مواضيع اليوم

عين الله تشرق على غرناطة

فارس سعد

2009-07-28 23:01:10

0

عين الله تشرق على غرناطة


هناك مدن لها تاريخ، ولكن غرناطة هي التاريخ نفسه، بقعة زكية من الأرض. أخذت من ثمرة الرمان لونها واسمها، وكانت شاهدًا على أفول حلم وبعث حلم جديد. إنها آخر الممالك التي سقطت من الأندلس القديم. بعد أن ظلت تقاوم وحدها أكثر من مائة عام. قال عنها الشاعر الإسباني لوركا: (إن غرناطة تقف على جبلها وحيدة منعزلة. ليس لها بحر ولا نهر، لا منفذ لها إلا من أعلى. حيث السماء والنجوم). لقد هجرها أهلها من المسلمين، وهدمت مساجدهم، وحرموا من إقامة الشعائر فيها لمدة 500 عام. ولكن صوت الله عاد يرتفع من جديد من فوق تلالها.
 

رحلتنا إلى غرناطة كانت مختلفة، في البداية ضعنا وسط صخب المدينة الأوربية الحديثة والمتاجر والكاتدرائيات وزحام السيارات والمباني الزجاجية. وكان هذا الأمر كفيلا بمحو كل الصور الرومانسية التي رسمناها عنها من واقع كتب التاريخ وذكريات الحزن والأسى على ضياعها. ورغم ذلك فقد واصلنا سيرنا الحثيث إلى حي (البيازين) الذي لم يتغير اسمه القديم لحسن الحظ. كنا نسعى إلى حيث يوجد المسجد الجديد، أول مسجد يقام في هذه المدينة منذ أن طرد منها الإسلام والمسلمون منذ أكثر من خمسمائة عام. صحوة جديدة، وبعث غريب كان علينا أن نشهد ولادته.
عندما وصلنا حي البيازين وجدنا بعضا من غرناطة التي كنا نسمع عنها، مازالت تنتمي بقدر ما إلى تراث المدينة العربية القديمة، خططها وتقسيمها، والأسماء التي تحملها الدروب والشوارع الضيقة المرصوفة بالأحجار الصغيرة، وبيوتها العتيقة بما عليها من اصص للأزهار، ما يجعلها مختلفة عن كتب الثراث هي تلك الكنائس التي ترفع صلبانها فوق جدران المساجد القديمة.
لم نجد المسجد الجديد ولا مَن يدلنا عليه، وحتى أرقام الهواتف التي معنا لا تجد من يَرد عليها، ربما لأنها تغيرت أو حدث نوع من الخطأ الذي لم نفهمه، أخذنا نصف لمن قابلناهم أننا نبحث عن مسجد جديد، يقيمه مسلمون جدد، اختاروا هذا المكان بالذات لأهميته التاريخية، ولكن حاجز اللغة ظل حائلا دون أن يفهموا ما نريد معرفته.

أحد مسلمي غرناطة
كان الجو حارا، وقفنا عند إحدى البقالات لنتناول بعضا من المرطبات، وكأنما قرر القدر أن يشفق علينا أخيرًا فصنع لنا معجزة صغيرة، وضع أمامنا إعلانًا كبيرًا باللغتين العربية والإسبانية. يحمل صورة المسجد الجديد، معلناً أن الافتتاح سوف يكون بعد خمسة أيام. وأن جميع المسلمين مدعوون للحضور، وفي أسفله كان العنوان الذي نبحث عنه (بلازا سان نيكولاس)، أسرعنا إلى سيارتنا المستأجرة وبدأنا نسأل عن هذه الساحة. صعدنا إلى درب علوي ضيق مرصوف بالأحجار، وبدأت المدينة تتكشّف أمامنا من أعلى، وهي رابضة في عمق الوادي الأخضر، تحيط بها جبال سيرانيفادا الشهيرة، كان المشهد ساحر الجمال، والمدينة القديمة تبدو وسط جوهرة نظيفة وهادئة، على أطراف التلال تقف صفوف من الزوار، وأسراب من العشاق وبعض الرسامين. يحاولون استلهام تراث الموريسيكين، أهل الأندلس القديمة الذين أرغموا على ترك مدينتهم. لم أستطع أن أمنع نفسي من المقارنة بين غرناطة القديمة، ومدينة فاس القديمة أيضا، فقد سكن المدينتين الناس أنفسهم، بعد أن ُطرد أهل غرناطة لجأ الجزء الأكبر منهم إلى فاس وهم يحملون مفاتيح بيوتهم القديمة وأحلاماً غامضة بالعودة إليها، صنعوا من فاس مدينة على شاكلة هذا الحلم الغامض. ولكن غرناطة الآن رغم قدمها مازالت فتية بينما فاس القديمة مهددة بالانهيار، المياه الجوفية تأكل قواعد منازلها، وشوارعها الضيقة الجميلة تحولت إلى سوق مليء بالقبح والصخب لا تشم فيها إلا روائح روث البغال، الحيوانات الوحيدة القادرة على حمل البضائع واختراق شوارعها، كان الفرق شاسعًا بين سوء المعاملة التي تعامل بها مدننا القديمة، وذلك الاحتفاء الذي نراه في غرناطة، ومن المؤسف أننا نعامل كل مدننا القديمة بالطريقة الفظة نفسها


