تستحقّ بعض الأمور أن تكونَ الصراحةُ فيها سمةً بالغة الوضوح واضحة للعيان عينيّة التأكيد لأنّ أيّ لبس فيها أو غموض أو احتمالٍ يخلِطُ الأوراق ويعيدُ السامعِ لنُقطةِ البداية التي منها نشأ فيرجعُ بخُفّي حُنين خالي الوفاض كالذي يُدخِلُ الغُربال في بحرٍ لا يعلقُ فيه منه شيءٌ غير بَلَلٍ هو دليل التلبّس بالمحاولة دونما فائدة أو نفع،والحقّ يجبُ أن يُقال حينَ لا يكونُ لغيرِ قوله مكانٌ أو مناسبة ..
والحديث بكلماتٍ موضوعيّة مباشرة فيما يخصّ الأفراد المُحتاجين لمثل هذه المكاشفة أمرٌ ضروريّ حتى تستبينَ الحقائق ويُعرفَ الدّاء ويضعُ المريض والمُعالج كلّ منهما يدَهُ على الجرح إنْ هما أرادا إصلاحاً واستقبالاً للشفاء،واستخدام العبارات الدالّة على معنى واحدٍ لا يوجدُ غيرُه هو الظّاهرة الواجبُ أن تكونَ في القضاء والتحقيق والقانون والمؤسسات التي يتعلّق عملها بتحرير حُكمٍ بعدَ مداولةٍ ومُشاورة ..
كذلك فالعلاقات الشخصيّة التي تتعرّض للشّروخات والمشكلات وهي في الأصل مبنيّة على عقدٍ ربَطَ روحين ببعضهما بالتأكيد أنها تحتاجُ لأن يشرَحَ الطرفان لمن وثقا فيه تفاصيل ما يختلفان عليه دونَ حرَجٍ أو إحراج ليستقيمَ مجالُ الإصلاح ويستوعب الباحثون في المشكلات الأسريّة ما يشتكي منه الرجال أو النساء أو الأولاد ويستطيعونَ بذلك إخضاع الحالات لما يقتنعون به أنه ناجعٌ في تغييرِهم ..
وبالأرقام والعلامات التي تعني لأهل العلوم البحتة الكثير يقضي العلماء في هذا الفنّ وطَرَهم من التحليل والتركيب واستخراج النتائج بلا شكّ ولا ريبٍ ولا ظنّ لأنّ التردّد في نسّقِ هذا المضمار غير معقولٌ البتّة وسلامةُ المُخرجات مبنيّة في الأساس على صحّة القوانين الصريحة المباشرة المفهومة لمن درَسَ وتعلّمَ العلوم الطبيعيّة،إذاً فهم لا يعني لهم الإيهام والكلامُ من وراء الحُجُبِ شيئاً ..
وبالأبيض والأسود فقط ظهَرتْ الصور ـ في زمانٍ ما ـ عالقةً في الأذهان تُعطي انطباعاً واحداً لكلّ من يراها دون زيادةٍ أو نقصٍ غيرَ متأثرةٍ "بمكياج" أو تحسينات تُضيفُ للوجوه سماحةَ منظر ورحابة مبسم وتنيرُ ظلامَ وجوهٍ أخرى وتُعطي لملامح العجَزة ماءَ الشباب ولتجاعيد التقدّم في العمر تأشيرات الدخول لمناطق الإغراء،وكانت "الفلاشات" ذات الصوت العالي والإضاءة الخاطفة الموحّدة في العالم أجمع قادرة على إرهاب من يقفُ للتصوير ليُبدي ما يُكنّه في صدره وقلبه فلا كذَبَ ولا تزييف ..
وماذا بعدُ..وكُلّ ما كانَ قبلَ هذا السّطرِ مستحقٌّ للوضوح والظهور بواقعيّة وموضوعيّة لا غُبارَ عليها في مساحاتٍ لا تسمحُ بغير هذا النّمط من الأداء ولا يبقى في حلبةِ سباقها غيرَ الصادقين الواضحين المُبالغين في إماطة اللثام عن الأشياء ليراها المستهدفون ويسمعها المنصتون ويشمّها أهل الخياشيم المُتحسّسة ويلمسُها أهل الأيادي الطويلة ويطأها أهلُ الأرجل السريعة بيُسرٍ وسهولة؟
ولهذا السؤال أهمية رائجة في مناخٍ هام علَتْ فيه أصواتُ المُنادين "بكشف المستور" والمُطالبين "بفضْحِ المَسْكوت عنه" والداعمين "للِجان الحرّيات بلا حدود" فلا حياةَ للإنسان عندَهم دونَ أن يتصالحَ مع جسدِه ويهتِكَ سترَه،ولا بقاءَ للبشريّة بغير اقتحامٍ للخصوصيّات دون استئذان،ولا معنى ولا طَعم للتصرّفات الترفيهيّة إذا لم تقفز فوق حواجز الخطوط الحمراء والزرقاء والبرتقاليّة ..
