غربة - الجزء الثاني عشر
دق جهاز الهاتف في غرفة أحمد بينما كان يرتدي ملابسه استعداداً للسهرة وكان على السماعة الأخرى سهير سكرتيرة المهندس ممدوح
- أستاذ أحمد، مساء الخير المهندس ممدوح في طريقه إلى الفندق
- أين أنت ..؟
- في بهو الفندق
- سأكون معك بعد قليل
توجه أحمد في طريقه لبهو الفندق في الوقت التي انطلقت به زغاريد أحس بأنها تشق عنان السماء وعندما خرج من المصعد فوجئ بجمع غفير من الناس رجال ونساء وموسيقى الزفة المصرية تنطلق في رحاب البهو في جو من السعادة والحبور، أطلق العنان لعينيه في رحلة البحث عن سهير التي وجدها تقف بعيداً عنه قرب الكافتيريا تحدق بجموع المهنئين وتراقب بعينيها النجلاوتين فساتين السهرة وهي تختال على أجساد النساء المدعوات، توجه أحمد يشق الجموع صوب سهير التي لم تلاحظ قدومه وربما لم تتوقعه بهذه السرعة لذا وقف بجانبها يراقبها وهي تنتقل بعينيها هنا وهناك وتوزع كلمات التعجب أحياناً والاستهجان أحياناً أخرى، اقترب منها وهمس في أذنها قائلاً:
- العقبى لك
- أوهـ من أهـ .. أخفتني يا باشمهندس
- رأيتك مشغولة بالعرس فتركتك لفترة من الزمن و....
- العقبى لك أنت، أنا مازلت صغيرة .. أم أنك متزوج
- ... لست مرتبطاً
- معقول .. إذاً فلتقرص العريس
- ظننتهم يقولون هذا لصديقات العروس
- لا ممكن للرجال والنساء على حد سواء
وتوقفا عن الكلام عندما شاهدا العريس يتأبط ذراع عروسه متوجهان إلى قاعة الحفلات التي أعدت خصيصاً لهم يرافقهم ذويهم وأصدقائهم وباقي المدعوين، توجه أحمد ترافقه سهير للكافتيريا وطلبا بعض المشروبات بانتظار قدوم المهندس ممدوح الذي لم يتأتى لأحمد مشاهدته بعد وأخذا يتكلمان عن الزفة في مصر وعن تكاليفها الباهظة وما تتحمله العائلات في سبيل ليلة العمر كما يدعونها
- أهـ المهندس ممدوح وصل، ها هو قادم نحونا ترافقه المدام
وذهبت لاستقبالهما والقدوم بهما
- المهندس أحمد (معرفة) المهندس ممدوح مدير عام الشركة وصاحبها والسيدة حرمه
- تشرفنا يا باشمهندس كيف رأيت مصر هل أعجبتك
- كيف لا إنها جميلة جداً ، كيف حالك يا مدام، (مقبلاً يدها)
- كيف حالك يا باشمهندس
- الحمد لله، العمل ثم العمل يا استاذ أحمد فالعمل يأخذ مني كل الأوقات الجميلة (وهو ينظر لزوجته ضاحكاً) ولكننا نحاول اقتناص الفرص أليس كذلك يا نظيرة
- أهـ بالطبع ولكن ليس دائماً (وهي تصطنع الابتسامة)
(المهندس ممدوح مخاطباً سهير)
- هل حجزت لنا مائدة العشاء للعشاء
- نعم بالطبع، المائدة المفضلة كالمعتاد
- إذن هيا بنا تفضل أستاذ أحمد
وتحادثت نظيرة مع سهير التي كان يبدو على وجهها الامتعاض من وجودها معهم، تَرافَقَ الرجلين وهما متوجهان إلى النادي الليلي للفندق الذي حفل ببرنامج ساهر مع العشاء الفاخر الذي يقدمه الفندق لرواده، أمضى الجميع سهره كل فيما يخصه، كانت نظيرة ة تراقب سهير وتنظر إليها شذراً والشرر يتطاير من عينيها ويبدو أن سهير تعلم جيدا كيف تتعامل معها لأنها لم تحاول حتى مجرد النظر إليها ولو لمرة واحدة بينما انغمس الرجلين في حديثهما عن الأعمال التي يستطيعا أنجازها سوياً كما وتعرف ممدوح على ما تؤديه المجموعة من خدمات واستشارات واستثمارات عن طريق بعض البنوك الخليجية والدولية المهتمة واتفقا على أن تقوم سهير بإعداد نسخ من العروض لبعض المشاريع التي يستطيع الطرفان أن يعملا بها سوياً