مسجد القمة


ظللنا نواصل الدخول في الأزقة المتشابكة، قبل أن نصل إلى قمة التل، فوجئنا بأن الطريق أمامنا مغلق بحاجز خشبي، وبجانب الحاجز كان هناك ميكروفون يتحدث فيه كل من يريد أن يمر بسيارته. عليه أن يبين سبب قدومه إلى المكان حتى يحدّوا من وجود السيارات داخل هذا الجزء التاريخي.
ولم ندر ماذا نقول، كان هناك صوت سيدة ينبعث من الميكروفون يسألنا عن شيء لا نعرفه، أخذنا نصيح: نيو موسكيو، سان نيكولاس، صاحت المرأة وصحنا فيها والسيارات من خلفنا تصيح بأبواقها هي أيضا. وأخيرا بدا أن السيدة قد يئست من ارجاعنا ففتحت البوابة، وسمح لنا بالمرور، أصبحنا فوق قمة التل أخيرا، وبدت أمامنا مجموعة من الكنائس التاريخية تحيط بالهضبة مثل السوار المحكم. كان أكبرها وأكثرها ازدحامًا بالزوار هي كنيسة سان نيكولاس شخصياً. ولكن في مواجهتها يوجد المبنى الأبيض لمسجد غرناطة الجديد، المكان الذي نسعى إليه.
عندما خطونا داخلين إلى الحديقة الصغيرة بدا كأننا ننتقل إلى عالم آخر. كان (وادي شينيل) الذي يحيط بغرناطة يمتد أمامنا مليئا بأشجار الفواكه، وعلى القمة الأخرى المقابلة لنا تماماً يربض أعظم أثر إسلامي في إسبانيا، قصر الحمراء بأسواره وأبراجه القديمة، لم يكن اختيار موقع المسجد عبثاً إذن، فالمنارة الحديثة تستمد ضوءها وعبقها من إرث قديم مازال يقاوم عوامل الزمن والغربة، سرنا وسط ممرات الحديقة الصغيرة، وسط الأشجار التي لم تنم بعد، والزهور الخجلى المفروشة حديثاً، كان المكان يشتعل بالحركة، فريق من العمال يعملون في حركة دائبة، كان المسجد الصغير يأخذ أهبته من أجل يوم الافتتاح، أقبل علينا اثنان من المشرفين مرحبين بنا: أنتم عرب، مسلمون، مرحبا بكم في مسجد غرناطة الجديد، الأول كان اسمه عبدالله، واسمه المسيحي السابق كان استبسيان. والثاني محمد علي، واسمه السابق خوسيه، أشارا لبقية الشباب من العمال، هؤلاء كلهم مسلمون إسبان، الجيل الثاني من المسلمين الإسبان، يعملون في المسجد دون أجر تقريبا، وهذا المعلم الذي يركب الخشب المحفور على البوابة جاء إلينا من المغرب، من مدينة فاس، أجداده كانوا من غرناطة، التاريخ يعاود التنفس من جديد، ندخل إلى بهو المسجد، لم يكونوا قد انتهوا من فرش السجاد بعد، ولكن المنبر كان قائماً من الخشب المطعم بالصدف، والقبلة كانت غائرة في الحائط في اتجاه المسجد الحرام، انظروا إلى تصميم القبلة إنه نفس تصميم القبلة في المسجد الكبير في قرطبة، أما المنبر فهو طبق الأصل من منبر المسجد الأقصى. والرخام نفس رخام قصر الحمراء.

