عودة المرافقين والمخالفين من السعودية
مصعب المشرّف
27 يوليو 2017م
القرار الذي إتخذته السلطات السعودية بتعديل رسوم إقامة المرافقين .... ثم وما رشح من أخبار عن تصاعد وتيرة التفتيش والبحث والقبض على المخالفين لقوانين الإقامة لديهم . والتي إمتدت إلى داخل المساكن بعد أن كانت تقتصر على الأسواق وأماكن العمل ..... كل ذلك يؤكد أن السلطات السعودية ماضية ؛ وجادة هذه المرة أكثر من أي وقت مضى في تنظيم وتقليل أعداد الأجانب المقيمين لديها. بحيث يقتصر تواجدهم على القوى العاملة بقدر الإمكان .. ثم والرغبة في القضاء إلى أقصى حد على ظاهرة العمالة السائبة بدون إقامات أو ما يطلق عليها بالمخالفة.
النتيجة التي تترب على هذه السياسة السعودية الجديدة قد يرى فيها البعض من السلبيات ما يرى ..... ولكن هناك إيجابيات وثمار يمكن جنيها داخل السودان بما يحولها إلى إيجابيات ... وعلى قاعدة من القناعة بأن العرجاء لمراحلها .. وأن البلاد أولى بأبنائها.
وحيث أن هذا القرار السعودي يقع ضمن القرارات السيادية لها .. فلا مناص هنا من تركيز النظر إلى الجانب الممتليء من الكوب .. وأعني به الإيجابيات التي ستترتب على عودة المرافقين والمخالفين إلى السودان.
في جانب عودة المرافقين الإضطرارية إلى السودان منافع كثيرة مالية وإجتماعية.
عودة المرافقين تعني أن تصحبهم تحويلات مالية شهرية منتظمة كبيرة تغطي نفقاتهم في السودان .. وبما يعني حصول البلاد على عملات أجنبية كان المغترب ينفقها على أسرته داخل السعودية.
وبالطبع فإن إرتفاع حصيلة التحويلات للعملات الأجنبية بالريال أو الدولار من السعودية ستؤدي إلى زيادة حجم العملة الأجنبية لدينا.
وبحسب تقديري عند الأخذ في الإعتبار أن المغترب في السعودية سيضطر إلى تحويل ثلثي راتبه على أقل تقدير لتغطية نفقات أسرته في السودان من جهة .. وأنه سيرفد هذه التحويلات النقدية بأخرى عينية في مناسبات الأعياد ودخول المدارس .... إلخ. فإن تحويلات العاملين بالسعودية إلى السودان ربما ترتفع إلى ثلاثة أضعاف حجمها الآن.
ويبقى أمر تكريس هذه الإيجابية متوقفا على جهاز المغتربين ووزارة المالية خاصة . بحيث يتم التعامل مع تحويلات المغترين وفق التشريع الإسلامي الصحيح .. لاسيما وأنها (الحكومة) تؤكد أنها إسلامية ....
والتشريع الإسلامي الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوع العملة أن يكون الدرهم بالدرهم . والريال بالريال . والذهب بالذهب . والفضة بالفضة ..... وهكذا... وهي البيوع التي يتعامل بها العالم الراسمالي الحر من زمن وإلى يومنا هذا في التحويلات وخطابات الإعتماد. وتتعامل بها الدول الخليجية النفطية.
والمقترح إذن اليوم أنه بعد أن تستلم أسرة المغترب الريال أو الدولار في يدها . فإنها تكون بعد ذلك حرة في تحويله إلى الجنيه السوداني بما يرضيها. سواء بالمساومة داخل قاعة البنك أو كاونتر الصرافة أو غير ذلك.
معنى ذلك أن تصدر وزارة المالية لوائح واضحة لا لبس فيها . بأن تستلم أسرة المغترب التحويلات بالريال إلى السودان بالريال والدولار بالدولار . وليس بتسعيرة سوق أو موازي أو حكومي أو تشجيعي أو غيره من تسميات إنصرافية...
