الهجرة الدينية وحقوق المهاجرين:
دروس من التاريخ ورؤية إنسانية مشتركة

السيد محمد علي الحسيني
إنّ تاريخ الإنسانية حافل بصور الهجرة الاضطرارية التي دفعت بها أسباب الاضطهاد الديني، فكان الإنسان عبر العصور ينتقل من أرضٍ إلى أخرى طلباً لحرية الاعتقاد وأمناً على النفس والكرامة، وقد وثّقت النصوص الدينية الكبرى، في الإسلام واليهودية والمسيحية، هذه الهجرات بوصفها محطات مفصلية في مسار الدفاع عن الحق في الإيمان والعيش الآمن.
نموذج للبحث عن حرية العقيدة
يُعدّ النبي إبراهيم عليه السلام أحد أبرز النماذج في تاريخ الهجرة الدينية؛ فقد خرج مهاجراً من وطنه بعدما واجه الاضطهاد بسبب عقيدته، وقد سجّل القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالى:"وقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"، فكانت هجرته إعلاناً للحق في اختيار الدين، ورفضاً للظلم الواقع على أصحاب المعتقدات المختلفة.
ولم يكن سيدنا إبراهيم النبي الوحيد الذي خاض دروب الهجرة وتحدياتها، بل تتكرر قصة الهجرة في الديانات الأخرى أيضاً؛ فالنبي موسى عليه السلام غادر مصر خائفاً من بطش فرعون وجنوده، كما قال تعالى:"فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ"، وهي هجرة تُبرز كيف كان الاضطهاد الديني سبباً رئيسياً في ترك الموطن الأصلي.
الهجرة في السيرة النبوية: حماية المظلوم وحق الإنسان في الأمان
لاشك أن الهجرة برزت بوصفها قيمة إنسانية في السيرة النبوية أيضاً؛ فقد لجأ المسلمون الأوائل إلى الحبشة هرباً من اضطهاد قريش، فقد قال النبي ﷺ للمسلمين المضطهدين:"اذهبوا إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكاً لا يُظلَم عنده أحد"، ثم جاءت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة لتكون حدثاً مفصلياً في التاريخ الإسلامي، ودرساً خالداً في حق الإنسان باللجوء والبحث عن الأمان.
الهجرة الاضطرارية في القرآن وحقوق المهاجرين
يُقرّ القرآن الكريم بمشروعية الهجرة عند وقوع الاضطهاد، مؤكداً سعة الأرض وحق الإنسان في البحث عن ملجأ آمن، كما في قوله تعالى:"أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا".
كما يشير القرآن إلى واجب حماية اللاجئين، ومن ذلك قوله تعالى:"وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ"، وهي آية تؤكّد ضرورة توفير الملجأ الآمن حتى لمن اختلف في الدين.
الهجرة وحقوق الإنسان: رؤية دينية وقانونية مشتركة
إن الهجرات الدينية القديمة تُشكّل أساساً تاريخياً لحقوق الإنسان المعاصرة، ولا سيما حق اللجوء وحرية الاعتقاد وعدم الإكراه في الدين، كما جاء في قوله تعالى:
"لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ".
وفي العصر الحديث، تُجسّد المواثيق الدولية والقوانين الوطنية هذه المبادئ، مؤكدةً واجب حماية من يتعرّضون للاضطهاد الديني، ومنحهم حق اللجوء والحماية، مع احترام القوانين في البلدان المضيفة.
اليوم العالمي للتضامن مع المهاجرين
وفي 18 ديسمبر من كل عام، يقف العالم متضامناً مع المهاجرين، مذكّراً بحقوقهم وكرامتهم، ومؤكدًا أن الهجرة ليست خياراً سهلاً، بل ضرورة فرضتها ظروف قاسية، وفي مقدمتها الاضطهاد الديني.
دعوة إلى تعاون إنساني–ديني من أجل حماية المهاجرين
وختاما نؤكد أنّ قصص الهجرة في التراث الديني تُعلّمنا أنّ حماية المهاجر واجب ديني قبل أن يكون التزاماً حقوقياً أو قانونياً، ومن هذا المنطلق، فإنّ على ممثلي الأديان، جنباً إلى جنب مع المدافعين عن حقوق الإنسان، أن يعملوا بتكاتف ومسؤولية لضمان كرامة المهاجرين واللاجئين، وتوفير بيئة آمنة لهم، وبناء مجتمعات تُصان فيها حرية الاعتقاد، ويُحترم فيها الإنسان مهما كان موطنه أو دينه.
فالهجرة ليست نهاية الطريق، بل بداية لمسار جديد تُصاغ فيه القيم الإنسانية المشتركة، وتُرفع فيه راية العدل والسلام من أجل مستقبل أفضل لكل البشر.
التعليقات (0)