في فترةِ ما بَعد اللقاءِ وقبل الفراقِ شعرتُ بأنَ قلبي ينتفضُ ليغوصُ في أعماقهِ، شعورٌ يسبقُ حدوثَ شيءٍ ما، ترفقتُ بمحدثي حتى أنهيتُ اللقاء معه وكان الوداعٍ حارٍ .. ربما يكون أبدي، كان شديد السرور.. فرحاً .. تغمره البهجة والسعادة .. كيف لا وهو عائدٌ إلى الوطن بعد غيابٍ طويلٍ إمتدَ زُهاءَ خمس سنوات أمضاها بين ضنك العيش وجُهد العمل المتواصل ليستطيع توفير مقتضيات الحياة لزوجه أم أولاده في الوطن.
- العقبى لك يا صديقي، لِتعُد يوماً إلى وطنكِ إلى والديك الا يكفيك غربة إمتدت إثنان وعشرون عاماً، بالنسبة لي فقد إنتهت الامي ولست أدري كيف استطعتُ الصمود كل هذه الفترة، نعم خمس سنواتٍ ليست بالمُدة البسيطة لقد قاسيتُ فيها الكثير ولكن لا تنسى بأن الحصيلة كانت جديرة بأن يتغربَ من أجلها من كان مثلي، و ها أنا أعودُ للوطنِ بعدما أبتعتُ بيتاً لي ولأسرتي الصغيرة ومحل صغير أستطيع أن ابدأ بهِ عملاً تجاري لأعتاشَ منه، حياة لم أكن لأحلم أن أكون بها لولا غربتي هذه، (رافعا يده اليمنى بحركة مسرحية) ها أنا قادمٌ أيتها الحياة الآمنة المستقرة، لا إيجار بعد اليوم.. لا مطالبين ..لا راتب بسيط بل عملٌ حُر، ولكن لا تنسى يا صديقي ولتعمل على تخليص معاملة سيارتي بأقرب وقت وسوف أقوم بتخليص معاملتها عند إستلامي إياها بالوطن، آه النزهة بالسيارة هناك يا أحمد ورفيقة الدرب بجانبي ..الأطفال في المقعد الخلفي، لا لسيارات الأجرة بعد اليوم لا لحافلة المواصلات المزدحمة، آه الحمد لله هل نسيت شيء (متلفتاً يبحث بين حاجياته) تذكرة السفر ها هي .. وصلُ الحقائب .. جواز السفر أذنُ المغادرة كل شيء جاهز .. إستعدي أيتها الطائرة أنا قادمٌ إليك..
ودعني صديقي جميل بعدما أوصاني بمكاتبته وأعطاني عنوانه .. ذكرني مراراً بإنهاء معاملة سيارته ليستقبلها بأرض الوطن، كانت كل كلمة وإشارة يُبديها تُظهر مقدار سعادته العميقة التي سرت بوجدانه، كنا ننعته بالحرصِ الشديد وأحيانا بالبُخل والتقتير كان يبيع إجازاته للشركة التي يعمل بها كي يُقصِّرَ أيام غربته، ودعته وبين شفتاي كلمة أعادك الله سالماً غانماً لأهلك وبريقَ الحُزن يختلي في عيوني لوداعه، كان صديقاً مخلصاً، بل كان مخلصاً لزوجته يبثها لواعج أشواقه عبر رسائله التي كان يرسلها مع أصدقائه المغادرين كي يوفر ثمن طابع البريد، لم أعلم بأنه أمضى ليله في سهرة حتى على مقاعد المقاهي لتناول القهوة أو الشاي أو حتى تدخين أرجيلة وكم أدعى أنه عاشقٌ قديم للنارجيلة لكنه بالوطن ... نعم بالوطن سوف يدخن الشيشة كما لم يُدخن من قبل كما قال، توجه صديقي إلى بوابة المغادرين سريعاً بعد الإعلان عن الرحلة المغادرة إلى وطنه مصر
توجهت بدوري إلى مقهى المطار الصغير لأرتشف فنجانٌ من القهوة وأشعلتُ لفافة تبغٍ فيما أنظرُ من خلال زجاج المقهى المطل على قاعة المغادرين، ها هو يحمل حقيبته اليدوية وعلى كتفه حقيبة أخرى حوت الكثير من الهدايا وما استطاع حشوه من حلوى وسكاكر لأطفاله يُسرع الخطى نحو بوابة الطائرة، إرتشفت ما تبقى من القهوة بعدما غاب عن ناظري وأنقدت النادل وتوجهت بعدها إلى سيارتي.