حديقة مسجد غرناطة
لقد جمعنا أهم المعالم الإسلامية في مكان واحد. نصعد إلى أعلى المئذنة، تبدو أبراج قصر الحمراء واضحة، كل من يدخل الحمراء سوف يرانا، سيعرف أن هناك منارة جديدة قد ارتفعت، ولو أنصت قليلاً فسوف يسمع ترتيل القرآن. كل الكنائس التي تحيط بنا كانت مساجد فيما مضى، لذلك حرصنا على أن نبني مسجدنا في هذا المكان، ومنذ 18 عامًا، ونحن نقاوم العقبات حتى نتمكن من اتمام البناء، إنه ليس مجرد مسجد كما ترى، إنه مشروع متكامل، دعنا نهبط تحت الأرض، فهذا البناء الذي يبدو صغيراً له امتداده تحت الأرض، قاعات وغرف كثيرة، هنا سوف نقيم مشروعاً دائماً لتحفيظ القرآن ودراسة اللغة العربية، لاإسلام دون لغة عربية، وهناك قاعة للمؤتمرات والاجتماعات، سوف يأتي إلينا علماء الإسلام من كل أنحاء الأرض. ويجب أن نهيئ مكاناً للاجتماع بهم، وهنا أيضا سنقيم معارض للفنون الإسلامية، سيدرك الجميع أنهم لا يتعاملون مع دين جامد، ولكن مع حضارة كاملة، وهناك حجرة لإمام المسجد، وللأسرة التي تتولى رعايته، وهذا مشغل لتعليم النساء من الفقيرات، نواصل الهبوط، شاهدنا دورين كاملين تحت الأرض، مجهزين بكل مستلزمات هذا المشروع، نعاود الصعود إلى حديقة المسجد مرة أخرى، يشيرون إلى الزهور التي تشق التربة في اعتزاز، يجب أن يعرفوا أن الإسلام جميل، لقد اخترنا حي (البيازين) لأنه المكان الذي شهد زوال دولة الإسلام من أوربا، وإذا قدر للإسلام أن يعود إليها فيجب أن يبدأ من هذا المكان، أقول لهم: (أين أمير الجماعة الإسلامية مالك عبدالرحمن رويز؟). كنت قد تحدثت معه من الكويت وحكى لي عن تاريخ تكوين الجماعة، قالوا لي إنه مشغول، الاحتفال ضخم وسوف يحضره ضيوف من كل أنحاء العالم، يمكنك أن تراه يوم الافتتاح
.


