثيرٍ من الأحيان كان لا يُمضي أكثر من ليلةٍ أو ليلتين مع زوجته وأطفاله إلا أن فجعت هذه المرأة بموته منذ حوالي الخمسة أشهر وبالتالي عرضت منزلها للبيع بحجة أنها لا تستطيع البقاء وحيدةً وبأنها تريد السفر لأهلها، أعلمتني ابنتي بهذا الموضوع وشجعتنا على شراء المنزل خاصة أن السعر كان مناسباً ومغرياً حقاً ومن جهة أخرى إنه كان ملاصق لسكن سلوى .. ابنتي الكبرى، تدبر زوجي بعض المبلغ وأبرقنا للأولاد بإرسال الباقي والحمد لله، ومن ثم غادرت سميرة بعدها هي وأولادها ولم نعُد نسمع عن أخبارهم شيء، نظرت المرأة لزوجها وكأنها تستأذنه في الكلام فأشار لها بأن تكمل
- منذ حوالي الشهرين وفي ليلة ممطرة من ليالي الشتاء سمعت طرقات على باب المنزل بينما كان أبو محمد يصلي العشاء فحسبت بأن ابنتي سلوى هي الطارقة، فتحت الباب دون أن أسأل، فوجئت برجل غريب يتبسم في وجهي تتقاطر حبات المطر من رأسه وحوله حقائب كثيرة يسألني عن سميرة فأخبرته بأنها قد باعت المنزل وغادرته منذ حوالي الشهرين فرأيت علامات الدهشة والاستغراب على وجهه وهنا ظهر زوجي يسألني عن الطارق، (أكمل الرجل سرد ما حصل عن زوجته) قائلاً :
- كنت قد انتهيت من الصلاة عندما سمعت اصوات عند مدخل الشقة فتوجهت إلى الباب ورأيت زوجتي أم محمد تحاور شخصاً غريباً فسألتها عمن يكون ومن يريد فأجابني بأن اسمه جميل وبأنه زوج السيدة سميرة وأنه صاحب هذه الشقة فأعلمته بأن زوج السيدة سميرة قد توفى منذ ثلاثة أشهر، أقسم الرجل بأنه زوج سميرة وبأنه لم يتوفى وهذا بالطبع كان واضحاً لنا ولكن من أين لنا أن نتأكد بأنه زوج السيدة سميرة، وعلى أصوات ما جرى فتح الجيران أبواب منازلهم ومنهم ابنتي سلوى التي أصرت على أن تتصل بالشرطة مع أنني لم أكن أؤيدها بذلك ولكن كان يبدو بأن ذلك هو الحل الوحيد لهذه المشكلة فهذا الرجل كان مصمم على دخول المنزل مبرراً ذلك بأن المنزل ملكه وبأنه لديه سند ملكية أراني نسخة منه، كنتُ على قناعة بأن هناك شيء يدور بالخفاء وبأن هذا الرجل قد خُدع بطريقة أو بأخرى، جاءت الشرطة بعد فترة من الزمن وتوجه هذا الرجل معهم وقد حطمه ما حصل فاضطررت إلى الذهاب معه بعدما أخذت سند ملكية الشقة معي وهناك وبعد أن قصصنا للضابط المشكلة واطلع على البيانات والأوراق كنت أرى هذا الشاب الذي يدعى جميل يتكلم بذهول تام وكأنه لا يصدق ما يسمعه وعندما كنت أروي للضابط كيف عاد زوج السيدة سميرة من المهجر وموته ومن ثم شراؤنا للبيت، كانت الدموع تذرف من عينيه وهو بين مكذب لي ومصدق للأوراق التي أمامه وأخيراً سألني الضابط أين نستطيع أن نجد سميرة هذه وكيف تم لكم شراء المنزل وهو ليس باسمها فأجبته بأن السيدة سميرة تملك وكالة عامة من زوجها يحق لها من خلالها الشراء والبيع وعلى هذا الأساس تم بيعنا المنزل، أجاب الضابط حسناً لكن لو افترضنا بأن الزوج قد توفى فإن هذه الوكالة تصبح باطلة لموت الزوج، عموماً هذا موضوع سوف نخوض به فيما بعد وعلينا الآن التأكد بأن السيد جميل زوج سميرة هذه قد توفى فعلاً وبأن هذا الرجل الماثل أمامنا ليس هو زوج سميرة هذه، كان الرجل طوال الوقت صامتاً غارقاً في دموعه الحقيقة أنه صعُبَ علينا خاصة بعد أن أثبت لنا بما يحمله من أوراق كانت كلها سليمة وإثباتات تؤكد بأنه زوج السيدة سميرة الحقيقي مثل الهوية العائلية وجواز سفره وبطاقته الشخصية بل كان لديه عدة صور تجمعه معها وأطفالها وصور لها ولأطفالها وكمية لا بأس بها من الرسائل معنونة إليه في الغربة مصدرها الشقة محل النزاع