مرت الأيام على طولها تختصر الحكايات في الغربة لتكرارها ودوامها، كنت ابانها قد أنهيت معاملة سيارته ومن ثم أرسالها إلى مصر كما أرسلت له رسالتين أهنئه بإحداهما على سلامة الوصول وأعلمه بالأخرى أننا نفتقد صحبته ونتمنى له حياةً هانئة ومستقرة بين أطفاله وأهله وأوصيته بمكاتبتي كلما استطاع إلى ذلك سبيلا.
بعد مضي حوالي خمسة وأربعون يوماً وصلني خطاب معنونٌ بإسمي ولم يُذكر على الظرف إسم مرسله لكنه كان من مصر أي بلد صديقي جميل ، فضضت الظرف بسرعة وأنا متشوق لمعرفة أحواله وأخباره حيث أنها أول رسالة تصلني من طرفه ، إبتدأت بقراءة الرسالة وأنا على مائدة الغداء بأحدى المطاعم المنتشرة بكثرة في الكويت، نعم إنها منه ولكن ما بال خطه لم أكن أعلم بأن كتابته رديئة لهذه الدرجة لكني إستطعت فك رموز الكلمات واستنبطت ما خفي منها، بإختصارٍ شديد هو يريد مني القدوم إلى طرفه بأسرع وقت ممكن، وهو بحاجة ماسة لي ولم تذكر رسالته سوى ذلك ولم تبين السبب وراء دعوته الغامضة تلك، سهوت قليلاً وأنا أبحث عن سبب ممكن لدعوته لي للقدوم وفكرت أن أتصل به من خلال الهاتف ولكن هاتفه ظل يدق طويلاً دون إجابة من أحد، وبما أنني كنت بحاجة ماسة لقضاء بعض الإجازة والراحة من العمل المضني و صديقي جميل هذا ربما يكون بضائقة أو بحاجة ماسة لي فعلاً فلذلك ولغيرها من الأسباب قررت السفر إليه
توجهت إلى سفارة بلده للحصول على تأشيرة سياحية ومن ثم حجزت لي مقعداً على الطائرة المتوجهة إلى مصر بعدما أعلمت مدير الشركة التي أعمل بها انني بحاجة لإجازة، وتم كل ذلك دون أن أستطع إعلام جميل بقدومي إليه وبموعد وصولي، لكن بما أنني أحتفظ بعنوانه الذي أراسله عليه فأظن بأنني سأستطيع الوصول إليه ، وكل ما في الأمر هو أن أطلب من سائق الأجرة أن يتوجه بي لهذا العنوان .
ألقيت جسدي المتعب على مقعد الطائرة وعقلي ما زال يجهد نفسه بالتفكير بهذه الدعوة الغريبة ، ماذا لو... لا فلأدع جانباً كل الأفكار فقريباً سأعرف منه كل شيء المهم أنه أرسل لي رسالة وهذا يعني أنه بخير
قاهرة المعز
كانت الرحلة إلى القاهرة مريحة وقصيرة نسبياً ولم تتجاوز الثلاث ساعات وصلنا بعد ذلك إلى المطار، توجهت من فوري إلى ضابط الجوازات لختم تأشيرة القدوم، استقبلت بالحفاوة التي تقدمها تلك البلاد إلى السواح مع التسهيلات المتعددة التي توفرها لهم إدارة المطار
حملت أمتعتي متوجهاً إلى بوابة القادمين التي تفضي إلى بهو المطار ومن خلاله إلى مواقف سيارات الأجرة الذين توافدوا مرحبين بسلامة الوصول، اخترت أحدهم وقد تجاوز العقد الخامس من عمره وبعدما انطلقنا اعلمته عنوان الوجهة التي أقصدها فنظر لي مستفسراً وأضاف قائلاً بعد فترة وجيزة وهو يلقي برأسه إلى الوراء جهتي
- تريد السفر بالطائرة أم بالقطار أم بالسيارة يا بيه ؟
فوجئت بكلماته هذه واستنبطت بأن العنوان بعيداً
- لست أدري فالننسى أمر الطائرة الآن ولكن أخبرني بأيهما أوفر للراحة وأسلم، السيارة أم القطار
- عليك بالقطار يا بيه فالرحلة مريحة فيما لو أنك حجزت بالدرجة الأولى أو استطعت حجز مقصورة للنوم ولكن بالسيارة فالتنسى الراحة إنها رحلة شاقة ومضنية
- عليك إذن بمحطة القطار يا صاحبي