ولا أدري هل ستعمل حكومة "المشروع الحضاري" بالهدي النبوي الشريف الذي تعمل به اليوم دول العالم الراسمالي المتقدم ..... أم أنها ستظل تتعامل بأسلوب ظلت الدول المتخلفة إقتصاديا وحضاريا تتعامل به (على الورق) دون جدوى لجهة تقييد بيوع العملات .. ودون أن يحقق لها في نهاية المطاف سوى الخراب وإنخفاض القيمة الشرائية للعملة المحلية . ولا يستفيد سوى السماسرة والمهربون والفاسدون من ذوي النفوذ؟
على أية حال ؛ فإن البديل الآخر للمقترح أعلاه سيكون بشع وخيم الآثار ؛ بما يتيجه من فرصة سانحة لتجار وسماسرة تهريب العملة كي يتخموا جيوبهم وخزائنهم بالعملات الصعبة . علماً بأنهم اليوم ناشطون وسط المغتربين في السعودية ... ويعرضون أسعاراً للريال والدولار يسيل لها اللعاب ...
ومن المعروف لدى الكافة من الرئيس إلى الغفير. أن هؤلاء السماسرة يستلمون من المغترب الريال في السعودية ؛ ويسلمون ما يعادله بالجنبيه السوداني إلى أسرة المغترب في السودان بأسعار السوق الحقيقية الحاضرة... ثم يتاجرون بالريال وغيره من عملات صعبة بالتهريب تارة . وبتمويل أصحاب المصانع والتجار في السودان بأرصدة خارجية لتغطية الإستيراد بسعر السوق السوداء.
من حق المواطن أن يبيع الريال والدولار بالسعر الحقيقي مقابل العملات الأخرى ... ومن العبث والسفه بمكان أن تطلب منه الدولة عكس ذلك ؛ وهي تعلم في قرارة نفسها أنه يعلم في قرارة نفسه أنها إنما تنهى عن شيء وتأتي بمثله وأكثر بكثير.
وبالطبع فإن الخاسر الوحيد في هذه الحالة هو الجنيه السوداني الذي ستتدنى قيمته يوما بعد يوم حتى الحضيض .. ثم والخزينة السودانية العامة . ثم المواطن السوداني داخل البلاد ممن ليس لديه مغترب في الخارج.
...........
وفيما يتعلق بالجانب الإجتماعي طويل المدى . فإن عودة أبناء المغتربين إلى البلاد. وإلتحاقهم بمجتمعات وبيئة ينتمون إليها . سيساهم بالطبع في إزالة وتصحيح العديد من جوانب التشوهات في علاقة هؤلاء ببلادهم ومجتمعهم الذي ينتمون إليه ... ويعيد التوازن كذلك إلى شخصياتهم وتفكيرهم وقناعاتهم ؛ بحيث لا تقتصر على تلك الإستهلاكية والقشور .. والتعلق بأوهام عرب أيدول .. وغير ذلك من سلبيات تسببت بها إنكار أقرانهم لعروبتهم ، والسخرية من سحناتهم وألوانهم التي تختلف عن ألون غيرهم من عامة العرب .. إلخ.
وحيث المؤكد أن عودتهم لمواصلة حياتهم في بلادهم سيغرس في أعماقهم قيم ومثل جديدة . وتعيد إليهم الإحساس بالشمم والإعتزاز والكبرياء والثقة بالنفس كتلك التي نشأ عليها آباءهم .. وبما يحقق لديهم في نهاية المطاف التواصل الحقيقي الواقعي مع أسلافهم وواقعهم. بما يؤهلهم إمتداداً طبيعيا متعافياً.
