قصة الذبيح اسحاق من وجهة نظر اسرائيلية علمانية
ان جدلية الفداء والقرابين البشرية تبدو جلية من خلال متابعة النص التوراتي.. حيث تقديم القرابين البشرية كطقوس دينية تحضر بقوة ضمن أخبار التاريخ البشري من قرطاجنة الكنعانية وصولا الى ارض اسرائيل.. ومع ان المسيرة التاريخية البشرية بطبيعتها تقف حائلا امام صياغة اخلاقية جديدة لممارسات الانسان في العصور الغابرة، الا ان المطالع لهذه الاحداث لا يمكن لعينه ان تخطئ هولها وفظاعتها.. فها هو الفيلسوف والأديب اليوناني بلوترخوس الذي عاش في روما في القرن الاول الميلادي كتب يقول: "في قرطاجنة كانوا يذبحون اولادهم على عتبات المذابح، واما أولاءك الذين حرموا من الاولاد فأقدموا على شراءهم من الفقراء قبل ان يذبحوهم كما لو كانوا خرافا او عصافير، كل ذلك بحضور الام التي لم تذرف دمعة واحدة ولم تصدر صيحة او أنين، وكل هذا "على انغام" الطبول والزمور التي تبدد صيحات الضحايا وتخفي معاناتهم"... ويضيف المؤرخ ديودوروس سيكولوس ابن القرن الاول الميلادي ايضا والسابق على بلوترخوس، قائلا: "كانوا يستخدمون تماثيلا من البرونزا مفتوحة أذرعها بشكل مائل نحو الاسفل، يصلب الطفل عليها قبل ان يهوي الى محارق ملتهبة أعدت خصيصا لهذا الغرض"..
الابن البكر هبة للرب
ورد في تفسير رابي دافيد قمحي، تناوله لسفر الملوك الثاني 23, 6 .. ذكر لممارسات مشابهة كانت تحصل في واد بن هينوم او جي بن هنوم في أورشليم القدس (في رواية ان اسم الواد هو مصدر عبارة جهنوم اي جهنم).. كما يستعرض شواهد حية وصريحة من التناخ "كتاب اليهود" لممارسات من هذا النوع منذ عصر القضاة مرورا بالعصور اللاحقة.. نذكر منها قصة يفتاح الجلعادي وهو القاضي الثامن في مملكة اسرائيل الغابرة الذي قدم ابنته قربانا للرب ايفاءا لنذر سابق قطعه على نفسه.. والقرابين البشرية كانت من الطقوس الدينية المقبولة اجتماعيا ابان القرن الثامن قبل الميلاد عاصرها الملك آحاز والملك منشه والنبي يرمياهو والنبي يشعياهو واحدثت جلبة وجدلا دينيا واجتماعيا صاخبا أفرز تحريما صريحا وقاطعا لهذه العادة نجد له تجلي في قانون فداء البكر التوراتي "كتب عليكم فداء ابنكم البكر" (سفر الخروج 13) الذي جاء ردا على طقوس تقديم القرابين البشرية.. كذلك قصة عقيدات يتسحاق او "الذبيح اسحاق" التوراتية ومثلها قصة الذبيحة ابنة القاضي يفتاح تخلص كلاهما الى نتيجة مفادها ان الرب لا يقبل القرابين البشرية.. وهناك حضور لهذه الطقوس في سفر يشعياهو 30 , 33 ، وسفر الملوك الثاني , 16 , 3 وايضا 21, 6 .. وقصة ملك موآب واعتقاده ان تقديم ولده قربانا للرب سيعتقه من حصار الجيش الاسرائيلي (الملوك الثاني 3).. هذه الامثلة وغيرها لا تبقي مجالا للشك بان تقديم القرابين البشرية كانت تعتبر في تلك الازمان طقسا مقدسا ووسيلة للتزلف الى الرب طمعا بتحقيق المصالح ودرءا للمفاسد.. هذه الفرضية تجد تصديقا على لسان النبي ميخا (سفر ميخا 6)، كذلك الآية "كتب عليك ان تهبني ابنك البكر" (الخروج 22, 28) وانظر ايضا الاصحاح 13 ,2 ..
لكن من الناحية الاخرى علينا ان نذكر بان تحريم القرابين البشرية انما هو من مقاصد التوراة الكبرى أوضحها بلسان عبري مبين كبار الكهنة والانبياء معتبرين هذه العادة المقيتة رجسا وفاحشة.. انظر مثلا السفر الخامس من اسفار التوراة "التثنية" 12 , 31 - حيث ينهى الرب بني اسرائيل عن التشبه بأقوام يلقون بابناءهم وبناتهم الى المحارق ابتغاء لمرضاة آلهتهم.. كذلك سفر يشعياهو (اشعيا) 57 , 4-5 حيث ينأى النبي بنفسه وشعبه عن الذين يذبحون اولادهم في الاودية وعلى جنبات الصخور...