توجه السائق إلى محطة القطار وكان خلال الطريق ينظر أحياناً إلي بالمرآة يتفحص وجهي وأنا متشاغل عنه بما أراه تارةً يمنة وتارةً إلى اليسار، المساجد القديمة والحواري العتيقة التي نمر بأطرافها تحوي مبانٍ من عهود مختلفة والناس يتدافعون كل إلى شأنه والباعة يصيحون بما يحملون على عرباتهم والسيارات تتدافع تدافع السيول الهادرة كل يريد أن يسبق الأخر
الحياة تمضي وكل مشغول بشؤونه الخاصة، وصلنا بعد فترة وجيزة إلى محطة القطار، ساعدني السائق بحجز تذكرة مقصورة بعد أن نقد المحصل بقشيشاً سخياً وكان موعد إنطلآق القطار في الساعة الرابعة عصراً أي بعد ساعتين ونصف من الآن، أين أمضي هذا الوقت الذي يعادل رحلتي بالطائرة، عرض علي السائق الذي أخبرني أن أسمه محمد أن يطوف بي في رحلةٍ سياحيةٍ في الأزقةِ القديمة بعدما رأى على وجهي علآمات الدهشة والإنبهار بما أراه من المساجد والمباني القديمة في الحقيقة سررت كثيراً بهذا العرض الذي أتى في وقته وبما أنني لست متعجلاً فقد وافقته على أن يقبل دعوتي إلى الغداء في أحدى الأماكن التي يختارها، وتوجهنا من هناك إلى أحد المطاعم المشهورة في شارع جامعة الدول العربية والذي على ذمة عم محمد السائق نظيف وظريف وبالفعل كان الطعام شهياً يفوق ما نأكله بأفخر المطاعم والفنادق الغالية وبعدها أخذني عم محمد بجولة طفنا بها على بعض الحواري والأزقة التي إكتنز بها أعداداً لا يستهان بها من البيوت والمساجد التي يعود بناؤها إلى أيام المماليك والخلافة الفاطمية ويفوح من خلالها رائحة الماضي العريق وتبين لي خلال هذه الجولة كم كنت موفقاً باختياري لهذا السائق فلقد أثبت لي بأنه موسوعة في الآثار الإسلامية، أدهشني بكمية وغزارة المعلومات التي كان يقذفها من فمه دون ما تفكير أو إمعان، كان مرشداً سياحياً من الطراز الأول يحفظ أسماء الأماكن وأسماء من بناها وعمرها وبعض القصص القصيرة التي تدور حولها وتعاصرها، كانت الجولة مشوقة وموفقة للغاية فقد أرضت نهمي الكبير وأشبعت حبي العميق للآثار، بعدها أوصلني عم محمد إلى محطة القطار قبل الموعد بربع ساعة قائلاً :
- عليك بإغلاق باب مقصورتك جيداً خوفاً من المتلصصين واللصوص
في القطار
ودعت عم محمد السائق بعدما أنقدته مبلغاً محترماً جزاء جولته السياحية بعدما أخذت عنوانه ورقم هاتفه ومن ثم توجهت إلى قطاري الذي أعلن عن قيام رحلته إلى الأقصر ألقيت حقائبي بالمقصورة وفتحت زجاج النافذة أستطلع ما يدور خارج القطار، الناس يتدافعون كل إلى وجهته البعض إلى قطاره متوجهاً إلى بيته والبعض يودع الآخر والباعة المتجولون يطوفون هنا وهناك ينادون على بضائعهم، أخبرني السائق أنني لن أصل قبل ظهر الغد لذا فكرت بأخذ غفوة أستريح بها بعد إنطلآق القطار ميمماً شطر المكان الذي أقصده، لم يكن النوم صعباً كما توقعت اهتزاز القطار والصوت المكرر للعجلات جعلا عيناي تغرقان بالنوم العميق
أيقظني أصوات الأطفال وهم يلعبون، يبدو أن القطار قد توقف في إحدى المحطات الفرعية أثناء نومي، إرتديت ردائي وفتحت ستارة النافذة مستطلعاً مكاننا فرأيت موقظي يلعبون ويمرحون العاباً ذكرتني بطفولتي في الوطن، نعم كل شيء يتشابه بالأطفال حتى ألعابهم مهما بعدت المسافات و اختلفت اللغات، الساعة شارفت على التاسعة ليلاً يبدو أنني كنت متعباً حيث أنني نمت ما يقارب الخمس ساعات، أشعر بالجوع يجتاح معدتي وبقليلٍ من العطش يبدو أنني سوف أبدأ رحلة البحث عن المطعم في هذا القطار فلأبدل ثيابي وأبدأ رحلة البحث فربما يصادفني قليل من الحظ .
