لزمن طويل سارت تجمعات المعارضة السورية على الخطى التي رسمها النظام في “المحاصصة”. وإذا كان النظام فعل ذلك مستتراً دون تصريح، وكان يهدف من وراء المحاصصة زج الجميع في “معركته” وتلويثهم وليس إعطائهم حصة في السلطة أو حتى الإدارة؛ فإن المعارضة تفعل ذلك في العلن، وتهدف لحيازة سلطة المعارضة وفق حصص تتوافق عليها، آملة أن تنتقل بهذه الحصص من المعارضة إلى السلطة بعد زوال النظام.
حتى في حزب البعث العربي الإشتراكي، كان النظام يبحث عن قيادات كردية في مستوى قيادات الفروع واللجنة المركزية ولستُ متأكدا من وصولهم للقيادة القطرية والقومية. بينما كان “يوزر” المحافظات حتى الهامشية منها، والتي ترزح تحت الحرمان والفقر، حتى يكونوا شركاؤه في “الجريمة” وليس السلطة ولا الحكم ولا الإدارة.
ومن المفارقات الساخرة، فإن من يتابع تشكيلات النظام الوزارية وقيادات حزبه سيجد أن حصة “حماة” ارتفعت بعد المجزرة التي ارتكبها في الثمانينات.
كان ذلك يجري بشكل متواطء غير معلن، ربما سوى على مستوى القيادات الأمنية التي كان بيدها “الحل والربط” الحقيقي والفاعل.
المعارضة “المسكينة” سارت على خطى النظام لكن بشكل معلن في هذه المسألة، وفي بحثها عن الشرعية، ورغبتها في الحصول على “الإجماع” الوطني، وبحثها عن القبول المحلي والدولي، ورغبتها في “تشليح” النظام أوراقه، قسّمت سوريا إلى أثنيات وطوائف.
وتعتبر التجربة الأبرز للمعارضة السياسية بعد تجربة التجمع الوطني الديموقراطي، التي لم يكن لها أي تأثير على الصعيد الوطني، تجربة إعلان دمشق، الذي ما أن وضع قدمه على تلمس الطريق حتى زج النظام أبرز شخصياته في السجن.
تجربة إعلان دمشق التي كان أبرز قياداتها “رياض الترك”، القيادي الشيوعي البارز، والذي عانى السجن الطويل في ظل نظام الأسد، كرست مبدأ المحاصصة الإثنية والطائفية، فكان لابد من وجود ممثلين للأكراد والتركمان والآشوريين، وكذلك المسيحيين، الدروز، والعلويين. وحتى العشائر كرسوا في هذا المبدأ كجماعة يجب أن يكون لهم “ممثلين” ولا أدري إن كان ذلك تم على أساس طائفة أم إثنية.
ونظراً لوجود “الإعلان” في كل “طبخات” المعارضة اللاحقة فقد تكرس هذا المبدأ في كل تشكيلات المعارضة التي كان له إصبع فيها، والذي شاركه فيه حلفاؤه الإخوان المسلمين المتصلين المنفصلين مع الإعلان.
وعند تشكيل أي جسم معارض يبدأ البحث المحموم عن “ممثلين” للأكراد، والذين يجب أن يكون لهم مواصفات “خاصة”، منها أن لايطالبوا بالإنفصال وأن يكونوا مؤمنين بوحدة التراب السوري، ويفضل أن لايكون لهم مطالبات فيدرالية. ويشكل التمثيل الكردي دائما “عقدة” صعبة الحل في تشكيلات المعارضة. أما بقية الإثنيات التي ليس لها مطالب قومية فكان من السهل إيجاد ممثلين عنهم في تشكيلات المعارضة، بينما الدروز والمسيحيين والعلويين استخدموا كـ “حشو” وطني لاكتمال ديكورات المعارضة الشكلية. ولم يكن لدى الإخوان المسلمين مشكلة في أن يرشحوا على سبيل المثال “رندة قسيس” على قائمتهم في المجلس الوطني السوري وهي التي تطالب بيوم وطني لفض غشاء البكارة.
بعد انطلاق الثورة السورية وفي ظل السعي المحموم [والمحق] لإيجاد تمثيل سياسي لها، كان يكفي أن تكون من “الأقليات” وضد النظام لتحصل على “مقعد” [قيادي أحياناً] في تشكيلات المعارضة، لكن ذلك يعني فقط أن تكون موجوداً لإلتقاط الصور وذكر اسمك في المحافل الدولية والدبلوماسية كدلالة على عدم الإقصاء وطمئنة “الطوائف”، ولن يكون لك أي دور حتى هامشياً في رسم سياسات “التشكيل المعارض”. هذا ليس سراً ولا يحتاج إثبات، لكن رغم ذلك فقد “بق البحصة” أحد أعضاء المكتب التنفيذي في المجلس الوطني السوري عند استقالته منه والذي تم تعيينه كـ “ممثل للعلويين”.