تنهدت المرأة قائلة :
- لقد خدعتنا هذه المدعوة سميرة بحلو اللسان وتمثيليتها التي أتقنتها وادعائها بأن زوجها قد توفى ولكن نحن لم نفعل شيء فكل الأمر تم بصورة سليمة مائة بالمائة والشرطة أصدرت أمراً بعدم تعرض السيد جميل لنا بعدما تبين لهم من خلال تحقيقاتهم بأنه فعلاً هو جميل مصطفى حسن زوج المدعوة سميرة التي باعت الشقة بصورة صحيحة من خلال وكالة عامة صالحة وبأن ما صدر منها هو شيء خاص وشخصي بينها وبين زوجها، المهم أن جميل هذا لم نعد نراه منذ تلك الليلة فالحقيقة أنه لم يأتي إلى هنا أبداً بعد ذلك وهذه هي كل القصة
أخبرتهم ما حصل معي وما وصلني منه وكيف أنني قد جئت إلى هنا بقصد معرفة ما جرى له وأنني أريد الاطمئنان عليه، نصحني صاحب البيت أن أسأل عن أهله فلا بد وأنه مقيمَ عندهم
ودعت الرجل وزوجته وشكرتهم على حُسن ضيافتهم ووعدتهم بالزيارة إن امتدت فترة إقامتي بالأُقصر وأعلمتهم باسم الفندق الذي أقيم به عسى أن يعلموني بأي تطورات تحصل معهم خلال فترة إقامتي
توجهتُ إلى الشارع من الجهة التي جئنا بها وقد ضاق صدري بما سمعت وهالني ما أصاب جميل، أين أنت يا ترى الآن؟ ... أشعلت لفافة تبغٍ وسرت في طريقٍ لا أدري إلى أين سيؤدي بي لكنني رأيت عن بعد ضفة النهر فتوجهت إليها وأخترت الجلوس قريباً من بعض الصيادين المنتشرين على ضفاف النهر فيما المراكب تنساب فيه صعوداً ونزولاً ... فمنهم صائدٌ وآخر محملٌ بالبضاعة وغيرهم يركن مراكبه على ضفتيّ النهر وقربي بعض الأطفال يهرولون ويسبحون قريباً من الشاطئ فينهرهم البعض لقربهم من منطقة صيده، ومن وعلى اليمين بعض النسوة وكأنهن يغسلن بعض الثياب ... المكان يمثل لوحة بانورامية جميلة للطبيعة وهي تعانق النهر في هذا الوقت من السنة ومما زادها رونقاً وجمالاً زقزقة العصافير على الأشجار الوارفة القريبة، للمكان بهجة لا تناسب الظرف الحزين فهو يصدح بالطمأنينة والأمان
تذكرتُ كلمات جميل مودعاً غربته وأنه عائداً إلى الأمان والاستقرار والطمأنينة ... أين أنت الآن من كل هذا يا صديق؟
ألقيتُ نظراتٍ سريعةٍ على المكان قبل أن يستقر رأيي على المغادرة، وأشرت لسيارة أجرة بدت من بعيد لتنطلق بي إلى الفندق، ما أن أشرفت الساعة على الخامسة والنصف مساءاً حتى كنت ببهو الفندق ولم يكن هناك ما يُغري للجلوس فيه اذا توجهت من فوري إلى الغرفة، ألقيتُ عني ملابسي وطلبت لنفسي فنجان من القهوة بعد حمام كان لا بد منه ليعيد لنفسي وبدني الراحة بعد العناء الذي عايشته، ومن ثم خرجت إلى الشرفة أراقب غروب الشمس عند الأصيل
نسيم المساء المعبق بالرياحين يُضفي على منظر الغروب سحراً لم أعهده من قبل بينما تصدح من مكان ما ألحانٍ رومانسية امتزجت مع غروب الشمس بألوانها الزاهية مؤلفة لوحة أبدع الخالق صنعها وبينما أنا منشغل بإبداع الخالق وإذ بطرقاتٍ على بابِ غرفتي تُعلن وصول القهوة، طلبت من النادل وضع القهوة جانباً متسائلاً
- هل أنت من أهل الأقصر،،،
