بادرات بيئية :
بداية
عوني ظاهر: "موسوعة" ياصيد!
|
عبد الباسط خلف:
يترجم الخمسيني عوني عارف ظاهر مقولة ( هناك مدننا نسكنها وتسكننا)، ويكاد يكون "أمين سر" قريته ياصيد (15 كيلومتر شمال نابلس)، وحارس ذاكرتها، ووسيلة إعلامها التفاعلية، فيما لا يفارقه الحنين إلى الماضي، إذ يضيف في كل يوم المزيد عن مسقط رأسه بأزهارها وشجرها وطبيعتها وأهلها، لينقله إلى مدونته الإلكترونية، ويحفظ في ذاكرته الكثير، بالرغم من مهامه الوظيفية في مديرية التربية والتعليم بطوباس.
يقول: "منذ طفولتي كنت أرحل إلى الأفق فلا أجد أجمل منه، وبحكم موقع قريتي نرى بليلها الرمثا وعجلون وعمان الغربية والسلط والطفيلة من الشرق، وحين ننظر شمالا تقع عيوننا على الثلج في جبل الشيخ، وإذا ما لاحقنا الناحية الغربية فيواجهنا الساحل الفلسطيني من عكا حتى اللد والرملة، أما جبل عيبال جنوبا فيحجب أفق القدس عن عيوننا، غير أنها تسكن قلوبنا.
حكايات من تاريخ
يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء: "كنت استمع إلى الأجداد وهم يتحدثون عن وجود قلعة كبيره قلعة بنيت بالعصر الأيوبي في قريتنا، وسكنها وعمرّها المشاقي ومن بعده أبناء الظاهر عمر. كما كانوا يشيرون إلى مزرابين لمياهها: الأول الذي ينتهي إلى نهر الأردن ومن ثم إلى البحر الأحمر، والثاني يصب غربا حتى يصل البحر الأبيض".
يضيف: "مما عرفته من حكايات كيف أن مؤسس ياصيد ذبح ذبحًا وقطعه إلى أربعة أجزاء وعلّقه في أماكن مختلفة، وعاد بعد أيام ليجد اللحم قد تعفن إلا ما عُلّق بجبلها المرتفع عن سطح البحر 730 مترا، فبنى مدينته هناك، وهي قصة إذا ما صدقت، فتشبه اختيار الطبيب العربي أبو بكر الرازي لأول مستشفيات بغداد.
يسترد شريط ذكرياته: "أتذكر أن عربةً لجيش الاحتلال جاءت إلينا عام 1967، ولم تتابع مسيرها، وكأنها عادت بالحيرة، وربما تساءل المحتلون الغزاة: كيف باستطاعتنا احتلال الضفة الغربية وفيها هذه القلعة المشرفة؟".
يكمل: "لكنه الطيران الذي غزانا من الشرق، وكنا نظنه لجيوش العرب، فعل فعله، والأدهى والأمر أننا كنا ندعو للطائرات أن تصيب أهدافها بدقة. بعدها، فهمت المعادلة متأخرا".
ووفق ظاهر، فقد مر عن ياصيد -وتعني وفق بعض الروايات عش النُسور- من خسروا قراهم ومدنهم على يد العصابات الصهيونية، عام 1948، وبعد ذلك أقيم مخيم الفارعة قريبا منها. كما مر عنها من انتكسوا عام 1967، ورحل منها أناس كثر، ورغم صغر سنه وقتها كان ظاهر ووالده يدعوان الفارين إلى البقاء والصمود، وكان لهما شرف إقناع وإعادة العشرات منهم.
