عولمة الانفصال!:
قبل استفتاء مقاطعة كيبيك الناطقة بالفرنسية في كندا في تشرين اول(اكتوبر)1995، دعا الرئيس الامريكي الاسبق كلينتون شعب كيبيك للتصويت لصالح البقاء ضمن الاتحاد الكندي وقال ان الانفصال هو ضد المصالح الامريكية ايضا وبالتالي لن تسمح أمريكا بحدوثه او ستحد من آثاره من خلال اجراءات لم يسميها ولكنها مفهومة للجميع! لان عدوى الانفصال محتمل ايضا تصل الى داخل امريكا نفسها...وكانت نتيجة الاستفتاء فوز دعاة الوحدة بنسبة ضئيلة جدا(50.6% الى 49.4%) بعد ان كان التوجه نحو الاستقلال قويا منذ الاستفتاء السابق عام 1980 الذي كانت نتيجة دعاة الوحدة فيه تصل الى 59.56% مما يعني ان لامريكا تاثيرا على بقاء الوحدة مع دعاة الوحدة في كندا!...ولم يقف الامر على ذلك ففي تشرين الاول(اكتوبر)2008 اعلن الرئيس الفرنسي ساركوزي وقوفه الى جانب وحدة كندا بقوة، مما يعني ان الوطن الام لا يساند استقلال كيبيك ايضا وقد ادى ذلك الى ازدياد قوة المؤيدين للوحدة بمرور الزمن وانحسار دعاة الانفصال خاصة في ظل بقاء ايجابيات الوحدة اكثر من حالة الانفصال لو وجدت!.
اذا لماذا تقف الدول الغربية ضد الانقسام والانفصال اذا كان في داخل حدودها او ضد المصالح الغربية في العالم الثالث؟!...وهل حقيقة ان لحقوق الانسان والاقليات تأثيرا في المواقف تجاه وحدة او تقسيم الدول؟!...
الحالة غريبة حقا في عالم اليوم...فالعولمة تفرض الاندماج والتوحد لغرض التطور والاستفادة من ثمار العولمة،بينما المصالح الدولية المتغيرة التي لا تتفق احيانا مع العولمة تختار من تشاء لجهة ابقاءه موحدا واختيار الاخر التعيس لجهة تقسيمه وكل ذلك يخضع الى تلك اللعبة القذرة التي لا تراعي مصالح الشعوب المشتركة.
المصالح اولا !:
كل دولة في العالم تسير وراء مصالحها الخاصة،وقد نرى بعض الدول الفاشلة التي تتنازل عن بعض المصالح الخاصة في سبيل بقاء نظامها السياسي محميا من الخارج!...والدول الغربية ليست شاذة عن تلك القاعدة وبالتالي فأنها وهي المحكومة بنظم ديمقراطية تراعي حقوق الافراد والاقليات ضمن حدودها وتحاول نشر تلك السياسة خارجها فأنها تخضع الدعوة الى حرية الشعوب والافراد حسب الاولوية القصوى لميزان المصالح القومية،فأذا وجدت ان كفة المصالح تميل بأتجاه دعم حقوق الانسان والشعوب فهي تميل معها واذا حدث العكس فلا تتردد من خنق الحريات ودعم الانظمة الديكتاتورية الفاسدة ونشر الحروب وتشجيع الانفصال والانقسام حتى تتحقق اهداف المصلحة القومية العليا في الفرقة التي لها مزايا لا يعرفها الا الاقوياء!...ولا غرابة ان ذلك يتم تبريره احيانا بمختلف الوسائل وبجرأة دالة على وقاحة تدل على انعدام المثل الانسانية العليا مما يجعل الفعل المضاد المتمثل بالتيارات المتطرفة تظهر وتقوى ويحصل الاصطدام المتوقع في عالم لا يتحمل اساسا المزيد من الصراعات!.
ان المساندة الامريكية القوية ومن ورائها الغرب لانفصال جنوب السودان الان ليس غريبا وجديدا بل وسبقته العديد من الاعمال الجنائية المسبوقة باصرار غريب والتي جرحت مشاعر شعوب وامم بحالها وضحكت على مجموعات اخرى تظن نفسها منتصرة!...
العوامل التي تمنع الانفصال عادة تتلخص بضرورة وجود الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة بين جميع مكونات وافراد الشعب،وتلك بديهيات متعارف عليها والعكس صحيح ايضا اذا تسلطت فئة دينية او مذهبية او عرقية او مجموعة من الافراد وانتشر الفساد والاضطهاد فأن ذلك مشجع على الانقسام والتمرد! الا ان ذلك ليس مانعا مطلقا من الانقسام والتشرذم!.