- سهير من الغد يجب عليك الاهتمام بما يلي
أولا أعدي حصراً للمشاريع التي نريد شركاء بها
ثانيا كشف بالمشاريع التي نحتاج بها إلى قروض، تستطيعي أن تسألي المهندس أسامة عن هذه المشاريع خاصة وأنها مسئوليته
ثالثا أعدي لي تقريرا مفصلاً عن المشاريع التي نحتاج إلى معونة استشارية خاصة المشاريع التي تختص بمرافق الدولة ولا تنسي المشروع الجديد أعني الحي السكني بالأقصر
ماذا هناك أيضا، حسنا أريد هذه التقارير والكشوف بأسرع وقت، هه متى تستطيعين إنجاز ذلك
- إنه عمل ضخم بالتأكيد ولكن الكثير منه قد أنجز فعلاً، ربما يومين يكونا كافيين لذلك
- أعطيتك يومين ولكن ليس أكثر من ذلك، إنها موظفة ممتازة يا أستاذ أحمد أليس كذلك.. أخ (ناظراً إلى زوجته التي تشاغلت عنهم بالعرض الفني)
ابتسم أحمد بعد أن فهم ما يدور تحت مائدة العشاء ويبدو أن زوجة السيد ممدوح تغار من سهير السكرتيرة الحسناء وما أن مدح ممدوح سكرتيرته حتى ضربته برجلها أو قرصته لم يكن الأمر واضح لأحمد أما سهير فقد امتصت شفتها السفلي تعبر عن امتعاضها مما حدث قائلة
- إنك تمدحني بأكثر مما أستحق يا باشمهندس (تستدرجه للحديث)
- لا يا سهير (وهو يراقب زوجته) أنت تعلمينني جيداً فأنا لا أجامل أحداً وخاصة بما يخص العمل
- أعلم ذلك جيداً يا باشمهندس (بدلآل يفوق الحد وهي تنظر لنظيرة)
أما نظيرة التي وقفت فجأة قائلة بأنها تشعر بالتوعك وبأن الألم في رأسها قد عاودها مرة أخرى وهي تريد العودة للمنزل
- أهـ إن الآم رأسي هذه المرة شديدة أظن بأنني سوف أتوجه للمنزل هيا بنا (موجهة حديثها للمهندس ممدوح)
- سأطلب من فتحي أن يوافيك (وهو يتصل بهاتفه الخلوي) ألو .. فتحي نحن بالملهى الليلي تعال إلى فوق حالاً
- ماذا تعني يا ممدوح ألن ترافقني للمنزل
- لا فلدي بعض الأمور التي يجب علي إنجازها وليس من المعقول ترك الباشمهندس أحمد وخاصة أنها أول سهرة له بالقاهرة
- تريد البقاء إذن (وهي تستشيط غضبا، وبلهجة لا تخلو من الوعيد) حسناً ... سأبقى على الرغم من ألمي علشان المهندس أحمد
- ماذا تعنين ألم تقولي بأن رأسك يؤلمك وبأنك تودين الذهاب للمنزل؟
- أهـ (بنرفزة واضحة) فالتطلب لي بعض الأسبرين وسأكون بخير
طلب المهندس ممدوح لزوجته بعض من الأسبرين ومن ثم أمضوا باقي السهرة وهم يشاهدون برنامج السهرة الذي حفل ببعض الغناء من مطربين مشهورين ولوحات من الرقص الشرقي الأصيل وبعدها توجه المهندس ممدوح برفقته زوجته إلى منزلهما بعد أن ودع المهندس أحمد وتركه مع سهير التي ذهبت في ذلك الوقت لغرفة الزينة لكي لا تضطر لتوديع نظيرة ومن ثم عادت بعد أن تأكد لها بأنهما قد ذهبا
- هل لاحظت غيرتها الشديدة
- هي زوجته وأنت يا سهير سكرتيرته وأنت جميلة جداً والعداء مشهور بينهما ولستما الوحيدتان اللتان على هذا الوضع
- كم هي قبيحة بهذا التصرف الذي تقوم به
- يجب عليك أن تعذريها، كوني في مكانها وزوجك لديه واحدة مثلك تعمل لديه تمتلئ بالحيوية والجمال والأنوثة ....
- أتعني ما تقول ( بدلع)
- نعم
- إذاً أنا أعذرها
- هل يوجد هاتف هنا ..