|
توارث عشق الأرض وخيراتها من الأب مرورا بالإبن عوني ظاهر وانتهاء بالأحفاد
|
عاشق الأرض
يوالي: "زرعنا الأشجار، وعمري عشر سنوات، كنا نغرس سرب لوز، وبجواره آخر للزيتون، في 30 دونم، وبعد سنتين أثمر اللوز وكبر الغرس. كنت أسير على أتان( حمارة) تحمل خُرجًا وكيسا، وأقطف اللوز الذي بدأ يخرج من قشوره بمفردي، وأذهب إلى أرضنا راكبا وأعود وقد جمعت الثمر، وأسرتي تقشره، وفي العام 1975 جمعنا سبع قناطر لوز، واليوم نشتريه حيث قُطع تدريجيا ليبقى شجر الزيتون الذي أعشق، كنت أغني وأنا أركب الأتان بتدرج صوتي حتى يُظن إنني أنهر(أحفز) دابتي فأقول:
بالساحة التقينا بالساحة
قلتلها يا بنت فلاحة
قلتلي والله مدنيه
يتابع: "كنت أرفع صوتي فتقفز مسرعة إلى الحقل، واغني لعبده موسى، ولعيون بهية، ولسائق السيارة، وطلال مداح وفيروز، بالإضافة إلى الزجل وفن الخطابة والأغاني الشعبية: أبو غباين والجلماوي والعرّاني وأبو ليل".
مما يعشقه ظاهر مما تنبته أراضي ياصيد: نباتات البريد والأصيبعة (الأسيسعة)، واللوز الأخضر، وأبو أصوي. وسبق لعائلته تربية الأبقار، غير أنها لم تنجح في تربية الأغنام، وكان عندها بيدرها الخاص( الأرض المخصصة لجمع الحصاد وإعداده)، وتطورت عملية الدراس (إزالة القشور عن الحبوب) من اللوح الخشبي الذي يربط بالدواب، إلى الدرّاسة (آلة يجرها جرار زراعي) المخلوط درسها حبا وتبنا.
يسترسل: "كنا نجمع قناطير من الشعير والقمح والحمص والفول والعدس والسمسم، وزرعنا البندورة بعلا( دون ري) ونشرناها على الحيط وطبخناها، وكانت والدتي تُطعم أشجار اللوز وتحولها إلى خوخ وبرقوق ودراق مختلف ألوانه، أما المشمش فكانت أشجاره تملؤ الرحاب. ولا أنسى البطيخ والزهر البلدي والكوسا البعلي، الذي كنا نأكله ونبيعه في القرية".
يضيف: "حول بيتنا كانت حاكورة تزيد عن الدونم، وفيها التين بغير نوع( عجلوني وعسالي وإحماضي وخرطماني وازراقي واسوادي وموازي واخضاري واصفاري)، كنا نأكل ونوزع ونبيع ما يزيد في مخيم الفارعة بالإضافة للصبر الخضاري دقيق الشوك. واليوم تغير كل شيء تقريباً".
يقول: "كنت ابحث في الخارطة عن ياصيد فلا أجدها فأحزن، وكم كنت أفرح عند موت أحدهم ليذكر اسمه بالجريدة ويذكر اسم قريتنا، لم تصلنا الكهرباء إلا بعد انتفاضة الحجارة عام 1987، ولم تصلنا المياه بحنفيات بعد، والمشروع قيد التنفيذ، وفي القرية آبار قديمة وبيوت عتيقة وجامع عمري وجامع حديث، ومدرستان ومعصرة، وتتشكل القرية من عائلتين كبيرتين: ظاهر ومشاقي، واثنتين صغيرتين( سماره ويحيى).
وصف خلاّب
يمضي ظاهر: "في ياصيد أناس كلامهم يختلف فنقلدهم متندرين ضاحكين، ومشوارهم ممزوج بالسعادة والشقاء، وبها أعدادٌ كبيرةٌ من المتعلمين، ومنهم من يشغلون مناصب في شتى المجالات، ونادر أن تجد مدينة في فلسطين أو الأردن أو ألمانيا دون عاملٍ ياصيدي، أو طبيب في عيادة خاصة، ويصل عدد الأطباء إلى 60 ينتشرون في أصقاع الأرض.