ربما يعاني هؤلاء في البداية بسبب رداءة الخدمات التي توفرها الدولة في جانب البنية التحتية . وإنكار المجتمع السائد لما جاءوا به من قناعات مستجلبة من مجتمع وواقع آخر نشأوا عليه دون إرادة منهم سنوات.... ولكنهم سيعتادون شيئا فشيئا على قيم الحياة في بلادهم لا بل وأسرع مما قد يظن البعض . فالعرجاء دائما إلى مراحها .... وسيشعرون بقيمتهم وعزتهم وكرامتهم كمواطنين ينتمون إلى تراب الأرض التي يدبون عليها بأرجلهم ويستنشقون من الهواء ما هو ملك لهم وطاب لهم .....
وهناك أمثلة كثيرة لشباب من الجنسين جاءوا للإلتحاق بالجامعات في السودان . ثم تأقلموا . ثم ما لبثوا ن تنفسوا الصعداء ونسائم الحرية والعزة والكرامة في بلادهم . فرفضوا العودة إلى دول الإغتراب مرة أخرى واختاروا البقاء في وطنهم وسط أهلهم بلا قيود وأختام إقامة .. ومذلات وإستغلال كفيل.
لعلنا نعلم أن أكثر ما يشغل المغترب في السعودية اليوم هو توفير البيئة التعليمية المناسبة لأبنائه في مرحلة التعليم العام عند عودتهم إلى البلاد.
معظم المغتربون المنتظمون في السعودية ستكون لديهم القدرة على إلحاق ابنائهم بالمدارس الخاصة المعقولة الرسوم في السودان ..
وحبذا لو سارع المغتربون في السعودية ، وبادروا بتكوين لجان عاجلة لرعاية أبنائهم وأسرهم . بحيث يتم التنسيق بين السفارة السودانية في السعودية والأندية والروابط السودانية من جهة. وجهاز المغتربين من جهة أخرى للبحث في تأسيس مدارس خاصة ؛ لتقديم خدمة التعليم العام (لمن يرغب) برسوم دراسية معقولة ... على أن تنشأ هذه المدارس كشركات مساهمة عامة أو مقفلة يملك أسهمها المغتربين وتعود أرباحها إليهم .. وأن يتشكل مجلس إدارة هذه الشركات من الشركاء المغتربين ولا بأس من إنتداب عضو من جهاز المغتربين يكون بمثابة (ضابط إتصال) ما بين إدارة المدرسة التعليمية داخل البلاد ومجلس إلإدارة...... أو بما يراه هؤلاء مواتيا وأنسب.
وربما يكون مثل هذا المشروع الإقتصادي التعليمي الأفضل قناعة للمعترب كي يقبل قوي القلب على إستثمار بعض أمواله في السودان.
المناشدات والرجاءات ، والتخوفات التي يسوقها الناس في وسائل التواصل الاجتماعي لجهة تحميل الحكومة واجب إستيعاب أبناء المغتربين في المدارس وتوفير البيئة التعليمية المناسبة .. إلخ .. هذه كلها تظل رجاءات غير قابلة التنفيذ لما نراه من واقع الحكومة وإفلاس خزائنها. وإنشغالها بالنزاعات المسلحة الداخلية ورد الغزوات المختلطة .. ودرء الأوبئة .. ومكافحة الإتجار بالبشر ... ورفع العقوبات الأمريكية ..... ولا حاجة للجدل البيزنطي اليوم فيما يتعلق بأسباب المشار إليه أعلاه . فنحن أمام مشكلة أو حالة ماثلة تنتظر معالجات واقعية بعيداً عن الوعود الغير قابلة للتحقق.
في الأغلب الأعم فإن العامل في وظيفة منتظمة بإقامات قانونية بالسعودية ... من غير المتوقع أن يترك هذا العامل وظيفته ، ويعود دراجه مع أسرته بهذه البساطة . فهو يدرك أن اسرته ستكون في أمس الحاجة إلى مبالغ مالية ضخمة لتثبيت دعائم إستقرارها من أول وجديد في البلاد.
..............
