منذ التقينا في الكلية ، كانت ثمة وشائج متعددة تربط بيننا ، وتجعل من احترامنا له ـ كمدرس عائد من الإيفاد ـ أمرا طبيعيا ..
وقد جمعتنا لقاءات مشتركة ، رسمية وودية ، تعززت حين بدأ يملي علينا محاضراته عن الشاعر " أسامة بن منقذ " ، بعدما انتقلتُ إلى السنة الثالثة " بعملية قيصرية " ، سببتْها مادة التدريب العسكري الجامعي ( وسيأتي الحديث عنها في مقال آخر ) .. وجاء انتقالي في أواخر شهر شباط من عام 1976 ..
المهم ، لم يكن بيني وبين الدكتور وهيب طنوس إلا كل الخير والمودة ..
والصورة المرفقة رقم /1/ توضح شيئا من تلك الحالة ..
وهي ملتقطة بتاريخ 28/01/1976 في مقصف كلية الآداب ، أثناء حفل إفطار تكريمي له بعد تكليفه وكيلا للكلية ..
والصورة رقم /2/ ملتقطة بتاريخ 13/01/1977 في مدرج الجاحظ خلال مؤتمر طلابي ..
وأشهد أنه لم يقصّر معي في تلبية ما طلبته منه ، ضمن دائرته الخاصة كمدرس أو كوكيل للكلية ..
وكنا نتعامل بكل الاحترام المتبادل ، بل ، انتقلنا إلى مرحلة أقرب إلى الصداقة حين ذهبنا معا في رحلة جامعية إلى الأردن ..
ففي طريقنا إلى دمشق ، شرحتُ للزميلة رغدة ظروفا استجدت مؤخرا معي ، تلزمني البقاء في دمشق لمتابعة إجراءاتها بين المكتب التنفيذي لاتحاد الطلبة ووزارة التعليم العالي ..
وقد تفهّمت رغدة أسبابي .. لكن الجميع فوجئوا بقراري ، وظنوا أن في الأمر خلافا معها ، ولم يصدقوا نفينا ، وحاول د. وهيب أن يتقصى مني ـ على انفراد ـ سببا موجبا " لقرار كهذا في رحلة تاريخية كهذه " ، فشرحته له ، وتفهمه ، وباركه الصديق عبد الستار السيد أحمد ..
بينما " هلـّل " لقراري زملاء آخرون ممن حاولوا ـ مازحين ـ مقايضتي بالمكان بأي ثمن ..
كل ذلك كان على ما يرام حتى أيلول 1977 ، أيام امتحانات الدورة الثانية ، حسب النظام السنوي الذي كان متبعا ..
كنت في نهاية السنة الرابعة ، وبقيت عليّ مادتان : اللغة الإنجليزية من السنة الرابعة ، وعلوم اللغة العربية من السنة الثالثة ، وهذه لم أكن قد تقدمت لامتحانها في أي دورة سابقة ، نظرا لتأخر صدور قرار انتقالي من السنة الثانية إلى الثالثة إلى ما بعد منتصف العام الدراسي ـ كما مرّ ـ ، الأمر الذي حرمني من متابعة محاضرات النحو والعلوم الأخرى لكل من الأستاذين : الدكتور فخر الدين قباوة ، والدكتور مصطفى جطل ..
كان عدد المتقدمين لامتحان هذه المادة كبيرا جدا ، الأمر الذي أربك إدارة الكلية وموظفيها ، واتخذوا قرارات ارتجالية فساهمت في مزيد من الفوضى ..
ومع ذلك ، توجهتُ مع آخرين من البهو السفلي في الكلية إلى مدرج الجاحظ بناء على توجيه رسمي لإعادة توزيعنا على القاعات الامتحانية ..
وهناك ، لم يكن الوضع أفضل ، فاتخذت مكانا في وسط مقعد أمام باب المدرج ، وبدأت أحض زملائي ـ وكنت أعرف كثيرين منهم ـ على التزام أماكنهم حسب تعليمات المسؤولين في القاعة ..