ظللنا نواصل الدخول في الأزقة المتشابكة، قبل أن نصل إلى قمة التل، فوجئنا بأن الطريق أمامنا مغلق بحاجز خشبي، وبجانب الحاجز كان هناك ميكروفون يتحدث فيه كل من يريد أن يمر بسيارته. عليه أن يبين سبب قدومه إلى المكان حتى يحدّوا من وجود السيارات داخل هذا الجزء التاريخي.
ولم ندر ماذا نقول، كان هناك صوت سيدة ينبعث من الميكروفون يسألنا عن شيء لا نعرفه، أخذنا نصيح: نيو موسكيو، سان نيكولاس، صاحت المرأة وصحنا فيها والسيارات من خلفنا تصيح بأبواقها هي أيضا. وأخيرا بدا أن السيدة قد يئست من ارجاعنا ففتحت البوابة، وسمح لنا بالمرور، أصبحنا فوق قمة التل أخيرا، وبدت أمامنا مجموعة من الكنائس التاريخية تحيط بالهضبة مثل السوار المحكم. كان أكبرها وأكثرها ازدحامًا بالزوار هي كنيسة سان نيكولاس شخصياً. ولكن في مواجهتها يوجد المبنى الأبيض لمسجد غرناطة الجديد، المكان الذي نسعى إليه.
عندما خطونا داخلين إلى الحديقة الصغيرة بدا كأننا ننتقل إلى عالم آخر. كان (وادي شينيل) الذي يحيط بغرناطة يمتد أمامنا مليئا بأشجار الفواكه، وعلى القمة الأخرى المقابلة لنا تماماً يربض أعظم أثر إسلامي في إسبانيا، قصر الحمراء بأسواره وأبراجه القديمة، لم يكن اختيار موقع المسجد عبثاً إذن، فالمنارة الحديثة تستمد ضوءها وعبقها من إرث قديم مازال يقاوم عوامل الزمن والغربة، سرنا وسط ممرات الحديقة الصغيرة، وسط الأشجار التي لم تنم بعد، والزهور الخجلى المفروشة حديثاً، كان المكان يشتعل بالحركة، فريق من العمال يعملون في حركة دائبة، كان المسجد الصغير يأخذ أهبته من أجل يوم الافتتاح، أقبل علينا اثنان من المشرفين مرحبين بنا: أنتم عرب، مسلمون، مرحبا بكم في مسجد غرناطة الجديد، الأول كان اسمه عبدالله، واسمه المسيحي السابق كان استبسيان. والثاني محمد علي، واسمه السابق خوسيه، أشارا لبقية الشباب من العمال، هؤلاء كلهم مسلمون إسبان، الجيل الثاني من المسلمين الإسبان، يعملون في المسجد دون أجر تقريبا، وهذا المعلم الذي يركب الخشب المحفور على البوابة جاء إلينا من المغرب، من مدينة فاس، أجداده كانوا من غرناطة، التاريخ يعاود التنفس من جديد، ندخل إلى بهو المسجد، لم يكونوا قد انتهوا من فرش السجاد بعد، ولكن المنبر كان قائماً من الخشب المطعم بالصدف، والقبلة كانت غائرة في الحائط في اتجاه المسجد الحرام، انظروا إلى تصميم القبلة إنه نفس تصميم القبلة في المسجد الكبير في قرطبة، أما المنبر فهو طبق الأصل من منبر المسجد الأقصى. والرخام نفس رخام قصر الحمراء.

حديقة مسجد غرناطة
لقد جمعنا أهم المعالم الإسلامية في مكان واحد. نصعد إلى أعلى المئذنة، تبدو أبراج قصر الحمراء واضحة، كل من يدخل الحمراء سوف يرانا، سيعرف أن هناك منارة جديدة قد ارتفعت، ولو أنصت قليلاً فسوف يسمع ترتيل القرآن. كل الكنائس التي تحيط بنا كانت مساجد فيما مضى، لذلك حرصنا على أن نبني مسجدنا في هذا المكان، ومنذ 18 عامًا، ونحن نقاوم العقبات حتى نتمكن من اتمام البناء، إنه ليس مجرد مسجد كما ترى، إنه مشروع متكامل، دعنا نهبط تحت الأرض، فهذا البناء الذي يبدو صغيراً له امتداده تحت الأرض، قاعات وغرف كثيرة، هنا سوف نقيم مشروعاً دائماً لتحفيظ القرآن ودراسة اللغة العربية، لاإسلام دون لغة عربية، وهناك قاعة للمؤتمرات والاجتماعات، سوف يأتي إلينا علماء الإسلام من كل أنحاء الأرض. ويجب أن نهيئ مكاناً للاجتماع بهم، وهنا أيضا سنقيم معارض للفنون الإسلامية، سيدرك الجميع أنهم لا يتعاملون مع دين جامد، ولكن مع حضارة كاملة، وهناك حجرة لإمام المسجد، وللأسرة التي تتولى رعايته، وهذا مشغل لتعليم النساء من الفقيرات، نواصل الهبوط، شاهدنا دورين كاملين تحت الأرض، مجهزين بكل مستلزمات هذا المشروع، نعاود الصعود إلى حديقة المسجد مرة أخرى، يشيرون إلى الزهور التي تشق التربة في اعتزاز، يجب أن يعرفوا أن الإسلام جميل، لقد اخترنا حي (البيازين) لأنه المكان الذي شهد زوال دولة الإسلام من أوربا، وإذا قدر للإسلام أن يعود إليها فيجب أن يبدأ من هذا المكان، أقول لهم: (أين أمير الجماعة الإسلامية مالك عبدالرحمن رويز؟). كنت قد تحدثت معه من الكويت وحكى لي عن تاريخ تكوين الجماعة، قالوا لي إنه مشغول، الاحتفال ضخم وسوف يحضره ضيوف من كل أنحاء العالم، يمكنك أن تراه يوم الافتتاح