أبصر ظاهر النور في قريته وقضى فيها معظم أيامه، وتعلم في عصيرة الشمالية الثانوية، وانتقل إلى الجامعة الأردنية لدراسة الكيمياء، وعُيّن معلماً في بيت امرين، وواصل مشواره الدراسي لينال دبلوم التأهيل التربوي في جامعة النجاح الوطنية ، وشغل رئيس قسم التقنيات التربوية في نابلس، بعد رحلة تدريس طالت إحدى عشرة سنة، ومكث مثلها في نابلس، وست سنوات أخرى في طوباس.
يقول: "أطلقت مدونتين الأولى رسمية خاصة بالمديرية وأخبارها وزوارها نحو 700 ألف، أما مدونتي الخاصة بياصيد فبلغ زوارها قرابة المليونين ونصف المليون، وتعرفت خلالها على زملاء يعملون بشتى المجالات، وعشقوا معي ما كتبت عن أهلها وأرضها وزيتونها وقمحها وحصادها وأعشابها ومائها، ونشرت عن النسيم المنساب من بحر يافا، والندى والضباب، والرياح الشرقية، وتسلّخ الشفاه والجفاف وتسطح الكعاب، وواكبت الزرع والسلاسل الحجرية، والأراضي البور والمحراث ولوح الدراس، وأعدت الحياة إلى الشاعوب والمذراة( بعض الأدوات الزراعية التقليدية التي يجهلها معظم الجيل الشاب)، وكتبت عن الأحواض وقطع الأرض والمساحة والطرقات والدروب، وتناولت الشُعب والصفوف والمعلمين والمدراء، وتتبعت المقابر والمساجد والآبار والبيوت والزوايا والأدراج والنوافذ والأقواس وبناء الحجر المخربش، وتابعت كل ما في القرية من تشكيلات وتسميات للأرض، ومنها الظهرة والخلة والوديان والتلال والسهل والمرحان وجبل أبو النمل، وتطرقت إلى الشهداء ومن ماتوا في القرن الماضي ومن يموت سنة بعد سنة تعزيةً واسماً وصورةً".
|
الصورة أعلاه عبارة عن السحجة الفلسطينية في قرية ياصيد، وهي انعكاس للثقافة الشعبية الفلسطينية المميزة. أما الصورة السفلى فهي مشهد عام للقرية
|
توثيق شامل
يوالي: "كتبت عن زواج البدل والألعاب الشعبية وعن الصومعة والعبهر والزعرور والدوم، ونباتات القريص والشبرك والسنارية والقوس والخرفيش، ولم أنس العكوب واللوف واللسينة والزمطوط والزعتر، ووثقت الأفراح وما فيها من سحجة والنقوط وطلعة العروس والزفة والحناء والموائد. وتتبعت عالم الخيول والفرس والعدة والحلس. واستوقفتني الأسماء الغريبة والألقاب، واسترجعت ذكريات باص القرية القديم (باص أبو تيسير)، واستهويت الحديث عن أيام بيع قوالب الثلج والشراب، وهاجرت في نصوصي إلى العونات والحصاد والعنب والرمان والجوز والتفاح والكرز البري والغاشية والعوينة والأقحوان الأبيض وشقائق النعمان وغيرها".
ويؤكد عاشق ياصيد أن نصوصه دائما ترفق بالصور، كما وثق فن التطريز وبداية القش والصواني والقبعة والجونه والجاروشة والترويج، وتحدث عن لمبة الكاز والسراج وعن لكس الغاز ووابور الكاز، ولم يُسقط ذكريات كانون النار والمفحمة والحطب والطابون ورغيف الخبز والشراك، واستهواه توثيق العوامة والقطايف والكنافة وطبع ورق الكلاج والمعمول والصابون الياصيدي من زيت الزيتون، وواكب الجبنة والزعتر، ونقل مخزون ذكريات حجر البد والمعصرة الحديثة وفرشة الصوف والمنجد وصندوق العجائب وحذاء الخيل.