فداء الابن البكر
والتاريخ يعلمنا ان التخلص من عادات قديمة وراسخة ليس بالامر السهل خصوصا عندما تسبغ هذه العادات والطقوس بصبغة دينية، فكثيرا ما تستمر هذه العادات بعد تحريمها ورفضها دينيا او اجتماعيا، بل حتى أولاءك الذين يحاربون هذه العادات البغيضة نجدهم يتجنبون مواجهتها بشكل مباشر فتراهم يحاولون بداية الالتفاف حولها او طرح بدائل اكثر اعتدالا ، ذاك ليس وحسب اجتنابا لما قد يلحق بهم من أذى من قبل أولاءك الذين يمعنون في الحفاظ على هذه العادات ، بل لأن المعارضين لهذه العادات ما زالت تلاحقهم مشاعر القداسة التي تحيط بهذه العادات كما ورثوها عن آباءهم ، اضافة الى المناخ الاجتماعي والتربوي العام الذي نشأوا به... لذلك لا بد من مرحلة انتقالية تتميز بطبيعة الحال بنوع من الحيرة والتردد والازدواجية حين يكون المرء ما زال حديث العهد بـ "الجاهلية"... وهكذا نرى ان الصيغة القديمة لفريضة الختان في الديانة اليهودية كما وردت في سفر الخروج 4, 24-26, وتتمثل بقيام تسيبورا زوجة النبي موسى بختان ولدها جرشوم، انما هي محاولة لاقصاء هذه العادة الهمجية بتقديم "غرلة" ولدها بدلا من تقديمه اي ولدها للرب بوصفه أضحية بشرية.. وهنا نصل الى أوج هذه المرحلة الانتقالية وذروة سنامها والتي تتجلى بقصة "عقيدات يتسحاق" او "الذبيح اسحاق"..
والعقد نقيض الحل في لسان العرب.. ويقال عقدتُ الحبل فهو معقود.. والمراد إذن من "عقيدات يتسحاق" هو ربط اسحاق بالحبال على المذبح تمهيدا لذبحه أضحية وقربانا للرب.. والسرد التوراتي لقصة الذبيح اسحاق (سفر التكوين 22) لا يختلف كثيرا بشكله ومضامينه ومعانيه ومقاصده عن السرد القرآني لقصة الذبيح اسماعيل..
الرب يمتحن ابراهيم
ان بداية السرد التوراتي لقصة ال"عقيداه" اي العقد والربط والمتمثلة بالآية (وامتحن الرب ابراهيم..) تنذر بازدواجية في موقف الكاتب، فنجد قبولا للقربان البشري ونفورا منه في الوقت ذاته.. قبولا - لان الرب عز وجل هو الآمر، ونفورا - لان المشيئة الالهية اقتضت ان يكون امتحانا لا يحتم ذبح الولد اسحاق في نهاية الامر.. هو امتحان لايمان ابراهيم وولاءه للرب ليس الا.. يستدل هذا ايضا من عبارات من قبيل (ابنك وحيدك وحبيبك اسحاق) التي تشير الى مشاعر التعاطف التي يبديها الكاتب تجاه ابراهيم واسحاق.. ويبدو جليا الصراع الداخلي في نفس ابراهيم بين القبول والرفض بصيغته التي وردت في التفاسير والمراجع فقد ورد في "مدراش تنحوما" ان الشيطان حاول جاهدا قطع الطريق على ابراهيم وغوايته وبالتالي ثنيه عن تنفيذ الامر الالهي.. ومع بلوغ "لحظة الصفر" حيث بلغت الحبكة القصصية ذروتها متمثلة ب (العقدة الاسحاقية) بمعنى ان العقدة (الحبكة) القصصية بلغت ذروتها بـ "عقد اسحاق" اي ربطه.. آنذاك حصل التحول الدرامي بسماع صوت الملاك مناديا: يا ابراهيم.. ارفع يدك عن الغلام ولا تمسه بسوء.. فنرى هنا أمرا بذبح الولد مقابل تحريم ذبح الولد.. ذلك التحريم الذي يعبر عن موقف صارم تجاه تقديم القرابين البشرية بصفة عامة..
ان هذا الصراع بين البشري والالهي ، وبين الديني والاخلاقي ، الذي يحضر في النص التوراتي ، يكشف انحياز الكاتب "البشري" (الذي يتحول بمسحة كانطية الى "الالهي") نحو خلق ترادف بين الدين والاخلاق.. حيث الاله "امتحن" ابراهيم فهو لا يعدو كونه اختبارا ومهما بلغت صعوبة هذا الاختبار فهو يبقى اختبارا وامتحانا فلا يعقل ان يأمر الرب بتنفيذ أمر فظيع كهذا لا يستوي ومكارم الاخلاق.. وبعد ان "صدقت الرؤية".. و "ثبتت تقوى ابراهيم" بما لا يقبل الشك.. أغدق عليه الرب بالمباركة والوعود والعهود.. وما زال شعب اسرائيل يتذكر سنويا معاني التضحية والفداء التي ابداها ابراهيم وولده اسحاق مع اطلاق شعيرة النفخ بالصور او البوق (الشوفار) - وهو المصنوع من قرن الكبش في اشارة الى كبش الفداء - خلال عيد رأس السنة العبرية من كل عام...
أكتفي بهذا القدر من تبيان بعض ملامح النظرة الاسرائيلية العلمانية تجاه النص التوراتي عموما وتجاه قصة "عقيدات يتسحاق" خصوصا.. لافتا ان توقيت هذا التناول مع حلول عيد الاضحى لدى عموم المسلمين، والذي تحضر فيه بقوة معاني التضحية والفداء التي تجسدها قصة "الذبيح اسماعيل" ، انما هو فرصة سانحة نبين من خلالها ان الاديان اصلها واحد ومعانيها واحدة ومقاصدها واحدة ، ولولا توخي الاقتضاب منعا لاصابة القارئ بالضجر، لسلطنا الضوء على جوانب ومعاني اخرى متشابهة ومشتركة - وما اكثرها - تتجلى في قصة "الذبيح" التوراتية والقرآنية، كمثل التشابه بين الاضحية الاسلامية وأضحية الفصح اليهودي وخلافها.. ومنوها ان القراءة العلمانية للنص الديني قد تكشف جوانبا خفية ومثيرة من تاريخ الاديان.. او كما قال لي احد زملاءي العلمانيين إنك لن تفهم الاديان ولن يكون بمقدورك سبر أغوارها وادراك كنهها الا اذا كنت علمانيا ...
طابت اوقاتكم وكل عام وعموم المسلمين بخير
التعليقات (0)