عودة الوندال الجدد
عبد الوهاب الملوح
المدينة فاجعة ؛ اللغط حشرجة الشوارع التي تفتقد أعضاءها ولا تجد وقتا لتموت كما ينبغي فتبحث عن منعطفات لها بين الظل والهجير ؛ بين الصمت والصراخ ؛ تبحث الشوارع عن مأوى لها من وهم يتطاول عليها ويسرق منها منعرجاتها وأرصفتها ضحكاتها وفساتينها الملونة ويتركها جثثا لقيلولة فكرة الوطن ؛ هاهم جاؤوا من جهة بلا رائحة وبلا دم ؛ جاؤوا كآخر مصاصي الحلم ينتشرون خفافيش تقتطع من قهقهات الصبية أعقاب المساء أجنحتها لتحلق على مدى منخفض وتحط على بتلة غيمة توشك أن تزهر شلال ضوء ؛ ’’ ما الذي يحدث قال شيخ في التسعين ؟’’ البلاد تحترق أجابه فتى بين العاشرة والشارع ! جاؤوا يصعدون أكتاف النهار ويسوقون أمامهم قطعان العتمة جاؤوا قتلة وقتلى .. أغلقت المقاهي حفلات البن وخلت الأرصفة من بوهيمية شعراء لم ينتهوا من انجاز قصائدهم .. الحرية مجزرة؛ كأنها جنازة بلاد انتهت مدة صلاحيتها تبحث لها عن قبر في جبانة الصمت ؛ كان الوقت قبل منتصف الرحلة ؛ الليل هنا مأدبة للبكاء والحيطان تسقط بين كفين عاريتين من البياض لواحد من الوندال الجدد .. جاؤوا من لا جهة جاؤوا كثيرا وكانوا أقل من واحد يفتكون من الصبيان أفراحهم بالعطلة ؛ يخطفون من عروس ليلة زفافها ؛ يشعلون النار في زهرات الليمون البيضاء وهي تنفض الغبار عن الأيام السوداء يقطعون أوصال شريان يتمدد في المدينة ليصلها بحي ينهض من موته السريري .. كيف حالك يا شجرة الاكاسيا حذو قلبي المتعب من التحديق إلى الأعلى – أقصد بالأعلى فكرة التحرر ... سوف يهدأ مزاج الظل وتخرج ربة البيت للتسوق وفي نيتها أن تعدَّ العشاء لابنها الوحيد ؛ سوف يعترضها الوندال وبينما تفر إلى جهة تأمن عندها من دمها النازف سوف تقع مغشية عليها مختنقة من قنبلة الاكريموجان التي وقعت فوق رأسها ..
لا مفر السماء جهنم والأرض جهنم والموت جهنم !
مرة أخرى ؛ يسقط الضوء مغشيا عليه وتنغلق الحانة قبل أن يوقف النبيذ قطاع الطرق في دمائنا ويفكك أحزان العمود الفقري .. كان الوجع مغني من أصول نوميدية فينيقية بيزنطية عربية .. كان المغني لقيطا من أزمنة الازدهار العاطفي ويعتبر نفسه ابن شرعي للحب وكان المغني هنا لما خرج وحده في مواجهة الوندال عند مفترق الطرق بين وسط المدينة والضاحية الشرقية .. فكر ان يقاومهم بأغنية عن الحب والزهر الذي يربي رائحته في أصص بعيدة عن نوار الأحزاب وفاكهة الجنة .. يؤلمني أن لا أحد يصغي لنبض البلاد في صوتك؛ هم لا يحبون غناء بطعم فاكهة الصيف هم يريدون أن يمتصوا رحيق الفرح من هتاف صبي يركض بدفتره عائدا من سنة دراسية مكسورة القدمين.. الوقت قبل الوندال بقليل أثناء مهرجان الأحزاب وحملاتهم الانتهابية حين بدأت عمليات نسف مضخات القلب ونهب أثاث الروح واغتيال الحرية اهه كنا نقول لن نكتفي بالحرية ولا بد من التحرر وهاهم يقطعون الطريق بينهما ..
لا مفر السماء جهنم والأرض جهنم والموت جهنم !
لا بأس .. لا بأس سنخرج للتفسح بعد العصر نسقي أشجار الحديقة قرب رماد الأمس ونبرّد خاطر الهواء الحزين ..
كفى لن يعبر الوندال على أجسادنا ولو كنا جثثا
التعليقات (0)