الظلم وحده لا يكفى لإشعال ثورة
عيد العمال بين تقلبات السياسة وفن الرواية
بقلم : حسن توفيق
ماذا يحدث اذا وقع ظلم علي انسان منا؟.. الأمر يتوقف عليه هو بالذات، فإذا كان هذا الانسان يحس انه مظلوم فانه يحاول ان يتصدي للظلم الذي وقع عليه، اما اذا كان لا يهتم بما جري، ويتصور انه قضاء وقدر، فانه لا يتحرك ضده، بل يستسلم له. الظلم قديم قدم الإنسان نفسه فوق هذه الأرض، وقد تنبه اليه شعراؤنا العرب القدامي، واشار اليه شاعر عظيم منهم قائلا:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة.. فلعلة.. لا يظلم
وهناك شاعر عظيم آخر - طرفة بن العبد- يؤكد أن ظلم الأقارب الأقوياء للضعفاء منهم أصعب من وقع السيف إذا انغرس في الجسد:
وظلم ذوي القربي أشد مرارة علي النفس من وقع الحسام المهندِ
علي المستوي الانساني العام، فان الظلم وحده لا يكفي لإشعال ثورة ضده، اذ لابد من ان يشعر المظلومون بانهم حقا مظلومون فيتحينون الفرص ويترقبون الظروف التي تسمح لهم بان يثوروا لكي يعدلوا ميزان الأوضاع المقلوبة. نحن الآن في أجواء عيد العمال العالمي وهذا العيد - الأول من مايو/آيار من كل سنة - هو مظهر من مظاهر الشعور بالظلم والتصدي له ومجابهته.
متي بدأ الاحتفال بهذا العيد؟
الاجابة التاريخية تؤكد انه في سنة 1869 تأسست في الولايات المتحدة الأمريكية منظمة فرسان العمل التي سعت لتحسين امور العمال وتخفيض ساعات العمل، ومع تطور الحركة النقابية هناك نجحت قيادات نقابية في تكوين هيئة للعمال سنة 1886، وتبنت هذه الهيئة الدعوة لاعتبار الاول من مايو من تلك السنة يوما للاضراب العام من اجل تخفيض ساعات العمل الي ثماني ساعات في جميع المهن والصناعات، ولم يكن الامر سهلا وقتها، فقد وقعت صدامات عنيفة بين العمال الذين يطالبون بهذه الحقوق والشرطة التي ارادت أن تقمعهم وأن تمنعهم من الحركة، وهكذا سقط قتلي من العمال، كما تم إعدام أربعة رجال من قياداتهم.
كارل ماركس - ماوتسي تونج- تشارلز ديكنز- مكسيم جوركي- بيرل بك.. خمسة أسماء اسهم اصحابها في محاولة إزاحة الظلم من كل مكان يهيمن عليه، لكن لكل منهم طريقته الخاصة التي انطلق منها، فكارل ماركس - الفيلسوف الالماني والسياسي والمنظر الذي ولد يوم 5 مايو 1818 ورحل عن عالمنا يوم 14 مارس 1883 هو صاحب البيان الشيوعي الشهير في العالم كله، وهو البيان الذي جاءت خاتمته اقرب ما تكون الي قصيدة ثورية عنيفة: يا عمال العالم اتحدوا… فلن تخسروا سوي قيودكم وستربحون عالما بأسره.. وما تزال صيحة ياعمال العالم اتحدوا كلما حاق بالعمال ظلم حتي وان اختلفت الصياغات، وتنوعت اللغات التي تنطق بها.
