عيد البوريم بين بابل وفارس
ملك فارس وزوجته اليهودية الملكة استير وهامان يركع امامهما
يحتفل الشعب اليهودي في هذه الايام بعيد البوريم او عيد النصيب الذي يصادف يومي الرابع عشر والخامس عشر من شهر آدار العبري من كل عام، وقد وردت قصة العيد في سفر استير الواقع في جزء (كتوفيم) في التناخ العبري.
ويحتوي كتاب اليهود المسمى (تناخ) على ثلاثة أجزاء تتفاوت في درجات القدسية:
التوراة: وتحتوي على خمسة أسفار وهي الاسفار التي نزلت على موسى وهو سيد الانبياء عند اليهود، من هنا تتمتع اسفار التوراة برتبة عالية من القداسة ودرجة نبوة عالية.
اسفار الانبيياء: وعددها ثمانية اسفار وهي الاسفار التي نزلت على انبياء اسرائيل على مر العصور، وتنسب اليها درجة نبوة اقل من اسفار التوراة.
كتوفيم: وعددها أحد عشر سفرا دوّنها علماء اليهود بوحي روح القدس بعد انقطاع النبوة، وتُنسب اليها درجة نبوة اقل من اسفار الانبياء.
وسفر استير هو السفر الثامن من جزء كتوفيم حسب ترتيب الاسفار في التناخ العبري، ويختلف هذا الترتيب عندما نقرأ ترجمة التناخ باللغة العربية لأسباب يضيق عنها مجال الحديث هنا، وهي ترجمة قامت بها الكنائس المسيحية لكون التناخ جزء لا يتجزأ من كتاب النصارى، ويطلق النصارى على التناخ اسم (العهد القديم).
يروي سفر استير الذي دوّنه علماء اليهود ابان القرن الخامس ق.م في فترة عزرا الكاهن ونحميا والي يهودا، يروي قصة نجاة الشعب اليهودي في الفترة التي أعقبت أفول نجم مملكة بابل وقيام امبراطورية فارسية مترامية الاطراف على أنقاضها.
وقام نبوخذنصر ملك بابل بشن حملة عسكرية على مملكة يهودا ابان القرن السادس ق.م ودمر مدينة اورشليم (القدس) واحرق بيت المقدس (هيكل اليهود) وأجلى العديد من السكان اليهود الى بابل، ولم يدم هذا الحال طويلا، فبعد حوالي خمسين عاما من هذه الواقعة، شن الملك الفارسي قورش هجوما كاسحا على الامبراطورية البابلية، وسقطت بابل خلال هذا الهجوم ووقعت جميع مستعمراتها تحت سيطرة الفرس، وأصدر قورش عفوا شاملا عن اليهود وسمح لهم بالعودة الى يهودا وبناء بيت المقدس من جديد، وتعد هذه الحقبة في التاريخ اليهودي بداية عهد بيت المقدس الثاني. وتميزت فترة الحكم الفارسي على ارض اسرائيل التي امتدت الى قرنين من الزمان، بالتسامح الديني خلافا لما كان عليه الوضع خلال الفترة البابلية.
وتصف مجلة استير (مجيلاة استير) او سفر استير، هذا التحول الدرامي الذي طرأ على البلاد وعلى الشعب اليهودي حيث كتبت له النجاة برعاية الهية بعد ان كان معرضا للفناء، وبدّل الله الشقاء بالازدهار، والحزن بالفرح، والهم والغم بالغبطة والسرور، والكبت والاضطهاد بالحريات الدينية والسياسية، وكشفت استير عن هويتها اليهودية امام الملك الفارسي بعد ان تكتمت على يهوديتها في البداية، وأعدم هامان وزير البلاط الفارسي الذي نصب الشراك والمكائد للشعب اليهودي، ويتجلى كل هذا في الاحتفالات التنكرية التي أصبحت من مظاهر عيد البوريم في اشارة الى التحولات الدرامية التي شهدها الشعب اليهودي في تلك الحقبة المتقلبة.