الإسلام يبعث


كان بيننا موعد آخر من أجل هذا الحدث الاستثئناثي، ولكن كيف عاد الإسلام إلى إسبانيا مرة أخرى؟ كيف عاود الإسبان اعتناقه طواعية واختيارا دون غزو ودون سيف؟ كيف اختاره طواعية آلاف الإسبان ديناً لهم، ولم تعد تخلو أي مدينة كبرى في هذا البلد من مسجد مهما كان صغيراً ومن تجمع إسلامي يؤمه، وكيف أصبحت غرناطة هي قلب هذه التجمعات، والنموذج الإسلامي الذي يريدون أن يقدموه لأوربا.
إنها قصة تعود إلى العام 1975، عندما اجتمع في قرطبة خمسة رجال مع الداعية الشيخ عبدالرحمن السيوفي، وهو واحد من أوائل الإسبان الذين دخلوا الإسلام، وسافر إلى المغرب ثم إلى مكة. وأصبح يجيد العربية وعلوم القرآن، وكان قد دعا الرجال الخمسة إلى الإسلام وجعل منهم نواة لبعث الدين الجديد، كان عليهم أن يعيدوا تجربة الهجرة الأولى عندما ولد الإسلام غريباً وتكون من عدة رجال هاجروا مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة، لذلك أمر الشيخ الرجال الخمسة بالعودة إلى مدنهم المختلفة، وأن يبدأوا هم أيضاً بالدعوة. وقد تكلل هذا الأمر بالنجاح في العديد من المدن، وفي غرناطة وفي حي البيازين على وجه التحديد توجد خمسمائة أسرة دخلت الإسلام، ومثلت العودة لهذا الحي بالذات أهمية قصوى في إنجاح الدعوة.
عندما قابلت الشيخ مالك عبدالرحمن رويز أمير الجماعة الإسلامية في غرناطة قال لي: (من وجهة نظر القانون الدولي والإسباني فإن لنا حق الوجود هنا وإقامة المنشآت الخاصة بنا ليس بوصفنا مواطنين إسباناً فحسب ولكن كمسلمين ايضاً. إن المعاهدة التي عقدها السلطان عبدالله الصغير مع الملك الإسباني فرناندو والملكة إيزابيلا منذ 500 عام قد أكّدت حق المسلمين في الإبقاء على بيوتهم وأماكن عبادتهم، وإذا كان الملوك الإسبان قد انتهكوا هذا الحق بسبب التعصب تارة، وبسبب محاكم التفتيش تارة أخرى، فإن المعاهدة مازالت سارية، ويجب احترام بنودها، كما أن القانون الأوربي الذي ينص على حرية الدين يجب أن ينطبق علينا أيضا، من أجل هذا كان إصرارنا على إقامة هذه المؤسسة في غرناطة حتى تكون قلب الإسلام في أوربا).
صمم المسجد - أو بالأحرى المجمع الإسلامي - وفق التقاليد الأندلسية المعمارية، وبدئ في وضع الأساس في فبراير عام 1998، وقسمت مساحته إلى قسمين، مبنى المسجد نفسه وتبلغ مساحته 600 متر مربع، والمركز الإسلامي ومساحته 700 متر مربع تحيط بهما حديقة وفناء اتساعهما 800 متر مربع يربط بينهما ثلاثة ممرات بحيث يمكن أن تكون هناك أماكن مخصصة لدخول الرجال وأخرى للنساء، كما يمكن أن تدور فيه العديد من الأنشطة دون أن تتعارض مع بعضها البعض، وسوف يكون المسجد والحديقة مفتوحين دائماً طوال ساعات النهار للرد على أي استفسارات للزائرين من الإسبان وغيرهم.