اما الزعيم الصيني العظيم ماوتسي تونج، فقد ولد يوم 26 ديسمبر سنة 1893 في مقاطعة هيوفن من أب فلاح، وعلي الرغم من ايمانه بالفكر الماركسي- الشيوعي، فان عبقريته جعلته يقوم بتعديل ما آمن به، منطلقا من خصوصية وطنه -الصين- فقد وجد ان غالبية الكادحين في وطنه ليسوا من العمال وانما من الفلاحين الذين استطاع ان يقودهم عبر المسيرة الطويلة الشهيرة ، وما قام به ماوتسي تونج من تعديل للنظرية الماركسية المعتمدة علي العمال دون سواهم، هو ما اشتهر باسم الماوية ولم يكن ماوتسي تونج مجرد زعيم سياسي عظيم، بل كان مفكرا متعمقا وشاعرا مبدعا، لكن كل هذه الاهتمامات تركزت علي إزاحة الظلم الذي كان يتربع علي عرش الصين.
إذا كان كارل ماركس وماوتسي تونج من الساسة، فإن تشارلز ديكنز ومكسيم جوركي وبيرل بك من الأدباء العالميين الكبار الذين صوروا بشاعة الظلم وقسوة الحياة علي المظلومين، سواء أكانوا من العمال أو الفلاحين أو من آخرين تتشكل منهم المجتمعات الإنسانية. ولد الكاتب البريطاني تشارلز ديكنز يوم 7 فبراير 1812 ورحل عن عالمنا سنة 1870، وقد ولد ضمن عائلة كبيرة وفقيرة في نفس الوقت، وكتب أربع عشرة رواية كبيرة، ترجمت الي الكثير من لغات العالم، ومنها لغتنا العربية الجميلة، ومازلت إلي الآن أعود لقراءة بعض هذه الروايات، وبالذات ديفيد كوبر فيلد و قصة مدينتين و أوليفرتويست وهي الرواية التي كنت أعايش أحداثها كأنها تحدث أمامي عندما كنت طالبا بالمرحلة الثانوية، وفي روايات تشارلز ديكنز ما يسحرنا وما يجذبنا باستمرار، ففيها وصف دقيق للشخصيات، وفيها وصف تفصيلي لمختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، وفيها تصوير إنساني مفعم بالتعاطف مع كل من يقهرهم الظلم.
أما مكسيم جوركي (ولد سنة 1868 ورحل عن عالمنا 1936) فإنه - كما نعرف - من أبرز الشخصيات الأدبية في زمانه، ومن أعمقها تأثيرا في الأدب الروسي والعالمي، ومن بين رواياته العظيمة الأم التي كتبها سنة 1907 ورواية مسألة أرتامولوف التي صور يها أثر الثورة السوفيتية علي ما كان لدي التجار من جشع يغزو أرواحهم، وقد كتب هذه الرواية سنة 1925، وبالطبع فإن العمال قد حظوا باهتمام كبير من قبل هذا الكاتب الروسي العالمي الخالد
وفيما يتعلق بالكاتبة الروائية بيرل بك فإنها أمريكية (ولدت سنة 1892 ورحلت سنة 1972) وقد عملت بالتبشير بالديانة المسيحية في الصين، ومن أشهر رواياتها الأرض الطيبة التي أعيد قراءتها ما بين حين وآخر، لأنها تتضمن تصويرا إنسانيا رائعا لحياة الفلاحين الفقراء في الصين، وهم الفلاحون الذين اعتمد عليهم الزعيم ماوتي تونج، وعلي أكتافهم تحقق للصين ما تحقق من تقدم مذهل جبار. ما أريد أن أقوله في أجواء عيد العمال العالمي أن علينا ان نتسلح بالشجاعة التي تتيح لنا أن نواجه الظلم دون أن نستسلم له، وذلك في نطاق اهتمام كل إنسان منا، وقد أشرت إلي خمسة أسماء، منها اسمان سياسيان ومنظران، أما الأسماء الثلاثة - ديكنز وجوركي وبيرل بك - فإنها أسماء لثلاثة مبدعين كبار في فن الرواية، وقد استطاع ثلاثتهم أن يجعلونا ننتفض ضد الظلم في كل مكان، وهكذا حال الأدب العظيم الذي ينتصر لقيم العدالة والمساواة والمحبة بين الناس، وهي القيم التي يحاول أن يدوسها الظالمون والمستبدون والكارهون للبشر
التعليقات (0)