ولا أعرف كيف فهم رئيس القاعة تصرفي " نوعا من الفوضى أو تحريضا عليها " .. أللهم ، إلا إذا كان يريد " كبش فداء " .. ( ورئيس القاعة هذا من بين الأشخاص النادرين الذين لا أعرفهم على مستوى الكلية ، وتبين أنه محاضر من خارج الجامعة في قسم اللغة الفرنسية ) ..
تزامن ذلك مع دخول د. وهيب إلى المدرج ، فهمس له رئيس القاعة بكلام ، هُرع على إثره إليّ بغضب أحمق ، طالبا هويتي الجامعية .. التقطها من يدي ، وناولها لرئيس القاعة ، وانتظره حتى انتهى من كتابة التقرير ، فاستلمه منه وغادر بنفس الغضب والحمق المعهودين فيه ..
ولم تكن أوراق الأسئلة قد وُزعت حتى تلك اللحظة ..
وحين وزعت أوراق الأسئلة ، لم أشرع بالكتابة ، وبقيت مأخوذا بالاستغراب والاستهجان ، منتظرا ما سيحصل من عواقب ، توقعت أن تنتج عن هذه الاستشاطة الغضبى ..
وبعد دقائق بدأت التفاعلات ، فجاءني العميد د. عمر الدقاق يستفسر عما حصل ..
حكيت له ، وطلبت منه أن يسأل كلَّ مَن حولي عن حقيقة مزاعم رئيس القاعة .. وقلت له : إن كنت سأعاقب ، فسأخرج من الامتحان دون أن أتكلف عناء الإجابة .. فقال : أكمل امتحانك ، وسنرى فيما بعد ..
وعندما خرجت من الامتحان ، وجدت مذكرة معلنة في لوحة الإعلانات ، ممهورة بتوقيع العميد وليس الوكيل ، تفرض بحقي " عقوبة درجة الصفر في المادة المذكورة لقيامي بالشغب داخل قاعة الامتحان " ..
فيما بعد :
ـ بدا العميد مغلوبا على أمره ، ومُحرَجا وهو يتلكأ في تسويغ القرار ..
ـ لم يستجب د. وهيب لتدخل أستاذي وصديقنا د. فؤاد المرعي ، وكذلك أستاذي وصديقي المرحوم د. محمد حموية .. وآخرين ..
ـ ولم يُجدِ معه تدخل الدكتور محمد سعيد فرهود في تخفيف غلوائه ..
( وكان وكيلا لكلية الاقتصاد والتجارة ، وكنت موظفا فيها وقتذاك ، وصار فيما بعد رئيس جامعة حلب ) ..
ـ أجاب د. وهيب في اجتماع لاحق ، على سؤالي عن سبب شدة العقوبة وتمسكه بها ، فاعترف بأنه عاقبني " بعشرة أضعاف ما أستحق كي أكون عبرة لغيري ممن يظنون أنني لن أعاقب " ..
( وهذه كلمة باطل أراد بها باطلا ) ..
فرددت عليه أمام الحاضرين : وَصَلني حقي ، شكرا لك .. وتلقيت تهانيَ كثير منهم أمامه .. مما زاد في حنقه علي ..
ـ فهو يعرف أكثر من غيره أنني لم أنتهز ولم أتسلق ولم أستغل ، ولم أكن ـ أساسا ـ في أي موقع يحميني أو أحتمي به .. وليس لي سوى علاقاتٍ من الود تربطني بمعظم أساتذتي ، وبكثير من الزملاء والموظفين والإداريين في الكلية والجامعة ، وقد واسَوْني وآزروني وعبّروا عن تضامنهم القوي معي ..
ـ د. فؤاد ، و د. مصطفى جطل ، وبعد صدور نتائج المادة ، وَصَّفا لي حالة " الندم " التي اعترَتْ د. وهيب ، بعدما تبين له نجاحي فيها على عكس ما توقع ..
(( وحسب زعمه : كان هذا هو سبب تشدده معي ، مفترضا استحالة تأهلي للنجاح بمادةٍ كان يُطلق عليها اسم : " جسر التخرج " ، ويدرسها الدكتور قباوة !! )) ..
ـ نجحت في مادة اللغة الإنجليزية ، وبقي تخرجي متوقفا على نتيجة مادة النحو في الدورة المتممة في مطلع 1978 ..