وحظي اليهود بحكم ذاتي في مملكة يهودا في ظل الحكم الفارسي، وتم تعيين نحميا احد ابناء الشعب اليهودي واليا على يهودا بمرسوم ملكي، كذلك تم تعيين عزرا لمنصب كبير الكهنة اليهود في أورشليم، وقام كبار علماء اليهود في هذه الحقبة بكتابة سفر استير تيمنا بالفتاة اليهودية استير بطلة الرواية، ويتميز سفر استير بالعبارات المجازية والامتناع عن ذكر الاسماء صراحة تجنبا لأثارة حفيظة الفرس، وكان هذا الاسلوب في الكتابة رائجا في ذلك الزمان، كذلك لم يذكر اسم الله صراحة خوفا من مصادرة الكتاب من قبل الفرس بذريعة ان نجاة اليهود حصلت برعاية فارسية لا برعاية الهية كما يؤمن اليهود..
ومن هذه المجازات مثلا استير الاسم الذي أطلق على الفتاة اليهودية ويشير الى (ستارا) وتعني (نجم) في اللغة الفارسية القديمة، في اشارة الى مملكة فارس، وترمز استير كذلك الى عشتار البابلية في اشارة الى بابل، والقارئ اليهودي يدرك ان استير المراد به ايضا الاسم العبري (هداسا) فعشتار هي الهة الحب والحرب وعروس النجوم، واستير هي العروس اليهودية التي تحمل غصن شجرة الهداس.. كذلك مردخاي اليهودي بطل الرواية الى جانب استير يرمز الى مردوخ عظيم الهة بابل، كذلك مردوك الذي كان يتزلف الى البلاط الفارسي على حساب اليهود، لكن النصر كان حليف مردخاي اليهودي في نهاية المطاف بعد ان انقلب السحر المردوخي والمردوكي على السحرة البابليين والمتزلفين الى الفرس..
وكلمة بوريم هي جمع كلمة بور وهي حجارة مكعبة الشكل كانت تستخدم لأجراء القرعة، ويذكر سفر استير ان الوزير الفارسي هامان اجرى قرعة لتحديد اليوم الذي سيباد فيه اليهود، ووقعت القرعة على يوم الرابع عشر من آدار العبري، لكن انقلب السحر على الساحر كما ذكرنا وأعدم هامان بدلا من مردخاي ونجا الشعب اليهودي من الفناء.. وأصبح هذا التاريخ يوم عيد يحتفل به الشعب اليهودي في جميع بقاع الارض. من هنا يكون البوريم هو عيد النصيب وعيد المصير وعيد الحظ..
البعد الديني
يصوم اليهود يوم الثالث عشر من آدار تيمنا بصوم استير والشعب اليهودي في مثل هذا اليوم تضرعا الى الله لنجاة استير ومردخاي والشعب اليهودي في ذلك الزمان، ويكثر اليهود من الدعاء الى الله ليحفظ الشعب اليهودي في كل مكان. وعندما تبدل العسر باليسر، والكرب بالفرج، اصبح البوريم عيد فرح واحتفال. ويقرأ اليهود في عيد البوريم سفر استير الذي أدخل الى المكتبة التناخية، ويؤدون الصلوات الخاصة بالعيد.
البعد القومي
يرمز عيد البوريم الى نجاة الشعب اليهودي باكمله من المكائد والفخاخ والضغائن والشراك التي يحيكها لهم الاعداء في كل زمان ومكان، كما يرمز الى وحدة المصير والدم والدين والقومية لهذا الشعب الذي طالما كان مستهدفا باكمله لا لشيء الا لكونه شعب يحافظ على دينه وقوميته وتقاليده وتراثه وأرضه لا يرضى بها بديلا. ويتميز عيد النصيب بتبادل الهدايا والزيارات بين ابناء الشعب اليهودي في كل مكان، ومن الفرائض الدينية والاخوية والاخلاقية في هذا العيد ارسال الهدايا الى الاصدقاء والمعارف والاغنياء والفقراء والمحتاجين على حد سواء، في اشارة الى المساواة التامة بين جميع افراد وشرائح الشعب، واظهارا لمشاعر الأخوة ووحدة المصير، وحتى يتسنى للفقير كما الغني بالاحتفال بالعيد..