فلو نظرنا الى السياسات الغربية في منع حدوث الانفصال ومساندة بعضهم البعض لما ترددنا في وصف ذلك بالخطوة الايجابية الدالة على تجميع الشعوب والامم في بوتقة الحضارة الانسانية تحت ظلال العولمة الجديدة التي اصبح العالم من ورائها قرية صغيرة دون نسيان ان للوحدة فوائد تفوق بكثير فوائد الانفصال،وبالرغم من وجود كافة العوامل المساعدة على بقاء الوحدة في الغرب الا ان العديد من الاقاليم والاقليات بقيت مصرة او على الاقل مجموعات كبيرة ضمن صفوف افرادها على الانفصال والدعوة الى تأسيس دولة ونظام سياسي خاص بها بالرغم من وجود حتى نظام للحكم الذاتي! وايضا سيادة تيارات العولمة الحالية، وهي حالة غريبة وتستدعي الانتباه ولكن بالرغم من ذلك فأن الغرب بقي على سياساته في تطويق تلك الانشطة او الدعوات مثلما حدث في المثال السابق في كيبيك! ولا يتردد في استخدام القوة اذا احتاجها لانها تمنع تمزق دوله الى عدد كبير من الدويلات الصغيرة المتنافرة مما يضعف سيطرته على العالم!.
ان الامثلة الاخرى عديدة مثل اقليمي الباسك وكاتالونيا في اسبانيا، واسكتلندا وايرلندا الشمالية في بريطانيا،وجزيرة كورسيكا في فرنسا والاخطر هو ظهور بوادر تقسيم بلجيكا بين مكوناتها الرئيسية،وايضا المجموعات المنتشرة في امريكا والمانيا بل ان ايطاليا نفسها مازالت تنتشر فيها دعوات انفصال الشمال الغني عن الجنوب الفقير بالرغم من عدم وجود اختلافات اخرى غير ذلك العامل الهزيل!.
اذا لم تؤثر عوامل التوحيد القوية الى درجة اجتثاث افكار ودعوات الانقسام بل هي موجودة كجزء ثابت ودائم من الرغبة الانسانية في الاستقلالية والشعور التاريخي بالغبن والتسلط التي هي احيانا ضد المصلحة العليا! ولكن هي اضعفتها فما بالك بالحالة الموجودة في العالم الثالث التي تجعل الفرد ينقسم على ذاته! فكيف المجموعات المختلفة؟!...اذا في هذه الحالة سوف يكون الوضع مآساوي بحق ويدعو الى التشآوم!.
ان كل البلاد الخاضعة لانظمة استبدادية او نظم فاسدة وتنتشر فيها مجالات التطرف والعنف،هي مجتمعات مهيئة ذاتيا للانفصال وليس السودان شاذا عنها!...فلو كان الغرب صادقا مع نفسه ومع الاخرين وساند كل الشعوب التواقة للانفصال لغرض العيش بحرية لما وجدنا ذلك التناقض في سلوكه في تأييد البعض وخذلان الاخر! ولوجدنا عددا غير محدود من الدول ضمن المنظمة الهزيلة المسماة الامم المتحدة!...بل ان بعضهم لا يمكن وصف انفصاله الا بالمهزلة التاريخية او السياسية مثل تيمور الشرقية التي تتقاسم الجزيرة مع الغربية التابعة لاندونيسيا ولا تختلف عنها في شيء الا بالسيطرة الاستعمارية البرتغالية السابقة للشرقية والهولندية لاندونيسيا ونحن نعرف ماذا يفعل الاستعمار من مخازي وجرائم! ولكن المصالح الدولية فرضت على النظام الاندونيسي الفاسد والضعيف ان يقبل بأستقلال الاقليم الفاقد لمقومات الدولة الحقيقية الا من بقاء خطوط السيادة الدولية المزعومة والهزيلة والمدعمة بالقوة والنفوذ والمال المساند لها،وليس غريبا من معرفة جزءا من الاسباب حتى يزول العجب من وجود العامل الديني! اوالنفط والغاز والرغبة باضافة دولة تابعة في خصر الوطن الام!... بينما في المقابل توجد شعوبا اكبر حجما ضمن الاتحاد الاندونيسي هي قادرة على بناء دولة بشروط اكثر يسرا! هذا بالاضافة الى ان انهيار نظام سوهارتو الموالي للغرب كان مؤشرا على تغيير في السياسة الغربية وليس علاقة لحقوق الاقليات من نصيب هنا!...كذلك الحال مع دول المنظومة الاشتراكية السابقة،فبالرغم من اتجاه الدول الاوروبية نحو الوحدة ضمن الاتحاد الاوروبي الا ان المصالح الغربية تفرض مساندة الانفصال في بلاد مثل الاتحاد السوفييتي السابق ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وبلاد القوقاز وغيرها لان ذلك في صالح الغرب ورغبته في السيطرة على تلك البلاد حتى ضمن اطر العولمة! ولو كانت روسيا ضعيفة لتمزقت هي الاخرى تحت ضربات الضغط الغربي والانقسام الداخلي! مما يعني ان القوة الداخلية عاملا قويا على التصدي للطموحات الخارجية في ضرورة تمزيق البلاد واحداث انقسام دائمي بدلا من خلاف آني!.