وماذا بعدُ..سوى طرائقُ أوصَلتْ الإنسان إلى عكس مُبتغاه،وساقَتْ الآدمي إلى بدايته الصِّفريّة حينَ كانَ عارياً هائماً على وجهه دونَ لغةٍ يُخاطبُ بها أمثاله ودون احتشامٍ يُشعرُه بأنّ هناك حدوداً لمَدّ الأرجل وتمطيط الألسن وطفَحان الكَيْل،وماذا بعدُ..سوى اعوجاجُ الفَطرِة ومَسْخُ الطّبائع والتأثير على المُقدّرات الأساسيّة العاديّة بسيْلٍ جارفٍ من المسموحات الناريّة التي أحرَقَتْ الأخضر واليابس وأهلَكَت الحرْث والنّسل وأصبحَ يتغنّى بها المُجرم قبل المظلوم والجلادُ قبلَ الضّحيّة ..
نحنُ جميعاً تعوّدنا على أن نكونَ صريحين حينَ يستلزمُ الأمر دونما عناء ونكونَ لبِقينَ حينَ توجبُ ذلك الضرورة والعُرف ونكونَ خجولين لمّا ترتبط الكلمات بما لا يُذكر في العادة،وبعْضُنا يُطلِقَ صَفّارة إنذارٍ في الوقت الذي يُضطّرّ فيه لتقشير أغلفة الكلام وتعرية الحروف فيقول قبل البدءِ في هذه العمليّة الاستثنائيّة لمن يسمعُه "على بَلاطَة" مستخدماً ما "للبلاط" من صفاءِ لونٍ ونُعومة ملمس وظهور الأشياء على سطحه للناظرين وسماعِ صوت ما يرتطمُ به وتكسير الزّجاج إن عانَدَه في تنبيه الآذان إلى أنّه سيُخالف المعهود ..
والحيرةُ تأخُذ من وقتي الكثير بسبب ما صنعتْهُ تلك "البلاطة" في تقاليد المجتمعات بعدَ عصور الأعراف والأديان والأخلاقيات،ليأتي زمنٌ يكونُ كلّ الكلام "على بلاطة" وكلّ النتاج الفكري والثقافي والفنّي "على بلاطة" ولا مجالَ هناك للتفكير فيما وراء "الخبر" ولا ما خلفَ "النّص" لأنّ المعدةَ صارت مُتخمةً بالصّريح والواضح والفاضح في كلّ الشئون،ولا فرقَ بينَ حديثٍ عن أسبابِ انتشار مرض "السُّل" في أدغال أفريقيا الجائعة وبين الحديث عن مكانة "جزءٍ من الجسد" عندَ من يعبُدُه ..
وإذا كانَ بعضُ التربويّين اقترحوا أن تكونَ هناك مادّة اسمها "التربية الوطنيّة" فهناك من قالَها "على بلاطَة" واقترح أن تنضمّ لها مادّة يدعونها "التربية الجنسيّة" ولم يسلم الكُتّاب من تقليد الفنّ الرائج والطّاغي وانصرَف دارسون للغويّات إلى تسخير دراساتهم في سبيل تبيين ارتباط "مُسمّيات" المُجون مع احتياجات النّفس الإنسانيّة من المشاعر التي يزعمونَها مثلَ الهواء للرئتين واستخدموا في ذلك نفس "البلاطة" ..
والغريبُ أنّ من أغرتهم صفحات "البلاط" الأبيض بأن يُدَنّسوها بغوايتهم وفِتنهم يأتونَ على الواجبِ تبيينه للناس واللازم التصريح به للعامّة ويستخدمون أقسى أنواع "التورية" و "الاستعارة" و "المَجاز" ويسعَدونَ لأنّ المتلقّي يجدُ في حديثهم مادّة دسمة يستطيعُ أن يصنعَ منها أيّ الموائد شاءَ وأيّ الموضوعات أراد،بل وتصلُح كلماتهم لأن تُدهَنَ بها مُحرّكات الفساد فتجري وسُيور والتضليل فتُجدي نفعاً لهم وحدَهم ..
وماذا بعدُ..ولم يبقَ لنا موطئ قدمٍ إلا وتحته "بلاطة" زجاجيّة ناصعة الإظهار تُبينُ لنا قبلَ غيرنا سوءاتٍ ستَرها الله عنّا وأبيْنا إلا أن نكشفها لبعضنا البعض لمجرّد الفضول المريض،قال تعالى{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتَنَكُمُ الشَّيْطانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} ..
التعليقات (0)