نادت سهير على النادل تطلب منه أن يوافيها بهاتف، أتصل أحمد بالاستقبال مستفسراً إن كان لديه أية رسائل أو جاء أحد من أجل مقابلته فأخبره بأن لديه رسالة من الأقصر فطلب منه أحمد موافاته بها بعد أن أعلمه بمكانه، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة ليلاً عندما توجه النادل إلى أحمد يسلمه الرسالة التي جاءته من الأقصر، وضعها أحمد في جيبه بعد أن أنقد النادل بعض النقود
- هل يعرف أحد أنك هنا
- بالطبع لدي بعض الأعمال هناك لذا فأنا أخبرت الشركة بمكان تواجدي تحسباً لأي طارئ
- أهـ طبعاً … طبعاً حسناً ما هو جدولك لهذه الليلة
- جدولي ليس به أي حروف سوداء هو أبيض من الثلج
- (ضاحكة) إذن ما رأيك أن نملئه ببعض الألوان
- المهم أن يكون اللون الأخضر هو السائد
- ماذا تعني (وهي تضحك) لا .. لا تخف سنتمشى على النيل؟
- فكرة جيدة ... ولكن ماذا بشأنك (وهو ينظر لساعته)
- لا ... لا عليك ليس لدي من يضايقه تأخري
- أأنت وحيدة هنا
- لا أنا أعيش مع والدتي وأختي الصغرى، والدي توفى منذ فترة كبيرة وأنا المعيل الوحيد لهذه الأسرة
- إنني حقاً أسف، فأنا لم .....
- لا عليك فأنا متعودة
- سهير، تستطيعين العودة للمنزل فأنت لم تقصري بشأني أبداً
- أتحسب أنني باقية لأجل الضيافة لا، ولكنني فعلاً بحاجة لأن أتحدث لأحد ... ليس أي أحد ... أعذرني فأنا أرى بك شخصية والدي رحمه الله إنه يشبهك كثيراً وخاصة طريقة كلامك رحمه الله ولهذا عندما رأيتك للوهلة الأولى ارتحت كثيراً لك
- إذن تعالي ولا تضيعي السهرة هنا فأنا بالكاد أسمعك فالضجة هنا تخنقني ....
وهما متوجهان إلى المصعد ومن ثم لخارج الفندق المطل على النيل مباشرة
- حسبتك سعيداً بقضاء الأمسية بالملهى
- لا ... أنا لا أحب الأصوات العالية .... لا أرتاح لها ... تزعجني ، لهذا عندما ذكرت نزهة على ضفاف النيل رأيتها فرجاً من الله ..... هيا تعالي
أسرع أحمد الخطى ممسكاً بيد سهير وهما متوجهان إلى خارج الفندق فرأى على مقربة من ضفة النهر عربة تجرها الخيول فنظر إلى سهير نظرة فهمت منها ماذا يقصد فأشارت له برأسها بالموافقة فنادى على صاحب العربة وركبا طالباً منه التنزه بهما على شاطئ النيل وهما يسمعان أغان أم كلثوم القديمة
كان الجو رائعاً في هذا الوقت من السنة وليل القاهرة يعرفه كل من زارها، النسيم العليل يداعب الوجنتان والموسيقى تصدح مع الغناء الشجي
- القاهرة رائعة بالليل يا انسة سهير
- هذا صحيح، كنت أتمنى أن أقول الكلام نفسه عن النهار ولكن الزحام وخنقة السير ظلما المدينة، بس بلاش آنسة ... هه
- حاضر ... بلاش آنسة ... لكنها يا سهير تبقى مدينة رائعة، انظري إنها الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل وما زال بإستطاعتك التنزه على العربات وزيارة المطاعم وربما أيضاً المحلات التجارية
- مدينتنا يا باشمهندس عريقة في القدم وتمثل حضارة موغلة في أحضان الماضي، لا تنسى بأننا نتاج حضارتين، الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية وأيضاً لا تنسى بأننا نعتمد على السياحة كأكبر عائدٍ للدولة
- طيب بلاش باشمهندس هه ... اهـ نعم أعلم هذا السياحة في مصر، لقد قرأت عن هذا الموضوع وأعلم بأن لديكم أكبر مسرح ومخزون للآثار في العالم غير الذي ما زال مخبأ تحت الرمال، أعلم الكثير عن هذا الموضوع
- حاضر ... (وهي تضحك) والسياحة هنا في مصر لا تكلف الكثير من المال كغيرها من البلدان السياحية فنحن نعتبر من أرخص الدول السياحية في العالم
- هذا صحيح ..
- هه سنبقى طوال الليل نتحدث عن السياحة والآثار والمال والأعمال؟
- آسف فعلاً أنا متأسف ولكن يجب عليك أن تعذريني، كما قلت لك فهذه أول مرة أحضر بها إلى مصر
- لنتوقف هنا قرب الكوبري فالمنظر رائع ونستطيع بعد ذلك أن نجلس في ذلك المقهى (مشيرة إليه) الذي يطل على النيل
- هل سمعت الهانم (مكلماً الحوذي) فالنتوقف قرب الكوبري
أعطى أحمد الحوذي أجرته ثم صرفه وجلس هو وسهير على أحد المقاعد الحجرية المنتشرة على الكورنيش قرب الجسر الذي يقطع نهر النيل
- أخبريني عن نفسك يا سهير أعني ألست مرتبطة بعد؟
- لا .. ليس بعد فهذا شيء لم أفكر به مسبقاً، طبعاً تقدم لي الكثير لكنني لم أوافق على أحد منهم ليس لأنهم ليسوا جيدين لا ولكن المسؤلية التي ورائي لا تسمح لي بالتفكير بنفسي بعد، هناك أمي وأختي التي ما زالت بطور المراهقة والتي ما زالت تكمل دراستها لمن سأتركهم، خاصة وأنني لا أستطيع أن أضمن أي شخص سأتزوجه، أعني هل سيكون جيداً وهل سيتركني لأعتني بأمي المريضة وأختي .. لا .. لا أستطيع بالفعل التفكير بهذا الموضوع
- نعم معك كل الحق، ولكن لماذا دائما تضعين السلبيات أمامك، أنت فتاة جميلة وما زلت بريعان الصبا وأمامك الحياة كلها فلماذا لا تختارين منها إنسان جيد وتشترطين عليه أن يدعك تهتمين وترعين أمك وأختك
- هذا صحيح (وهي تتأهب للمسير) .. لنذهب للمقهى .. لست أدري إذا ما كنت أثقل عليك بقصتي هذه ولكن دعني أوجزها لك ما استطعت
- لدينا الليل كله فلا تختصري شيء أبداً
- (مبتسمة) حسناً لك هذا
سارعا في اعتلاء الجسر الفاصل بين الجاردن سيتي والمهندسين يتوقفا أحيانا لتخبره عن برج القاهرة الشاهق أو تلك العمارة التي تسمى مبنى التلفزيون وغيرها من المعالم الموجودة في المنطقة
- نعم ما هي قصتك
- كنت في السابعة من عمري عندما توفى والدي ولم تكن إيمان أختي قد تجاوزت الشهر من عمرها، والدتي كانت سيدة منزل أي أنها لم تكن تعمل، كان من الصعب علينا أن نستمر بالحياة المرفهة التي عودنا عليها الوالد رحمه الله وقد كان من المؤمنين بالمقولة المشهورة "اصرف ما في الجيب يأتي ما في الغيب" وعندما انصرف هو وتركنا وحدنا لم يكن له راتب تقاعدي وكان من الطبيعي أن تتجه والدتي لعمي أخو والدي من والدته حيث أنه القريب الوحيد لوالدي ليعيلنا لكنه بدلاً من ذلك أخذ يعرض على والدتي الزواج ولم تكن والدتي لتتزوج بعد والدي للحب الذي تحمله بقلبها له ولخوفها علينا فاستدانت بعض النقود من أقاربها وانكبت على ماكينة الخياطة التي ابتاعتها بهذه النقود لكي تستطيع توفير الحياة الكريمة لنا وبالفعل صبرت الوالدة كثيراً إلى أن جاء يوم تخرجي، اليوم الذي انتظرته والدتي مدة سبعة عشرة عاماً تتواصل بها ايام الكفاح بلياليها، إن كنت أقول لك بأنني خائفة فأنا أعني ما أقول، لا أريد أن أظلم أحد معي فأنا لن أستطيع التخلي عن والدتي بعدما تخلت هي عن حياتها من أجلنا نحن
- قصةُ أمٍ عظيمة .. في الحقيقة يَندر وجود أُم مثلها في أيامنا هذه وأتمنى أن ألتقي بها إن واتتني الظروف إنشاء الله
- ومن قال لك بأنك لن تلتقي بها .. هذا هو المقهى الذي نقصده ، لنختار مائدة قريبة من النيل ... ما رأيك بهذه
- الأمر سيان عندي فلتجلسي قليلاً .. أريد التكلم بالهاتف .. اهـ ما اسم هذا المقهى يا سهير
- لا أدري .. اهـ أنظر هناك أو فالتسأل النادل
- معك حق
أسرع أحمد بخطواته صوب الهاتف يريد الإتصال بالفندق، لقد نسي تماما عم محمد السائق، لربما جاءه الفندق بالرجل الذي يريد
- الاستعلامات .. أرجوك اريد التكلم مع الاستقبال .. هه معك المهندس أحمد نافع غرفة 614 هل هناك رسائل لي .. لا شيء اهـ حسناً .. لو سمحت أنا بالخارج الآن بمقهى يسمى الفراعنة .. تعرفه..! هذا جيد .. حسناً إنني بإنتظار شخص ما لو سمحت اعلمه بمكاني لو جاء يسأل عني .. نعم .. شكراً
التعليقات (0)