مواضيع اليوم
08/01/2009 أمجد ناصر |
ليس رصاصاً هذا الذي ينهمر على قطاع غزة. إنه أطنان من القذائف والصواريخ. ترسانة كاملة من الديناميت والحديد المصهور والنار. اسم العملية الاسرائيلية مضلل، مثل أهدافها المضللة، مثل واضعي خطتها الدموية، مثل فكرتهم الخطأ عن نهاية القصة. المسميات هناك لا تتخذ اسماءها الفعلية عندما يتعلق الأمر بـ الغوييم (الآخرين). فلتسمَّ بأي اسم. قريباً كان أو بعيداً، فليس الاسم مهماً ما دام يتعلق بدم آخر غير الدم اليهودي الذي يحق له وحده أن ينعم بالاسم الصحيح. مقذوفات الفلسطينيين، في المقابل، تسمى صواريخ. اطلاقها على المستوطنات يسمى ارهاباً. وقعها على المستوطنين يدعى رعباً. التلفزة الغربية، المنحازة حتى العظم لأخبار القلعة الأمامية، ترينا اجلاء المستوطنين. ترينا ملاجىء. ترينا أناسا يتحدثون الانكليزية مثل الانكليز. ترينا الحفر البائسة التي أحدثتها مقذوفات فلسطينيي غزة، ولكنها تتلكأ كثيراً في أن ترينا الدم والأشلاء والهياكل العظمية النخرة للبنايات والأسواق والجوامع والسجون والمقار الحكومية التي تسويها الطائرات الاسرائيلية بالأرض، أو تتركها شاهداً على الافراط في القوة. تلك الصور نادراً ما نراها. تتركها التلفزات الغربية للبث العربي الذي يعظ المؤمنين. إن حدث ورأينا صوراً كهذه، لا بدَّ أن تكون مقرونة بصور مقنعين وشبان يلوحون ببنادقهم في غضب وناطقين يتحدثون انكليزية ركيكة. فالصور تحارب هي أيضاً. الصور تقول شيئا وتصمت، بلؤم وانحياز، عن شيء آخر. وكلامهم الفصيح، كلامنا المتلعثم مقصودان كذلك. الأول يوحي بالألفة والامتداد والثاني بالغرابة والقطيعة. هذا الرصاص المنهمر يذكرني، شخصياً، بـ رصاص آخر. إنه الاجتياح الاسرائيلي للبنان صيف عام 82 وحصار بيروت من خمس جهات. الخطة التي بدأت تتضح مع الهجوم البري على القطاع تعيد التذكير بالخطة التي وضعها شارون للاجتياح: تقطيع الأوصال بين المناطق وعزلها، ثم الانقضاض والالتهام. التقطيع ثيمة أثيرة، على ما يبدو، في أيديولوجيا الاقتلاع والمحو. القطاع محاط باسرائيل من كل جهاته باستثناء واحدة تتحكم فيها مصر. وهذه محاصرة بحكم الاتفاقات التي يعرف العرب وحدهم، بين سائر شعوب الأرض، كيف يحافظون عليها جيداً! كانت بيروت أيضاً محاصرة من كل الجهات. التقدم الاسرائيلي في اجتياح عام 82 كان سريعاً في معظم المناطق التي عبرتها الدبابات ولكن ليس عند مشارف بيروت. هناك استمرت الرقصة الدموية قرابة ثلاثة أشهر. كان شارون المتعطش لدخول بيروت يخشى دخول بيروت. كان يراقبها بمنظار كبير من تلة قريبة. لم يدخل بيروت إلا عندما غادرتها المقاومة الفلسطينية باتفاق دولي قضى بعدم دخول القوات الاسرائيلية الى بيروت الغربية عموماً والمخيمات خصوصاً. مجزرة صبرا وشاتيلا، التي أشرف عليها المسجى في الكوما منذ ثلاث سنين، حدثت بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن دخول بيروت هو الذي أشعل فتيل مقاومة لبنانية تواصلت نحو عشرين سنة. اسرائيل تقول إنها تريد الاستيلاء على منصات الصواريخ الفلسطينية التي تطلق على مستوطناتها من القطاع. كذلك قالت عندما اجتاحت لبنان عام 82 تحت شعار سلامة الجليل. أهداف كاذبة ومراوغة. فهي لم تغادر لبنان رغم مغادرة منظمة التحرير. لم تتراجع وراء الحدود إلا بعد أن أجبرتها المقاومة اللبنانية على ذلك. والآن تعيد الأكذوبة ذاتها. دورة الدم والدمار نفسها. مثل مصاصي الدماء في السينما لا تكتب لهم حياة من دون دمٍ حيّ. هذه هي اسرائيل: فامباير. بالدم لا بالخبز تعيش، بالحرب لا بالسلام تبقى على قيد الحياة. ليست هناك دولة في العالم يقتلها السلام كما هي حال اسرائيل. إنها تعرف تلك الكأس ولن تتجرعها قط. قد ينكفىء المقاومون الفلسطينيون داخل غزة ومخيماتها تحت سجادة قصف مبقعة بالدم تغطي القطاع. ولكن كيف ستخرجهم اسرائيل منها؟ لن يكون هناك بحر يخرجون إليه كما حدث في بيروت. فبحر غزة غير صالح لرحيل من هذا النوع. ليس هناك مكان آخر يخرجون إليه بعد أن خرجوا كثيراً. فهذا هو مكانهم الأخير، وما يجري هناك ليس فصل الختام في القصة القديمة المتجددة. أي انجاز اسرائيلي، بعد هذه التجريدة الدموية التي فجرت ردود فعل شعبية غير مسبوقة في البلدان العربية والعالم، أقل من احتلال قطاع غزة بالكامل وفرض الاستسلام على جرحه المكابر لن يكون نصراً. فالنصر الذي لا يحقق تغيير قواعد اللعبة (على حد تعبير المجرمة الشقراء ليفني) بعد كل هذا الدمار والدم والفضيحة السياسية والاخلاقية الاسرائيلية والعربية والدولية لن يكون نصراً. نصر القوي غير نصر الضعيف. نصر المدجج بكل أسباب القوة وبالقدرة، المطلقة السراح، على استخدامها، غير نصر المحاصر. هل هذا هدف سهل المنال؟ لا يبدو الأمر كذلك. لأن القصة لا تنتهي هكذا. كل القصص التي تشبهها لم تنته هذه النهاية. ينسى الاسرائيليون أنهم لا يغيرون على جيش. لا يضربون خطوطا ثابتة تتلقى أوامر من جنرالات مثقلة أكتافهم بأوسمة مزيفة. إنهم يواجهون شعباً لم يعد لديه ما يخسره، شعباً جوعوه وأذلوه وحاصروه في أضيق رقعة في العالم، ولكنه لم يرفع الراية البيضاء. ينسى الاسرائيليون، كذلك، أن القصة لا تنتهي برفع الراية البيضاء، وأن الرواة، الذين لم يستمعوا إليهم جيدا، لم يتوقفوا عن الكلام بعد سلامة الجليل ولا عناقيد الغضب ولا السور الواقي ولا أمطار الصيف، ولا الرصاص المنهمر أو المصهور. إن كان الاسرائيليون لا يعرفون أن الشعوب لا تكسر بسهولة ولا تموت بكبسة زر، فالفلسطينيون يعرفون أن للقصة نهاية أخرى غير تلك الخرائط التي يفردها جيش الدفاع على الأرض المحروقة. قد لا يكون فصل الختام قريبا في القصة القديمة المتجددة ولكنه لا ينتهي على هذا النحو. أمجد ناصر |
التعليقات (0)