لا أتوقف كثيرا عند المعانى والرموز التى تولدت عنها الاحتفالات الدينية , ولكن الذى أتوقف عنده دائما , وأ طيل التأمل فى دلالته هو احتفال الشعب المصرى بهذه الأعياد , وما يضيفه إلى مناسبتها من عوامل الإسعاد وما يضفى عليها من أسباب البهجة , نعم إن للشعب المصرى طقوسه الخاصة فى الاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية , وأى إنسان حضر إلى مصر فى أية مناسبة من مناسبات الأعياد أو قضى شطرا من شهر رمضان فى قاهرة المعز لا بد أنه قد استشعر هذا المعنى , معنى تطريز المصرى للمناسبة بخيوطه الخاصة , وإضفاء وجدانه الفنى على المعنى الدينى المجرد ليخرج هذا المزيج الرائع الداعى للفرح والجالب لأسباب السعادة التى لا شك كانت هى القوة الدافعة التى بها قاوم الإنسان المصرى كل ما واجهه من صعاب وتحديات وظلت ابتسامته على وجهه فى كل الحقب والعصور . وهنا أتوقف عند عيد الغطاس الذى تحل ذكراه الليلة وأهنئ الشعب المصرى بهذه المناسبة , وأعود بذاكرتى إلى أيام وليال خلت , أتذكر كيف كان أهل قريتى جميعا يحتفلون بهذا العيد ويسمونه ليلة - الغطسة - , وكان من طقوس هذه المناسبة أن يشترى رب الأسرة اعواد القصب فى ربطات كل ربطة تحتوى على بضعة أعواد , ويطلق عليها - لبشة - كما يحضرون المحمصات مثل الفول السودانى واللب , ويسهرون هذه السهرات التى تأتلف فيها الأسرة ويجتمع معها الأهل والأقارب والأصدقاء . وكانت هناك بعض الأساطير التى تصل إلى درجة المعتقدات , وهى أنه فى لحظة معينة من ساعات الليل البارد سوف تحدث سخونة لجميع المياه , وأن من يصادف هذه اللحظة ويغطس فى الترعة أو المجرى المائى الذى يمر بالقرية والذى لا يزالون يطلقون عليه اسم البحر فسوف يمر عليه العام دون أن يصاب بأى مرض , كما كانو يربطون بين هذه الليلة وبين نمو بعض المحاصيل أوحاجة بعضها للمطر , وتلك عادات موروثة من زمن الفراعنة ومرت عليها قرون بعد الفتح الإسلامى دون أن يعتريها أى تغيير أو تخضع لنهى أو تحريم . المهم الذى أريد أن أؤكد عليه أن كل أهل القرية كانوا يحتفلون بليلة الغطسة , وينتظرونها كل عام , ويتمنون ان تسقط فيها الأمطار لأن هذا بشير خير للجميع , ولقد ظللت حتى بدايات الشباب وأنا لا أعرف أن هذه الغطسة مناسبة دينية مسيحية , وأنها ترمز إلى تعميد السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان , لأن احتفال الأهل من مسلمين ومسيحيين لم يكن يتوقف عند الرمز الدينى كثيرا أو يبحث له عن تفاسير وتعليلات , , مثل احتفال الجميع بعيد الفطر بعمل الكعك , وبرمضان بالكنافة والمكسرات إلى آخر هذه الطقوس التى تبهج الحياة وتجدد الأمل وتوثق من الروابط الإنسانية بين الجميع دون نظر إلى اختلاف الدين . نعم أجدنى أعود بذاكرتى وخيالى طائفا بأرجاء مصر الجميلة المحبة التى كانت محلقا فى سمائها الصافية المزهرة بورود الحب والفن والتسامح وعشق الحياة . الآن انتشرت دعوات بتحريم الاحتفال بأعياد المسيحيين , بل وتحريم تهنئتهم بهذه الأعياد , هذه الفتاوى التى تجرف الوجدان المصرى وتصيب قلبه بالجفاف وخياله بالجدب وعقله بالتصحر , فتاوى تجرد هذا الشعب الصانع للحضارة من أسبا ب تفوقه الإنسانى , وتقتل فيه حب الحياة وتفكك أواصر وحدته وتآلفه دون سند أو مرجعية إلا مرجعيات التطرف والهرطقة . إننى أتمنى أن يظل المصريون يحتفلون بطريقتهم بكل الأعياد , وأن يجددوا أسبابا للبهجة والسعادة وعشق الحياة , لتظل الأغنيات تصدح على ضفاف النيل , لأن الدين ما كان يوما داعيا للتعاسة, ومناقضا للبهجة البريئة التى تأخذ بيد الناس وتساعدهم على مواجهة تحديات ومصاعب الوجود . كل عام وكل المصريين بل وكل البشر على طريق الحب والخير والسلام
التعليقات (0)