ـ في الدورة المتممة ، نلت أعلى علامة في مادة النحو بين الناجحين فيها ..
وكان أستاذنا د. قباوة ، قد أعطى علامة النجاح الدنيا لكل المتقدمين في هذه الدورة المتممة ، مساعدة منه لالتحاق الناجحين المتخرجين بمسابقة انتقاء المدرسين التي أعلنت عنها ، للتو ، وزارة التربية ..
وإن كانت تلك " الأزمة " قد مرت وتم تجاوز نتائجها ، إلا أنها تفاعلت أكثر ، وأحدثت شرخا حقيقيا ، مارس من خلاله د. وهيب ضغطا أدبيا مُمِضًّا على د. فؤاد استهدف النيل من صداقتنا ..
وقد قرأت ذلك بين كثير من السطور التي سمعتها من د. فؤاد في أوقات لاحقة ، ولم يصرّح لي بها مباشرة ، ولاسيما بعد أن قفز صاحبنا من عضو لقيادة فرع الحزب بالجامعة ، إلى عضو للقيادة القطرية ، رئيسا لمكتب التعليم العالي القطري ..
[ أما الأمر الإيجابي الوحيد الذي مرّ من ثغرةٍ خفِيّةٍ في السد المُحْكم خلال " عهده الميمون " هو تكليفي محاضرا في الجامعة بين عامي 1986 ـ 1992 بمبادرة خاصة من د. محمد علي حورية رئيس الجامعة ، و د. مروان العلبي أمين فرع الحزب فيها ، إذ ربطتني بالأول علاقة عمل إداري في رئاسة الجامعة عام 1979 ، وبالثاني علاقة زمالة وصداقة منذ مرحلة الدراسة الثانوية ] ..
وما عداه ، فقد حِيل بيني وبين أن أستفيد من أي فرصة تسمح لي بإكمال الدراسات العليا ، على غرار ما استفاد كثيرون آخرون غيري ، ولم يكن معدل تخرجهم بأحسن من معدلي ...
فـَ " اللي ما لو حظ ... " ..
كيف وقد تربع صاحبنا دهرا على كرسيه الـلا تيفالي ؟؟!!..
ذلك ما دفعني للعزوف عن فكرة استكمال الدراسة شاقوليا ، والتهيئة لدراسة فرع جامعي آخر ..
فنلت الشهادة الثانوية العامة من جديد عام 1981 ، وكنت من طلاب الدفعة الأولى في كلية الحقوق بحلب بعد أن أعيد افتتاحها في العام الدراسي 1981/1982 ..
وهذا ما عبر عنه الدكتور فؤاد : بالامتداد " أفقيا " في الدراسة ، بعد استحالتها " شاقوليا " في العهد الميمون لصاحبنا ، وحتى سقوط جدار برلين ..
ذاك السقوط ، فتح أبواب أوربا الشرقية ، وبدأت تنشط الحركة الثقافية والاقتصادية والسياحية مع منطقتنا ..
ومعها بدأتُ مرحلة جديدة من محاولة تصحيح البنيان لاستكماله شاقوليا في جامعة صوفيا ..
ومرة أخرى ، أعجز عن تقديم الشكر والامتنان لصديقي وأستاذي الدكتور فؤاد ، لمواقفه الإيجابية الصادقة ، ونبله وشهامته ومروءته .. فقد بذل من أجلي أكثر مما أستحق ، وكل ما استطاع ، بل ، وأكثر ..
فالكبير كبير حقا .. ودوما ..
الإثنين ـ 24/10/2011
الصورة رقم /1/ :
حوار مع د. وهيب طنوس في مقصف كلية الآداب أثناء إفطار تكريمي له . وفي الصورة الزميلة الشاعرة علياء شاويش ، والزميل محمد سالم . 28011976
الصورة رقم 2 : مؤتمر طلابي في مدرج الجاحظ . من اليسار د.وهيب ، د. أحمد هبو ، د. فؤاد المرعي ، يوسف رشيد والأستاذة منى برغوث .... وفي الصف الثاني من اليمين الزملاء فؤاد نعناع ومحمد رضوان ... 13011977
التعليقات (0)