يتبقى بعد ذلك الحديث عن عودة المخالفين لقوانين ولوائح الإقامة في السعودية .... وهؤلاء يجب عليهم وعلى أهلهم أن لا ينتظروا من الحكومة أن توفر لهم وظائف أو مشاريع بهذه السهلة والسرعة الي لا تستطيعها حتى الدول العظمى ... وينبغي تحذيرهم بأن يحتفظوا بأموالهم (إن كانت لديهم) في أيديهم والبدء بمشاريع فردية بسيطة لا تستهلك سوى النذر اليسير من رؤوس أموالهم.
على أية حال فإن الإنسان على نفسه بصيرا ..... وقطعاً لن يصبر العائد من المخالفين على الجوع والعطش حتى يجدوا لأنفسهم الخلاص بالعمل والإجتهاد ... ولا مناص .
ونحمد الله عز وجل أن قيم المجتمع السوداني لجهة العمل وكسب الرزق قد تعدلت كثيراً إلى الأفضل. وأصبحت النظرة إلى من يكسب رزقه بعرق جبينه تتسم بالتقدير والإحترام والتشجيع بغض النظر عن رفعة أو تواضع المهنة أو الوظيفة والحرفة.
قديما كان العامل المخالف العائد من السعودية لا يلبث أن يرتب أوضاعه ثم يشتري لنفسه فيزا أو يخرج في عمرة ويبدأ الكرة من جديدد .. وكان خلال التفرة ما بين عودته ثم سفره من جديد يعيش عاطلً مترفعاً عن العمل في السودن بمزاعم شتى أهمها ضعف الأجر .. وأنه أصبح أكثر تعلقاً برفاهية جربها في السعودية .....
ولكن الليلة ليست كالبارحة .. فقد أغلقت السعودية الأبواب بالطبلة والمفتاح .. ولم يعد التسلل إليها بالمخالفة ممكناً أو مجدياً .... وعليه فينبغي والحال كذلك أن يدرك العامل المخالف العائد أنه بإزاء واقع يملي عليه التأقلم مع شروط وأجور وبيئة العمل في البلاد.
ومن واجب الإعلام الرسمي والخاص المسارعة اليوم بإعداد وتقديم برامج تنويرية للشباب السوداني ؛ عن الواقع المرير الذي يواجهه كل من المغرر بهم على يد عصابات تهريب البشر إلى إسرائيل وسواحل أوروبا الجنوبية.
على الإعلام السوداني الخاص أن يؤدي رسالته التي يمليها عليه كونه ينتمي للوطن ومدين له ... وعلى الإعلام الرسمي المركزي والولائي أن يرتفع بمسئوليته إلى مقام المساهمة بجدية وإحترافية في النهوض بأفكار المواطن والتنمية البشرية بمعناها الواسع النطاق.
عليه مثلا أن يدفع في إقناع الشباب أن التعطل عن العمل . والإنتظار إلى حين وصول الفيزا وعقد العمل والجلوس تحت ظلال الجدران والإكتفاء بأحلام اليقظة سيطول ولسنوات .... سيتقلص الظل على ساقيه ، وتضرب أشعة الشمس الحارقة أعلى رأسه.
ولن يبحث الإعلامي المبدع الموهوب كثيراً قبل أن يجد أمثلة لأشخاص ومجموعات إغتربوا ثم عادوا سواء أكانت عودتهم طواعية أو قسراً كمخالفين ... ولكنهم لم ييأسوا ووجدوا لأنفسهم المكان الصحيح تحت سقف السودان . ونجحوا نجاحاً باهراً في داخل بلادهم ..... ومن ثم فمن المؤمل أن تجري معهم لقاءات وحوارات مستفيضة مثمرة لعكس تجربتهم هذه ..... وحيث نلاحظ أن معظم البرامج المختصة بشئون الإغتراب والهجرة لا تقدم سوى القشور من إستقبال العائدين في إجازات مؤقتة بالمطار ... وتلقي إتصالات هاتفية لتوزيع التحايا والسلامات . في زمان أصبحت فيه وسائل الإتصال المباشرة بين الأفراد والجماعات ما بين القروبات والخاص متاحة كالماء والهواء عبر وسائل التواصل المتعددة بالصوت والصورة.
التعليقات (0)