حي البيازين القديم في غرناطة
وترتفع المئذنة إلى 14 متراً، وقد كُتب عليها عبارة (لا إله إلا الله)، بالخط الكوفي، ويتكون المبنى كله من ثلاثة طوابق، أحدها فوق الأرض والآخران تحتها. ويواصل مالك عبدالرحمن قوله: (إن المسجد هو عماد الجماعة الإسلامية ومركز التناغم الاجتماعي لها، لا مكان للكراهية أو الحقد في مسجد غرناطة، وسوف تكون هذه المدينة هي النواة لأجيال من المسلمين الذين سينتشرون في أوربا ليسوا دخلاء على المجتمع بل جزءاً منه، لذلك لم نقم هنا مكاناً للصلاة فقط، بل مركزاً للدعوة الحقيقية حتى يعرف الجميع الإسلام على أصوله الصحيحة دون تشنج ودون دعاوى للإرهاب
.


.

صوت الله يعلو


بعد ذلك بخمسة أيام، أي في اليوم العاشر من يوليو 2003 كان علينا أن نعود إلى غرناطة في اليوم المحدد لافتتاح المسجد، لم نضل طريقنا هذه المرة، ولكن كان علينا أن نخوض نقاشاً طويلاً مع السيدة الإسبانية التي تتحدث عند حاجز الطريق، ذكرنا لها اسم المسجد، واسم السفارة الكويتية، ووزارة الإعلام، وكل الأسماء الرسمية التي تذكرناها، وفي النهاية سمحت لنا بالمرور. ولكن الشرطة عادت لتوقيفنا مرة أخرى أسفل المنحدر بسبب الإجراءات الأمنية، طلبت منا أن نترجّل من السيارة وأن نواصل الصعود سيراً على الأقدام، كان الجو حاراً، ولكن وجدنا العشرات من الرجال والنساء اللواتي يضعن الحجاب على رؤوسهن وهم يواصلون الصعود في إصرار، وعندما اقتربنا من الساحة فوجئنا بالزحام الذي يحيط بالمكان، كان المركز الإسلامي يعيش أهم لحظة في تاريخه، لحظة الولادة.
عشرات من الرجال والنساء والشباب يلتفون حول باب المسجد من الخارج، يحاولون أن يجدوا لهم مكاناً، وحراس البوابة يحاولون هم أيضاً إفهام الجميع أن الحديقة تكاد تتسع للضيوف الرسميين والإعلاميين، ماأدهشني هو ذلك العدد من الرجال الذين يرتدون الطرابيش الحمراء، بمن فيهم المشرفون على تنظيم الحفل، وبالقرب من المدخل كان هناك بائع طرابيش رائج الحال، يبيع الطربوش الواحد بعشرة (يورو)، ولاأدري كيف تسلل هذا التأثير التركي إلى جو الاحتفال، ولا كيف اعتقد العديد من المسلمين الإسبان أن الطربوش من علامات الإسلام، ولكن هذا لم يكن وقت التساؤل على أي حال، كان الزحام داخل حديقة المسجد كبيراً جداً، ومالك عبدالرحمن رويز نفسه يرتدي الطربوش الأحمر وهو يلقى كلمة الافتتاح، يذكر اسم الله بالعربية، وبضعاً من الآيات القرآنية، ثم يكمل الخطاب بالإسبانية، كان ضيف شرف الحفل هو الشيخ د. سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة الذي ساهم بجهده وأمواله في إقامة هذا المركز يجلس متواضعاً ومبتسماً وهو يستمع للكلمات، ورغم أنه دارس جيد للتاريخ فقد كان مثلنا غير مصدق أنه يعيش هذه اللحظة التاريخية، ونهض ابنه محمد نيابة عنه وألقى كلمة بالإسبانية هو أيضاً.
وحانت اللحظة عندما أزيح الستار عن اللوحة التذكارية للمسجد، وتعالت فجأة أصوات التكبيرات عالية تشق عنان السماء، وتصل إلى ابهاء القصر الحمراء الراقد في سكونه، وإلى نهر حيدرة، ووادي شنيل، وقصبة البيازين، إلى كل المساجد التي طمرت وهدمت وشوّهت، وكل الذين ماتوا وهم يدافعون عن المدينة وكل الذين رفضوا التسليم، وقاوموا التنصير وعذبوا وشوهوا وطردوا، وتعالت أغاريد النساء المغربيات، واغرورقت عيون الفتيات الصغيرات بالدموع، وأخذ الجميع يعانقون بعضهم بعضاً دون تعارف، يكفيهم أنهم عاشوا معاً هذه اللحظة، اقتربت من الشيخ القاسمي وأنا أقول له: ما شعورك يا شيخ في هذه اللحظة؟ قال وهو يحاول أن يتمالك مشاعره: اسم الله يتردد في غرناطة، مَن كان يصدّق أن شمس الله ترتفع هنا من جديد؟
كنا نعيش بالفعل لحظة إشراقة جديدة، لم تكن للتباكي على الأندلس الضائع، ولا الحلم بعودة زائفة له، ولكن من أجل فرصة جديدة للتعايش بين الأديان والحوار بين الحضارات، أن نعيد بعضاً من تجربة التمازج التي كانت هذه الأرض شاهدة عليها، تجربة عمرت ما يقارب السبعمائة عام، ولم يعد هناك مجال للعداوة أو للثارات القديمة، كان هذا هو الشعور الذي يغمر الحاضرين جميعا، وهم يتجولون في أنحاء المجمع، ضيوف من تركيا وأساتذة من المغرب وسفراء الدول العربية، والكثير من المسلمين الأوربيين، من إنجلترا وفرنسا وغيرهما. بل إن العديد من الإسبان كانوا يوزعون بطاقات عن عناوين مساجدهم وتجماعتهم في مختلف المدن الإسبانية، وبدا واضحا أن خمسة قرون من محاولة تغريب الإسلام عن هذه الأرض لم تمنع إشراقته من جديد
.