ورغم كل ما ذكرته فإن السوريين يعانون من مشكلة حقيقية ليست بسيطة في التمثيل، فما عدا جماعة الإخوان المسلمين لايوجد لدى السوريين تنظيم سياسي له وزن، ولديه تراتبية قيادية والتزام بالقرارت الصادرة من قيادته في كافة مستويات التنظيم. وهذا ما جعلهم يأخون حصصاً في التشكيلات المعارضة أكبر من حجمهم على الأرض.
بالتأكيد عدم وجود التنظيمات السياسية يعود أساساً للحقبة السوداء لنظام الأسد التي رزح تحتها السوريون، الذي صحّر الحياة السورية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا حتى، وقضى على أي شكل من أشكال التنظيم والزعامة والوجاهة والتمثيل. متجنباً أي خطرٍ محتمل.
لكن الشعب فاجأه رغم ذلك وقام بثورته التي لم ترض إلا برحيله ولم تساوم على ذلك، لكن “السياسيين” فاجأوا الشعب الثائر بتدني حسهم الوطني، وتدني قدرتهم على الإدارة السياسية الناضجة، والتهوا بمعركة المناصب. ولولا الضغوط العربية والدولية لما كان بإمكان “المعارضة” السورية تشكيل أي جسم تمثيلي للثورة. جرى ذلك أمام أعين السوريين الذين يبذلون أرواحهم للخلاص من النظام. وكانت معركة المناصب تجري أمام الممثلين العرب والأجانب في اجتماعات المعارضة، المدهوشين من المستوى المتدني الذي تراوح فيه “الطبقة السياسية” السورية، حتى أن السفير الأمريكي في سوريا “روبرت فورد” أتقن “بوسة الشوارب” وأجاد من العربية تعبير “إزرعها بها الدقن”.
والوصفة المكررة لأي تشكيل معارض بعد المخاض العسير لتشكله تبدأ في معركة إقرار التمثيل القيادي، ثم الخلاف على توزيع المناصب داخل التشكيل، ثم الإنسحاب والتنازلات، ثم الحرد، ثم المطالبة بإعادة الهيكلة ثم العمل على إعادة الهيكلة ثم فشل إعادة الهيكلة وهيكلة الهيكلة، والشعب يدفع دماً وأرواحاً وجوعاً وتهجيراً بشكل يومي.
أسوأ ما يمكن أن يعاني منه السوريون بعد سقوط النظام هو إقرار مبدأ عمل المعارضة كمنهاج عمل وطني، هذا يعني دخول السوريين في نفق مظلم. وستغدوا الحالة العراقية التي أعقبت سقوط صدام مثالية.
وفي السؤال عن الحل؟ سيكون الجواب “الإنتخابات”. إن أي انتخابات مهما أصابها من العوار ستكون أفضل حالاً من مبدأ المحاصصة المكرس في تشكيلات المعارضة والذي يراد تكريسه على المستوى الوطني في المرحلة الإنتقالية. كما أن إجراء أي انتخابات على أساس وطني وفق قانون مؤقت وغير ناضج ستكون أفضل حالاً من التقاتل الحالي والقادم في صفوف “طبقة المعارضة”، والتي ستتطور إلى استخدام السلاح لفرض شروط سياسية.
إن الأموال التي صرفت وستصرف على مؤتمرات المعارضة باعتقادي كافية لإجراء انتخابات مراقبة من منظمات دولية للسوريين في المهاجر وفي المناطق المحررة، لإبراز قيادة مؤقتة يمكن الاحتجاج بشرعيتها، وتكون مؤثرة على الأرض، وتستمد شرعيتها من الشعب الذي هو مصدر السلطات في أغلب دساتير الدنيا.
يسبق ذلك بالتأكيد صياغة قانون إنتخابي مؤقت من خبراء سوريين ودوليين على أساس وطني، على أساس الكفاءة والنزاهة، لا على أساس المحاصصة الطائفية والإثنية.
الذين يعارضون ذلك هم “طبقة المعارضة” لأنهم يعرفون أن تمثيلهم يأتي من غياب ذلك، ومن علاقاتهم العربية والدولية، ومن تبعيتهم لهذه الدولة أو تلك، ولأنهم يعرفون وزنهم الحقيقي على الأرض فهم يعارضون مبدأ الإنتخابات ويريدون أن يبقوا متمسكين بالتمثيل ما استطاعوا في الفترة الحالية والإنتقالية وإن استطاعوا فرضه على المستوى الوطني بعد زوال نظام الأسد.
لكن للثورة شعب يحميها. شعب بذل الدم والأوراح، وعانى الجوع والتشرد والبرد، من أجل نجاحها، كفيل بكنس هذه الطبقة. ذلك يحتاج بالتأكيد منظمات شبابية لديها كوادر مدربة وغير منخرطة في التشكيلات السياسية بشكل مباشر، تقود حراك هذا الشعب ضد “طبقة المعارضة”من أجل الوصول إلى وطن لجميع أبنائه، وانتخاب قيادات وطنية على أساس النزاهة والكفاءة والإحساس بالمسؤولية، والمصلحة الوطنية والحس الوطني العام.
خلف علي الخلف
للمتابعة على تويتر
http://twitter.com/alkhalaf
التعليقات (0)