فتحت باب مقصورتي بعدما ارتديت ملابس مناسبة وأصلحت من هندامي، المقطورة تعج بالأصوات القادمة من هنا وهناك، حياة زاخرة ضحكات متواصلة
إبتدأ القطار بالتحرك خارجا من المحطة فقصدت الباب الفاصل بين مقطورتي والمقطورة التي تليها وأنا اترنح يميناً وشمالاً، بين المقطورتين فسحة صغيرة وقف بها رجل وامرأة يدخنان التبغ ويتبادلان الحديث في عصبية ظاهرة، واصلت رحلة البحث من مقطورة لأخرى حتى اهتديت إلى المحصل الذي أخبرني بأن الكافتيريا موجودة بالمقطورة التي تسبق مقطورتي، إنها محاولة ولا بأس من إضاعة الوقت بعدما علمت منه بأن الخدمة متوفرة طيلة الرحلة، عدت أدراجي عائداً إلى مقطورتي عبر الطريق الذي جئت منه وعندما وصلت إلى الباب الذي يفصل مقطورتي عن التي تليها كنت متوقعاً أن أرى الرجل والمرأة معاً لكنني رأيت المرأة وحيدة هذه المرة أضاء نور القمر الذي تسلل عبر النافذة وجهها فرأيت للمحة مسحات من الحزن تغطي قسماته كانت وحيدة والدموع تغزو عيناها تنظر عبر نافذة الباب المؤدي إلى خارج القطار التفت نحوي عندما فتحت الباب على حين غرة منها ويبدو أنها كانت تتوقع شخصاً ما لأنها نادت أسمه لكنها تداركت نفسها عندما رأتني
- أعتذر يا سيدتي إن كنت قد أخفتك
لم ترد على كلماتي واعتذاري فمضيت في طريقي متوجهاً إلى الكافتيريا، في البداية لم أعر الأمر أي اهتمام، طلبت قائمة الطعام بعدما اخترت طاولة في القسم الخاص بالمدخنين، فيما أحضر النادل قائمة الطعام والبسمة تعلو شفتيه، اخترت منها صنفا نصحني النادل به وأوصيته أن يختار لي بعضا من سلطات الخضار الطازجة وعصير التفاح، أشعلت سيجارتي ريثما ينتهي الطاهي من إعداد وجبتي وبما أنني نسيت إحضار كتاب أشغل به وقتي رحت ألتفت يميناً وشمالاً وإذ بعارضة خشبية صف عليها بعض الصحف المحلية قرب باب المقطورة الذي جئت منه، اخترت صحيفة تبدو عناوينها جذابة بعض الشيء تصفحتها بسرعة قبل عودتي إلى منضدتي وإذ بباب المقطورة الذي أصبح يحاذيني يفتح وتدخل منه تلك المرأة التي رأيتها سابقاً بين المقطورتين، بيضاء اللون وجهها شاحب بعض الشيء تنم قسمات وجهها عن حزن عميق تبدو في أواسط العشرينات طويلة القامة سوداء الشعر ترتدي فستان لونه أسود لا يخلو وجهها من مسحات جمال هادئة، رأيتني ألقي عليها تحية المساء دون قصد مني وأعتذر إليها إن سببت لها أي إزعاج خلال تجوالي بين المقطورتين بحثاً عن الكافتيريا ولست أدري لماذا أصبت بالارتباك وقتها أهو الخوف من أن تظنني أحاول ملاطفتها أو أن لا ترد علي لكنها ابتسمت قليلاً
- لا انا الآسفة على ما صدر مني
التعليقات (0)