عولمة حقوق الإنسان ونفي الهوية
اختلفت بداية الحديث عن حقوق الإنسان والمطالبة بها بحسب تعدد الحضارات، لكن أغلب المنظرين يرجعون أصل الحديث عنها إلى النزعة الإنسانية التي دافع عنها عصر الأنوار إبان النهضة الأوروبية التي كان بشر بها رائد الحداثة الغربية روني ديكارت الذي يرى أن لكل إنسان باعتباره إنسانا ذاتا مفكرة يستطيع من خلالها البحث عن الحقيقة من خلال الشك المنهجي، فكان ديكارت بذلك فتحا مبينا على الفرد لتجاوز سطوة ودوغمائية الكنيسة في القرون الوسطى (عصر الظلمات)، حيث كانت تدعي امتلاك الحقيقة، وما الإنسان إلا عاجز عن البحث فيها، إذ تصل إليها بطريق تيوقراطي مستمد من قوى غيبية يعجز الإنسان العادي التواصل معها والنفاذ إلى حقيقتها.
لهذا ناضل فلاسفة الأنوار(روسو وفولتير ومونتسكيو) على إعادة النظر في مفهوم الإنسان نفسه وجعله من بعد محور الكون وقادرا بفضل العقل الذي يعد أعدل قسمة بين الناس على تطويع الطبيعة، وأن يصل إلى الحقيقة بعيدا عن تدخل الكنيسة، لذلك رفعوا شعارات المساواة والعدل والديموقراطية، وجعلوها حقوقا إنسانية لا تلتفت إلى الاختلافات الجنسية واللونية والإنتمائية. ومن تم كانت هذه المطالبات دعامة للمطالبة بإصلاح ديني(يوحنا كالفن والنزعة البروتستانتية) يكفل حقوق الإنسان، ويفصل الكنيسة عن التدخل في سياسة الأفراد ( العَلمانية).
منذ هذه الثورات الأولى المتسمة بالنزعة الإنسانية، تنامى الاهتمام بالحفاظ على حقوق الإنسان بمختلف أنواعها: الحقوق الاجتماعية والثقافية ثم الحقوق المدنية والسياسية فحقوق التضامن، وهذا نفسه ما أكدته بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي وافقت عليه مجموعة من الدول حفظا للكرامة الإنسانية، باعتبارها أس الحقوق الإنسانية من حيث كونه إنسانا، فتكونت منظمات رسمية متعددة للدفاع عن حقوق الإنسان كهيئة الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومحكمة الجنايات الدولية وغيرها، كما تأهبت منظمات المجتمع المدني للدفاع عنها عالميا ودوليا ومحليا.
وترتبط حقوق الإنسان في التداول الإسلامي بالبعثة المحمدية، حيث أعاد النبي صلى الله عليه وسلم النظر في ما كان مألوفا في الجاهلية، ويعد من صميم هدر الكرامة الإنسانية كالاسترقاق ووأد البنات وتوريث النساء وغيرها من العادات الجاهلية، لذلك كان من تثبيت العقيدة الخروج من ظلمات الجاهلية وكل ما تعلق بها من رذائل، إلى نور الإسلام الذي لا يميز بين البشر إلا بالتقوى، لهذا نجح الإسلام في تثبيت عالمية حقوق الإنسان كما يشهد على ذلك التاريخ الإسلامي عبر التعايش بين الديانات والأجناس في البلاد الإسلامية.
غير أن ما نقصده اليوم بعولمة حقوق الإنسان بخلاف عالميتها الإسلامية يحتاج إلى إعادة نظر، لأن العولمة في ذاتها نفي للخصوصيات والهويات والاختلافات، فما أراه أنا بحسب انتمائي القيمي إلى مجتمع معين حقا، قد يراه آخر تختلف تنشئته الاجتماعية عني ليس كذلك، كما أن عولمة الحقوق تؤدي إلى اعتمادها ذريعة للتدخل في الشؤون الخاصة للدول وإفقادها سلطتها الرمزية والسيادية، وقد تعتمد سلاحا للردع والتحريض، مما يجعل من هذه الحقوق مهضومة بسبب تدويلها وعولمتها. وهذا ما يستوجب نهاية المطالبة بعالميتها أي الاهتمام باختلاف المجتمعات في النظر إلى مفهومي الحق والواجب.
التعليقات (0)