شاهد الحزن والأفول


على الجانب الآخر من التلال، يتطلع إلينا الشاهد الثاني، شاهد على غروب الأندلس، قصر الحمراء، واحد من أعظم ما خلفته الحضارة الإسلامية من آثار وأكثرها تعاسة، ورغم أنه كان عنواناً للأبهة ونشوة الصعود فإنه كان أيضاً عنواناً للاستسلام والهزيمة، كنت أسعى إليه ونفسي تموج بالمشاعر المتضاربة، كان علينا أن نهبط من فوق كل التلال، وأن نخترق قلب المدينة الأوربية، وأن ندور على الطريق الطويل المؤدي إلى الحمراء مخترقين سفوح جبال سيرانيفادا. وزيارة الحمراء ليست عادية، فعليك أن تحجز مكاناً لك قبلها بأيام طويلة، وقد حجزنا من أجل هذه الزيارة قبل أن نشرع للسفر من الكويت، ولم يتم تحديد اليوم فقط، ولكن تم تحديد ساعة الزيارة أيضاً، لو تأخرنا عن هذا الموعد نصف ساعة فقط فسوف تلغى الزيارة بأكملها، ولم ندرك سبب هذا التشدد إلا ونحن على أبواب القصر بالفعل، نشاهد أمواج البشر من كل الأجناس وهي لا تكف عن صعود السلالم العتيقة، واجتياز حدائق جنة العريف وصولاً إلى قصر بني نصر.
نصعد فوق الدرج المتآكل لقصر الحمراء أو كما يسمونه باللغة الإسبانية (الهامبرا), كان مازال صامداً وراسخاً رغم الزلازل ومحاولات الهدم والحرائق والتفجيرات التي مرت عليه، دليل على محنة الحضارة الإسلامية على هذه الأرض، نخطو إلى أول الأبواب (باب الرمان)، عقد حجري ضخم محفور عليه ثلاث رمانات، وهو ليس رمزاً للقصر بقدر ما يدل على غرناطة التي يعني اسمها (الرمانة) باللغة الأيبيرية، ويقودك هذا الباب إلى غابة وارفة الظلال رغم أن الصعود فيها مجهد من كثرة الدرج الذي عليك أن تواصل الصعود عليه. قبل أن تجتاز باباً آخر هو باب الشريعة، تلفك أجواء الحمراء شيئاً فشيئاً، وتكتشف أنك تدخل مكاناً يرقد على حافة الحلم والواقع، إنه حلم الأماني الذي تخيله ملوك غرناطة، وهو العالم المتكامل الذي تحيط به الأسوار المنيعة، ورغم ذلك فهو المكان نفسه الذي وقعت فيه وثيقة الاستسلام.
ذات لحظة في القرن العاشر الميلادي، قرر زعيم البربر باديس بن حبوس أن يبني لنفسه قلعة فوق هذه القمة المرتفعة. التي ترتفع عن الأرض بأكثر من سبعمائة متر، خيّل إليه أن هذا كفيل بحمايته من الفتن التي تدور أسفل المدينة بين العرب والبربر والمولدين. بنى قصراً ودار حكومة وقلعة وأحاطها جميعاً بسور محكم، كان هذا هو مولد قصر الحمراء، ثم ما لبثت أن ضاعت منه ودخلها محمد بن الأحمر النصري، وحاول أن يجعل منها حلم الأمان هو أيضاً، ولكنها تنقلت من سلطان إلى آخر، كل واحد يزيد من مبانيها ويكثر من تحصينها، ولكنها لم تمنح الأمان لأحد، لم يكن هناك غالب إلا الله، ولم يكن باقياً إلا وجهه ذو الدوام بعد أن يتفتت كل البنيان..

