التقينا على طريق الحب .. والفضل يرجع لمبدع الأطلال
بقلم : حسن توفيق
صباح الأحد 15 أغسطس الجاري 2010 خرجت متمهلا من شرنقة النوم ، وشرعت في ممارسة طقوسي اليومية التي أستهلها – عادة - بفتح جهاز الكمبيوتر ، لمتابعة الرسائل الواردة لي ، وعلى الفور تعلقت عيناي – بلهفة وألم – بعنوان رسالة تنعى الدكتور غازي القصيبي وزير العمل والشؤون الاجتماعية بالمملكة العربية السعودية . قرأت الرسالة ، متمنيا لو أنها كانت كاذبة أو غير دقيقة ، لكن ما تابعته بعد ذلك من مقالات مبثوثة على مواقع الإنترنت أكد لي أن ما أتمنى أن يكون كذبا ليس كذلك وإنما هو حقيقة ، لا تقبل الاختلاف بشأن ما تقرره وتؤكده .
جال بذهني وأنا مستسلم للحزن بيتان ، كنت أحفظهما منذ أن كنت طالبا جامعيا ، وهما من شعر أحد شعراء العصر العباسي ، هو أبو العتاهية : الموت لا والدا يبقي ولا ولدا
ولا صغيرا ولا شيخا ولا أحدا
للموت فينا سهام غير مخطئة
من فاته اليوم سهم لم يفته غدا
كان لا بد من أن أتابع وقائع الحقيقة التي تمنيتها كذبا ، وهكذا اندفعت لمتابعة النشرات الإخبارية لكل من الجزيرة والعربية ، وإذا بهاتين القناتين الفضائيتين الشهيرتين تبثان الخبر – الحقيقة ، لكن الخبر أضاف إلى الحزن الذي تغلغل في أعماقي شعورا غامرا بالأسف ، فالفقيد الذي رحل عن عالمنا هو الدكتور غازي القصيبي وزير العمل والذي كان – خلال حياته العملية والوظيفية - سفيرا للمملكة لدى المنامة ثم لدى لندن وسواهما ، إلى أن أصبح وزيرا للكهرباء والماء ثم وزيرا للصحة ، وفي خاتمة الخبر- كما بثته القناتان - إشارة سريعة بل متسرعة إلى الفقيد الراحل باعتباره أديبا متنوع العطاء !
أعترف بأني تململت أثناء متابعتي لما بثته القناتان ، وتساءلت بدهشة ممزوجة بالأسف : هل قام الإعلام بإعدام العطاء الجوهري للدكتور غازي القصيبي ، هذا العطاء المتمثل فيما أبدعه على امتداد حياته في الشعر وفي الرواية ، فضلا عما كتبه في ميدان النقد الأدبي وفي ميادين الفكر الحر الجريء ؟ ! ماذا يهم أمثالي من عشاق الأدب إن كان الدكتور غازي القصيبي وزيرا أو خفيرا .. صاحب جاه وسلطان أو إنسانا من البسطاء ؟ ما يهم أمثالي أنه شاعر عربي كبير ، وروائي مبدع ومقتدر ، وصاحب مواقف فكرية ، قد نختلف أو نتفق حولها وحول ما تثيره . ولكن ماذا لو أن الدكتور غازي القصيبي لم يكن قد تقلد أية مناصب مرموقة ؟ أعتقد أن الإعلام لم يكن سيهتم بأن يبث خبر غيابه ورحيله عن عالمنا في نشرات أخباره إلا على استحياء !
بعيدا عن كل المناصب المرموقة التي أسندت إليه ، بل بعيدا حتى عن نشأته وطفولته ودراسته الجامعية ، دون إنكار لأهميتها في تكوينه الأدبي والفكري ، فإننا لا بد أن نتحدث عنه أولا باعتباره شاعرا عربيا كبيرا ، حتى وإن كانت الرواية قد استهوته وجذبته إلى أن جرفته دوامتها التي لا تكف عن الدوران .
في العشرين من عمره ، أصدر الشاعر الراحل الكبير سنة 1960 ديوانه الأول – أشعار من جزائر اللؤلؤ – وكان لا بد أن تظهر في هذا الديوان تأثرات صاحبه بالشعراء العرب الذين أعجب بهم ، ومن هؤلاء إيليا أبو ماضي وإبراهيم العريض وعلي محمود طه وأمين نخلة ، وعن الظروف القاسية والصعبة التي عاشها الشاعر وانعكست بظلالها على قصائد أشعار من جزائر اللؤلؤ يقول غازي القصيبي : لقد ولدت في أحضان بيئة نفسية حزينة ، قبل أن أولد بشهور توفي جدي لوالدتي في ظروف كئيبة تركت ظلها القائم على المنزل ، وبعد ولادتي في الأحساء بتسعة أشهر توفيت أمي على أثر إصابتها بالتيفود ، وكانت – رحمها الله – في التاسعة والعشرين ، وعلى إثر وفاتها تكفلت بتربيتي جدتي لوالدتي وكانت في حالة نفسية بالغة الكآبة بعد فقد زوجها ثم ابنتها الوحيدة وانتقالها من المجتمع الذي ألفته وأحبته في الحجاز إلى مجتمع جديد غير مألوف في الأحساء ثم في البحرين ، وكان والدي مشغولا بأعماله التجارية الواسعة وشؤون عائلته الكبيرة ولم تكن طبيعة العلاقات العائلية أيامها تتيح للأب أن يلعب دورا في تنشئة أولاده ، ومن هنا فإن مهمة تربيتي قد تركت نهائيا في يد جدتي التي قامت بها خير قيام .
ويتحدث الشاعر الراحل الكبير عما جرى له من تغيرات ، عندما انطلق إلى القاهرة للدراسة فيها ، فيقول إن الانتقال إليها كان صدمة حضارية بالمعنى الصحيح ، فقد كانت القاهرة أيامها مركز الثقل السياسي والثقافي والعلمي في العالم العربي ، وكانت تموج بتيارات فكرية شتى : تيار القومية العربية الجديد الذي بدأ الرئيس جمال عبد الناصر يتبناه ويفرضه على الشعب المصري ، والتيارات الحزبية في العالم العربي وأهمها حزب البعث وحركة القوميين العرب ، وفيما يتعلق بالشعر ، كان هناك صراع عنيف بين أنصار الشعر التقليدي وفي مقدمتهم الأستاذ عباس محمود العقاد وبين جيل من الشعراء الشباب ، كان ألمعهم في ذلك الوقت صلاح عبد الصبور .
بعد تجربة الديوان الأول توالت دواوين الشاعر الراحل الكبير : قطرات من ظمأ – معركة بلا راية – أبيات غزل – أنت الرياض – الحمى .. وسواها من الدواوين التي صدرت فيما بعد مجتمعة في الأعمال الشعرية الكاملة سنة 1987.. وفي تقديري أن صاحب كل هذه الأعمال الشعرية المتميزة لم يكن ممن ينحازون لشكل شعري على حساب سواه من الأشكال ، فقد كان يكتب القصيدة العمودية المتوارثة بنفس البراعة التي كانت تتجلى في قصائد الشعر الحر عنده ويتسم شعره بصورة عامة بالحرص على الموسيقى التي بتصورها أساسا لكل شعر جميل وأصيل . ومن قصائده العديدة التي أحبها قصيدة بعنوان - فيم العناء - وفيها يقول :
جميع المطارات عندي سواء
جميع الفنادق عندي سواء
وكل ارتحال قبيل الشروق
وبعد المساء
سواء
وكل الوجوه
تطاردني عند كل وداع
تلاحقني عند كل لقاء
سواء
ففيم العناء ؟
أفيق مع الفجر .. أشرب شاي الصباح
أسير إلى غابة الأمس واليوم
حيث تسيل الدماء
أصافح نفس الأيادي المليئة بالعطر
والمكر .. ألمح نفس الرياء
ونفس الخداع ونفس الغباء
ففيم العناء ؟
وحين أغيب
وراء المغيب
يقولون كان عنيدا
وكان يقول القصيدا
وكان يحاول شيئا جديدا
وراح .. وخلف هذا الوجودا
كما كان فبل غبيا بليدا
ففيم العناء ؟
ففيم العناء ؟
إذا كنا جميعا قد عرفنا غازي القصيبي باعتباره شاعرا عربيا في بداية الأمر ، فإن الرواية قد جرفته فيما بعد ، حيث أصدر أولى رواياته بعنوان شقة الحرية ، وهي رواية تتناول مرحلة انتقال صاحبها للإقامة في القاهرة كما سبق أن ذكرت ، ثم تتابعت من بعدها روايات عديدة ، من بينها العصفورية وأبو شلاخ البر مائي والجنية ، وهنا أتساءل : هل أدرك الشاعر أن الشعر قد فقد مكانته التي كانت له من قبل ، ففضل أن يلجأ لفن أدبي آخر ، لكي يعبر عما يجول بخاطره أو يحدد به مواقفه من الحياة والناس بشكل عام ؟ وبالطبع فإن الإجابة على هذا التساؤل تتطلب دراسة متمهلة ، لا تتسع لها هذه السطور .
ربما يكون من العجيب أو الغريب أن أقول إني لم ألتق – ولو مرة واحدة – مع الدكتور غازي القصيبي ، ومع هذا فإن ما بيننا أعمق بكثير من اللقاءات الإنسانية العابرة والسريعة والتي قد تتسم بالمجاملات ، وهكذا أستطيع القول إن ما بيننا كان علاقة روحية جميلة ، وعلى سبيل المثال فإني تلقيت منه نسخة مهداة لي من ديوانه الشهير معركة بلا راية سنة 1971 وهي السنة التي صدر خلالها هذا الديوان عن دار الكتب في بيروت .، وقد تسلمت نسختي وقتها من الصديق الكاتب السعودي عبد الله الماجد والذي تحول فيما بعد إلى صاحب دار نشر هي دار المريخ ، ومن جانبي فإني أرسلت له عن طريق نفس الصديق ديواني – أحب أن أقول لا – ودراستي – اتجاهات الشعر الحر – لكن علاقتنا الروحية توثقت وتعمقت بعد أن أرسلت له نسخة من الأعمال الشعرية الكاملة للدكتور إبراهيم ناجي ، وهي الأعمال التي قمت بتحقيقها وكتبت لها مقدمة مستفيضة ، وصدرت عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة سنة 1996 وكان الشاعر الراحل الكبير – وقتها – سفيرا للمملكة العربية السعودية لدى بريطانيا ، ويقيم في لندن ، وبعد ثلاث سنوات – أي سنة 1999 - تلقيت من الدكتور غازي القصيبي كتابا ممتعا بعنوان – مع ناجي .. ومعها – وهو كتاب لا يضم مختارات من شعر إبراهيم ناجي كما ذكر بعض الذين يكتبون على مواقع الإنترنت ، ومن بينهم من كتبوا عن الشاعر الراحل الكبير باعتبار أنهم من متابعي عطائه الأدبي بشكل دقيق ، فلو أن هؤلاء – سامحهم الله – قد قلبوا صفحات هذا الكتاب ما كانوا قد كتبوا عنه بغير علم ولا متابعة !
مع ناجي .. ومعها – كتاب صدر للدكتور غازي القصيبي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت سنة 1999 .. وهو كتاب حب عميق لشاعر عربي رقيق ، لم يحظ في حياته بما يستحقه من حفاوة وتكريم ، وقد اعتمد كاتبه اعتمادا أساسيا على المقدمة المستفيضة لمجلد الأعمال الشعرية للدكتور إبراهيم ناجي ، وقد سعدت سعادة غامرة حين تلقيت هذا الكتاب الذي كتبه صاحبه ، لأن الدكتور غازي القصيبي كتب على صفحته الأولى إهداء خطيا لي ، مؤكدا أنه قد كتب كتابه هذا بعد أن عرف أعماق ناجي معرفة أعمق وأشمل عندما قرأ ما كنت قد كتبته عنه .
الكتاب يتحدث عن ناجي ، لكن صاحبه يوجه كلامه فيه إلى حبيبة ، ربما تكون حبيبة خيالية أو شخصية حقيقية ، وهو يقول لها – صفحة 35 – كثير من الباحثين يرون أن ناجي كان يتنقل بقلبه الظاميء وشعره المحترق من نجمة إلى نجمة ، إلا أن الشاعر حسن توفيق ، وهو عاشق كبير من عشاق ناجي يذهب عكس هذا المذهب ، ويؤمن أن ناجي لم يحب إلا امرأة واحدة .. واحدة فقط . وتبدو خاتمة هذا الكتاب مؤثرة ورقيقة حقا ، حين يشرح الشاعر الراحل الكبير كيف أن حبيبة ناجي لم تحزن عليه عندما رحل عن دنيانا يوم 24 مارس سنة 1953 ، إيمانا منها بأنه لم يمت ، فكل ما حدث من وجهة نظر قلبها أن ذهب ولم يترك عنوانا له ، وهنا يقول غازي القصيبي لحبيبته الخيالية أو الحقيقية : عندما أذهب أنا ولا أترك عنوانا هل ستقولين : نم نومة هانئة أيها الأمير الحلو ؟! لا أطمع في هذا .. يكفي أن تقولي عني ما قاله ناجي عن نفسه : فراشة حائمة
على الجمال والصبا
تعرضت فاحترقت
أغنية على الربى
هكذا التقينا – الشاعر الكبير غازي القصيبي وأنا – على طريق الحب .. والفضل يرجع لشاعر الأطلال إبراهيم ناجي ، ويبقى أن أقول إن الشاعر الراحل الكبير كان بالفعل فراشة حائمة على الجمال والصبا ، ولا بد أن كثيرين من الباحثين المتمهلين سيهتمون بعطائه الجوهري الذي تغافل عنه الإعلام !
التعليقات (0)