البعد الزراعي (الموسمي)
يصادف عيد البوريم في موعد التعادل الربيعي من كل عام، ويعتبر شهر آدار العبري شهر غبطة وسرور، كونه يبشر بحلول الربيع ويستهل أعياد الربيع، واحتفال الشعب اليهودي بحلول الربيع هو تقليد عبراني موغل في القدم وغائر في التاريخ، ما تزال مظاهره بادية للعيان، فعيد البيسح (الفصح) اليهودي الذي يحل بعد عيد البوريم بحوالي الشهر يسمى عيد الربيع..
عيد النصيب (بوريم) في التراث الاسلامي المعاصر
لقد ذهبت المراجع العربية والاسلامية المعاصرة في عيد البوريم مذاهب شتى، ويكاد لا يوجد موقع واحد بالعربية يدرك كنه هذا العيد، وما لفت انتباهي هو بعض ما ذكرته بعض المواقع العربية وكأن اليهود يقدمون القرابين البشرية في اعياد البوريم والفصح! ويستشهد هؤلاء المعاتيه والمخابيل بما يسمونه (شهادات تاريخية)! تقول إن اليهود يصنعون فطائر خاصة في هذا العيد تخلط بالدم البشري كفريضة شرعية!! لا أعلم كيف تفتقت عبقرية هؤلاء المشعوذين عن مثل هذه الترّهات والحماقات التي لا يخضع مروجوها لأدنى الضوابط الاخلاقية والانسانية، والشاعر يقول:
ان كنت تدري فتلك مصيبة..وان كنت لا تدري فالمصيبة أعظم!
فان كان هؤلاء يفعلون ما يفعلون عن قصد ودراية فتلك مصيبة وبلاء، وان كانوا يطلقون العنان لمخيلاتهم وشعوذاتهم جهلا فالمصيبة أعظم وادهى وأمر، صحيح ان المرء عدو ما يجهل ولكن ان يصل الحد بهؤلاء الحمقى والسفهاء الى نعت اليهود بمثل هذه الصفات، بل وتسكت عنهم النخب الثقافية والسلطوية، ويتمتع هؤلاء المفترين بكل هذه الحرية في النشر والترويج، فلا يسعنا الا القول حسبنا الله ونعم الوكيل.. والانكى ان احداهن والتي تطلق على نفسها لقب (دكتورة)! تنشر هذه القصص الخيالية على موقعها تحت عنوان دراسة موثقة!! فعندما يختفي مثلا بعض الصبية في بعض البلدان العربية وتختطفهم أيدي البعض من عصابات الشوارع لاستخدامهم في التسول وتعجز الدوائر الامنية في العثور عليهم يلجأ بعض المخبولين الى نسب هذا الامر لليهود قائلين إن اليهود اختطفوا هؤلاء الصبية لحاجتهم الى الدماء البشرية لصنع الفطائر!!
الصمت سياج الحكمة
ثمة قاعدة يهودية أخلاقية تقول: (الصمت سياج الحكمة)، فقد تصبح سفيها عندما تجادل السفهاء، وقد يخطئ الناس في التفريق بينكما كقول المفكر المسلم الشافعي، وهذا ما دعا اليهود ان يسكتوا عن مثل هذه الخزعبلات حتى لا يُستدرجوا الى جدالات عقيمة مع طغمة من السفهاء، لكني ارتأيت ان أخرج في هذا السرد عن صمتي بعد ان جاوز المفترون المدى وبلغ السيل الزبى..
كل عام وانتم بكل بخير
التعليقات (0)