قاعة الأسود في قصر الحمراء
على الجدران يتكرر النقش، بنفس الصيغة، (لا غالب إلا الله) كأنها رقياً وتعويذة، كان السلطان الذي كون مملكة غرناطة من فتات الممالك الهاوية قد دفع ثمن ذلك غالياً، خيانة وغدراً وتحالفا مع العدو، وحصاراً لإشبيلية، لذلك كان يدفع بهذه الرقية كل هواجس الندم عن روحه المنهزمة، ورغم ذلك ووسط هذا الحزن يوجد جمال بهي لا تتصوره عين بشر، نقف على حافة البركة الموجودة في فناء الريحان، تعبق أشجاره المكان وتحيط بنا الأعمدة الرخامية والأفاريز المحفور عليها العديد من أبيات متتالية من الشعر، نعبر منه إلى بهو السفراء عندما كان هذا المكان هو قلب الأندلس، وكانت القبة الشاهقة التى تزينها زخارف تشبه النجوم هي سماء أخرى، تقودنا أقدامنا إلى فناء الأسود، نافورة صغيرة تحيط بها مجموعة من الاسود الرخامية الصامتة، تلتف حولنا غابة من الأعمدة الرفيعة يبلغ عددها مائة وأربعة وعشرين عمودأ، رشيقة كقدود العذراوات، تتوالى الأفنية والأبهاء، ولا نكف عن الدهشة والدوران وقد وقعنا جميعاً تحت هذا السحر الطاغي.
تقترب مني سائحة يابانية وتسألني بالإنجليزية إن كنت عربياً، وعندما أومئ بالإيجاب تطلب مني أن أقرألهابعضاً من الأشعار المحفورة على الجدران، يشعرنيالطلب ببعض من الغرور، فقداكتشفت هذه السيدة وحدها أن جزءاً من هذه الحضارة يخصني. وبدأت أقرأ لها أبياتاً من الشعر (تبارك من ولاك أمر عباده، فأولى بك الإسلام فضلا وأنعما) كانت القصيدة طويلة، بجانبها قصائد أخرى، ممتدة على طول الجدران، ولكن معظمها ركيك ومتكلف ومليء بالأخطاء الإملائية، كيف يمكن ألا يهتم السلطان - أيّ سلطان - من الذين توالوا على إنشاء هذه التحفة المعمارية الجميلة بالتدقيق في الكلمات التي تحفر على جدران قصورهم خاصة وهي مديح خالص لهم، لم أعرف السبب إلا بعد أن قرأت تاريخ الحمراء بعد السقوط.

قصر الحمراء







.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !