أصبح سؤال الهوية يطرح نفسه اليوم على المثقف العربي، لما أصبح يفرضه مفهوم الانتماء من مقتضيات لازمة عن المجتمعات الحديثة، وتعتبر الهوية في أبهى تجلياتها ما يميز الفرد عن الأغيار، وهي بذلك سمة تميز الفرد بالخصوصية. إن الهوية إذن هي كون الشيء هوَ هوَ بعيدا عن كل الأعراض التي يمكن أن تكون نسخا لا تصل إلى مستوى النموذج في تحديد الشيء، فهي إذن مجموع السمات الضرورية والكافية في تحديده، فالأنا لا تحدد إلا من خلال ما يميزها عن الغير والآخر المختلف، لذلك لا يمكن للأنا أن تتفرد إلا بالاحتفاظ بهويتها النموذجية التي تستجمع كل مقوماتها سواء من حيث اللغة أم العرف أم الدين أم التنشئة الاجتماعية للفرد في المجتمع الذي ينتمي إليه.
ومنه، يمكن أن تكون الهوية بالنظر إلى هذا التحديد مرادفة لمفهوم الثقافة بالمعنى الأنتروبولوجي، فلكل مجموعة بشرية نمطها المخصوص في التداول ونظرتها المخصوصة في النظر إلى العالم والأشياء، وهذه النظرة هي ما يحدد للجماعة وجودها واختلافها وتميزها عن المجموعات البشرية التي تختلف عنها سلوكا وممارسة ونظرة وجودية، بحيث إن الهوية أو الثقافة من هذا المنظور هي انتماء ووعي وتحديد مخصوص للوعي الجمعي للأفراد والجماعات داخل الوطن عينه، يحيا الفرد في كنفها ويكسب وجوده وانتماءه القيمي من خلال تفاعله مع الأفراد الذين يشترك معهم في نمط النظرة إلى العالم والتنشئة الاجتماعية، ويمكن انطلاقا من هذه التحديدات التمييز بين الهوية الفردية والهوية الجماعية والهوية الوطنية؛ فأما الهوية الفردية فنميز بوساطتها الفرد عن باقي الأفراد الذين ينتمون إلى المجتمع نفسه، أي مجموع السمات المميزة لكل فرد عن باقي الأفراد، أما الهوية الجماعية فنميز فيها بين مجموع الأفراد الذين يكونون كُلاً لا يتجزأ، يجمعه الانتماء الإيديولوجي نفسه والنظرة إلى العالم والأشياء عينها، كأن يكونوا منخرطين في حزب معين له قناعاته وبرامجه المخصوصة التي تجعله مختلفا عن باقي الأحزاب الأخرى رؤية ومنهجا، بحيث كل فرد داخل كل حزب أو جماعة منخرط بالضرورة في رؤيته، ومختلف عن الأفراد الذين ينتمون إلى جماعة أخرى داخل الوطن نفسه، بينما الهوية الوطنية هي كل مل يميز شعبا عن شعب آخر انتماء وسياسة ومواطنة وتنشئة اجتماعية، وهذه الأنواع الثلاثة تعتبر سُلَميات لابد من الأخذ بها واحترامها في التميز وإثبات الخصوصية الفردية والجماعية والوطنية.
إن هذه النتيجة الأخيرة تقف في المحك أمام ما يفرضه جبروت العولمة التي تعد في تجليها الحقيق نفيا للهوية بكامل تمفصلاتها، فهي نفي للحدود وطمس للهويات، تقوم على الإكراه بدل الإقناع وعلى التسلط بدل الاقتناع، والعولمة إن كانت أهدافها الظاهرة متعلقة بالاقتصاد وبالهيمنة اللازمة عنه، إلا أن أبعادها إيديولوجية مرتبطة بطمس الهويات، وجعل العالم قرية واحدة تسوده الهوية السائدة الغالبة، وتردخ فيه الهويات المسُودة المغلوبة، إنها تشجيع لقانون الغاب حيث الغلبة للأقوى بدلا من التكافل والتضامن الإنساني الذي يدافع عنه العقل الذي يعد أعدل قسمة بين الناس، لذلك نخلص إلى أن إثبات الهوية أمام هوْل العولمة وجبروتها لا يستقيم إلا ضمن ما هو متاح في التداول العالمي، مما قد يفرض إعادة النظر في مفهوم الهوية نفسه وجعله ينسجم ويحَين ضمن هذا المتاح العالمي محاولة ما أمكننا التفاعل معه بغية الوصول إلى الفعل فيه استقبالا.
غير أن الفعل في العالم، أي الدخول في العالمية باعتبارها انتماء إيجابيا إلى هذا المتاح اليوم، لا يكون مفروشا بالورود بالنسبة للهويات المسودة ما دامت لا تستطيع من تلقاء ذاتها أن تنمي نفسها بنفسها وتفرض وجودها على الهوية السائدة التي تجعل من وجودها رهينا بنفي الهويات، وجعلها تقبع تحت وطأتها، ولعل هذا ما يوضحه المشهد السياسي الثقافي العالمي من تدخل في شؤون الدول التي تحاول أن تكون فاعلة في المتاح العالمي، فالغالِب طبعا لا يبقى دائما غالبا إلا إذا استطاع أن يبقي على ضعف المغلوب، ومن تم نخلص إلى أن العولمة المتوحشة ستجعل الإنسان ينكص إلى دائرة الحيوان، ويتخلى عن كل مقومات الحياة الإنسانية القائمة على التعقيل والترشيد والديمقراطية واحترام المبادئ اللازمة لكنه الإنسان بما هو إنسان.
لذلك، فعولمة الهوية أو سيطرة الهوية الغالبة على باقي الهويات سيكون بالضرورة نفيا للتميز والخصوصية والاستقلالية، وسيغدو الإنسان المغلوب من خلال عولمة الهوية شيئا، والتشييء لا يمكن أن يكون إلا نفيا للإنسانية لزوما وتدميرا لها نهايةً.
التعليقات (0)