- نعم يا بيه .. أي خدمة
عنّ على خاطري أن أطلب منه مساعدتي في العثور على صديقي جميل فأنا هنا وحيداً ... غريب عن المنطقة وعلي أن أستعين بمن يعرفُ الأقصر جيداً
- إنني أبحث عن صديقي وهذا أسمه، في الحقيقة كان يسكن في هذا العنوان ولكني فوجئت اليوم بأنه قد غير محل إقامته دون أن يخبرني، لا اعلم إن كنت تستطيع مساعدتي بهذا الشأن؟
لاح على وجه النادل القبول فأنقدته بقشيشاً سخياً ووعدته بمبلغاً آخر إذا ما أتاني بخبرٍ عن مكان إقامته الجديد، فرح النادل بما تقاضاه ووعدني ببذل الكثير من الجهد وبأنه سيطلب من أصدقاؤه أيضاً المساعدة بهذا الأمر، كان النادل في بداية العشرينيات ينضح وجهه بالنشاط وتتقد عيناه بالذكاء لكنني لم أراهن كثيراً عليه معتمداً على حظي السابق
كان صوت الموسيقى الهادئة يجتاح نفسي وينساب في أذني، أغلقتُ عيناي وأنا ارتشف القهوة مستمتعاً بهذه الموسيقى الشجية قانعاً بما يصلني منها في مكاني
لا أدري كم من الوقت استغرقتُ بالنوم لكن رنين الهاتف في غرفتي أيقظني وكان على الطرف الآخر سعيد! النادل الذي جاءني بالقهوة لم أعرفه في بادئ الأمر، أخبرني بأنه قد وجد مكان صديقي جميل، طلبت منه التوجه فوراً لغرفتي فيما قمت بتبديل ملابسي ويبدو انني سهوت فرقدت في كرسييّ على الشرفة وقد شارفت الساعة على الثامنة وعشرون دقيقة مما يعني أن الأمر استغرق منه ساعتين تقريباً ليعرف مكانه
- صديقك هذا بالسجن يا بيه
كان وقع الكلمات على نفسي شديداً لأنني كنت أتوقع وجوده بإحدى المستشفيات أو عند والديه أما السجن فلما؟
- ماذا تقول ولما هو بالسجن؟
أجاب سعيد بعد فترة من التردد
- بصراحة لا أعلم ولكن يقال بأنه متهمٌ بقتلِ زوجته يا بيه
- ماذا زوجته ... ؟ كيف ...؟ (لا ادري إن أصدق ولكن...)
- سعيد وهذا السجن أين هو هل هو في الأقصر و.. وهل أستطيع مقابلته والتحدث إليه؟ ولكن هل أنت متأكد مما تقول؟
- هذا ما قيل لي ... نعم هو بسجن المركز هنا يا بيه هذا ما قاله صديقي
- من صديقك هذا يا سعيد؟
- إنه يعمل هناك وهو الذي أخبرني بقصة السيد جميل هذه
- سعيد .. هل تظن إنني أستطيع رؤيته؟
- لا أعلم لكن أستطيع إخبارك بعد نصف ساعة يا بيه، علي أن أسأل صديقي أولا
- حسناً يا سعيد ... سأبقى بغرفتي هنا يا سعيد ولكن أرجو أن لا تتأخر، خذ هذا المبلغ للاحتياط فربما احتجته للمصاريف
- حاضر يا بيه .. هل أذهب الآن؟
ما هذا الذي اسمعه أيعقل ... ما الذي حصل؟ أخذت اذرع الغرفة وعرفت بأنني لن أستطيع الجلوس في غرفتي وأنا أحترق لمعلومات كهذه فيما كان سعيد ينتظر
- سعيد إن لم تجدني في الغرفة فلتسأل الاستقبال عن مكاني واضح يا سعيد؟
- نعم ... حاضر يا بيه (وهو يغلق باب الغرفة)
جميل! يقتل زوجته؟ نعم لخيانتها سيفعل بالتأكيد ولكن لتذهب إن أرادت إلى الجحيم ولكن يقتلها؟ ماذا سيستفيد من قتلها ...الإنتقام؟ والسجن يا جميل ألم تفكر بهذا؟ يا لك من بائس يا جميل .. يا لك من بائس يا صديق
أشعلت لفافة تبغٍ وخرجت إلى الشرفة، هواء الدنيا كله لا يكفي لتهدئة البراكين الثائرة بنفسي، أشعر بالضيق يعتمر صدري، سقطت لفافة التبغ من يدي والسخطُ يملئ وجداني، لو أنه بقي بين زوجته وأولاده لما جرى له ما جرى، لعن الله الغربة
التعليقات (0)