يخطأ من يظن ان الانفصال حلا جذريا للمشاكل! بل على العكس من ذلك فأن استمرارية المشاكل اكثر بنسبة عالية من البقاء ضمن اطر الوحدة الا اذا كانت الحماية الغربية للمنفصلين الصغار قوية بحيث تجعلهم ضمن حماية دائمية حتى من اخطار الانقسام الداخلي المتوالد ضمن حدود المولود الجديد كما حدث في تيمور الشرقية!...وايضا المثال الهندي عندما انفصلت الى اربعة دول ومازال الصراع شديدا بينها بالرغم من طول فترة الانقسام! وكذلك الصراعات في اسيا الوسطى والبلقان والعالم العربي وافريقيا وغيرها! كما ان المصالح الغربية تدعم وبقوة تمزيق الصين مثلما قسمت الهند في السابق كي لا تهدد الهيمنة الغربية!...
العالم الاسلامي والانفصال:
نفس القاعدة تنطبق على بلدان العالم الاسلامي،فأذا كانت المصالح الغربية تميل لصالح تأييد الانفصال مثلما يحدث الان في السودان فأن تأييده بصورة تقارب الى درجة التدخل الوقح في فرض الانقسام هو الذي يسود واذا حدث العكس من ذلك فأن عدم تاييد الانفصال هو السياسة الرسمية،فلو تركنا القوميات والاقليات في هذا الجزء من العالم تتحكم بمصيرها بحرية مطلقة لما وجدنا بلدا موحدا! الا في حالة البلاد الغير منقسمة عرقيا او دينيا مثل مصر والاردن وقطر وعمان وغيرها...ولولا وجود نظام قوي في بعض البلاد التي في حالة عداء مع الغرب لما تأخر تقسيمها مثل ايران وسوريا!.
الدول المرشحة للانقسام بقوة عن غيرها في حالة فرض وجود الحرية المطلقة للانفصال هي تركيا والعراق ولبنان والسعودية واليمن والسودان والصومال والمغرب والجزائر واثيوبيا واندونيسيا وغيرها... والمحظوظ من هؤلاء من يكون عامل المصالح الغربية لصالح ابقاءه موحدا ولكن ذلك الحظ لن يكون ابديا فمن المحال دوام الحال!.
كما ان وجود العامل التاريخي مؤثرا في انعاش الدعوات الانفصالية مهما طال الزمن نتيجة للتراكمات المؤلمة في الذاكرة الجمعية للشعوب والاقليات، وكثير من حالات الانقسام والانفصال كانت نتيجة لهذا العامل المشؤوم!.
ان ما يجري في السودان هو جريمة بحق،اشترك في تنفيذها كافة الاطراف من الحكومة المركزية في الشمال الى الحركات الانفصالية في الجنوب الى الدول الغربية والكنيسة الكاثوليكية مع صمت الدول العربية والافريقية! فكما نعرف الموقف الغربي المشترك الرافض لحالات الانفصال ضمن صفوفه لانه ضد المصالح المشتركة المتشعبة،نرى في المقابل ان الدول العربية والافريقية وكأنها في حالة من الغباء والشلل بحيث لا نرى لها صوتا رافضا لذلك الانفصال المآساوي على الاقل من ناحية الحفاظ على المصالح والامن القومي لان عدوى الانقسام والتشرذم سوف تصيب الجميع،كذلك فأن بقاء سيطرة الطرفين المتحكمين في الشمال والجنوب هو يؤدي الى الحرب والانفصال اكثر مما يؤدي الى الوحدة ذاتها بسبب الديكتاتورية والفساد والتخلف والعمالة والانحطاط التي تتحكم بكافة مفاصل عملها ومنهجها!...اذا الواجب على الجميع مكافحة جميع تلك الزمر لغرض بناء دولة قادرة على تحرير شعبها من كافة القيود المفروضة.
من الغباء تصديق ان الجنوب سوف يكون متقدما ومستقلا في حالة الانفصال مثل مستوى الدول المتقدمة بل هو سوف يكون دمية خاضعة للغرب،والتخلف والجهل والعنف وشيوع العادات الغريبة المتحكمة في سلوك اغلب اللاجئين القادمين من الجنوب هي التي منعت دولا غربية في قبول المزيد فكيف لها تقرر ان هؤلاء قادرون على بناء دولة الا اذا ارادوا السيطرة على مواردها الطبيعية وضمنوا تمزيق السودان والدول المعادية لهم في اسيا وافريقيا،كذلك من الخطأ القبول بمبدأ الاستفتاء دون ان يشارك به الجنوبيون المقيمون في الشمال وهم بالملايين لانهم سوف يكونوا تابعين للجنوب في حالة الانفصال!...في الحقيقة ان الامر معقد ويشترك في تعقيده الاطراف كافة مع غفلة القوى المخلصة في السودان وخارجه!...
من اغرب حالات ومزايا زمن العولمة هو عولمة الانفصال!.
التعليقات (0)