عدو التدخين
يضيف: "قاومت العادات البائدة، والقوانين الجائرة، وحاربت التدخين والإهمال، وحاربت الاعتداء على الطرقات بالسلاسل والجدران، وأكره سكب المياه في الشوارع ، ومن هنا وهناك تأملت الجيد والقبيح انقله إلى موقع التواصل الاجتماعي( الفيس بوك) أنشر صوراً وأضيف إليها كلمات فتصبح بطاقة معايدة، أو تتحول إلى تعزية، وربما تصير حكمة خالدة أو نكته أو شخصية مهمة أو مهمشة، حتى وصل رصيدي إلى 2000 بطاقة. وقد زرت النرويج لشهرين والأردن وديار الحجاز معتمرا.
وظاهر أب لستة أولاد وبنت واحدة، وجد لحفيد اسماه على اسمه وله أيضاً حفيدتين، ويسكن بيتا قديما من الحجر الطبزي بُني في العام 1964، مع قليل من الإضافات، وقد توفي والده منذ 14 عاما، أما والدته فرحلت منذ 30 سنة، وله ثلاثة إخوة ومثلهم من الأخوات.
يقول: "أمام بيتنا شجرة كينا عمرها من عمري، أعشق الجلوس تحتها وبجنبها شجرة خروب، أجلس مع مجتمعي الحقيقي الأقرباء وأبناء البلد، وأتواصل مع الآلاف من مجتمع افتراضي على (الفيس بوك) والمدونات، فأعرف بلادهم وحتى أسرهم وعاداتهم ونفوسهم وتفكيرهم، ويعشقون فلسطين وياصيد مثلي وكتبت عن مدنهم وبلداتهم في مدونتي".
|
الصورة السفلى عبارة عن سحجة وحداية زجل في أحد الأعراس بقرية ياصيد، حيث دأب عوني على ترسيخ التراث الشعبي وتأصيله
|
الصور تتحدث
مما يتفاخر به ظاهر عشقه للمعلومة والتقاطه للصورة، وقد تدرب مئات الساعات على هذا الشغف، ودرّب المئات على هذه المهمة. ووثق صورا لمناسبات، وجمع أفلاما ومآثر كلها تُمجد الإنسان والبلد والوطن والمقدسات. كما تحول إلى خبير مونتاج ومخرج إذا توفرت آلات التصوير والتقنيات اللازمة والحاسوب.
يقول بابتسامة لطيفة: "صورت حتى اللحظة مليون صورة، وعشرة آلاف مقطع فيديو عن كل ما يعترض طريقي، وفي شتى حالاتي: الدراسة، الرحلات، العمل، جلسات الأصدقاء. وأنتجت وسجلت آلاف أشرطة الفيديو، وصنفتها في أرشيف تربية نابلس لأغراض تعليمية ووثائقية، ولدي آلاف الأقراص المدمجة ممتلئة بالصور، ومنذ عام 2000 دخلت إلى الشبكة العنكبوتية. وطفت العالم وشاهدته على شاشة الحاسب المحمول، آخذ المعلومة والخبر، وأنشر فكري وصوري وثقافتي.
يضيف: "أملك مكتبة من ألف كتاب وكتيب وقصة ومجلد وموسوعة متنوعة، وعندي (قارئ اسطوانات) لا زال يعمل، ومعه عشرات الأسطوانات السوداء محفورا عليها أغانٍ قديمة، والقران الكريم كاملا للشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وفي أرشيفي المئات من شرائط الكاسيت الصوتية فيها القرآن الكريم لعدة قراء.
يوالي: "في بيتي وثائق عن التعليم والأوضاع الاجتماعية في فلسطين، ولدي ألبومات من الصور ترسم تاريخ القرية وفلسطين، وبعض العادات والتقاليد والمقدسات والطبيعة والزهر والنوار والربيع وصور أطفالي، ونفحات من سيرة حياتي".
يختتم: "في حوزتي أدوات تراثية أجمعها، ولكن لا أملك المكان لترتيبها متحفا، وربما هذا سيكون بعد تقاعدي إن عشت. وأطمح لامتلاك فضائية أتفوق بها على من حولي من فضائيات، كما فعلت بـ(الفيس بوك) والمدونات.
aabdkh@yahoo.com
التعليقات (0)