أسمى الأحوال
عن التي تفيقُ كلّ ليلةٍ لترى اللّيلَ .. عن فوزيّة السّندي
قراءة : سعد الياسري
مدخل :
هتفَ (رامبو) بعد طوفانه الرؤيويّ المُلهَم : "لقد سالَ الدّمُ و الحليبُ" [1] . و كذا سأستعيرُ لسانَه وثنائيّته ؛ و أهتفُ بهما في وجه سابعِ جمراتِ الشّاعرة البحرينيّة (فوزيّة السّندي) أو ديوانِها السّابع (أسمى الأحوال) ، حيثُ الّتسويقُ الماهرُ لجنّة الفرد حتّى و إنْ لاحَ (الآخرُ | الآخرون | الجماعة) بين طيّات النصّ مِرارًا بصيغة المخاطَب أو الغائب ، و حيثُ الاشتغالُ الرّصينُ و الأشدُّ وضوحًا على ثنائيّات تتلاقح مرّة و تتنافر أخرى ؛ سأقف عند بعضها ما وسعني ذلك . هذا و قد صدر الدّيوان عام 2009 في 175 صفحةً من القطع المتوسّط عن (مؤسّسة الانتشار العربيّ | بيروت) بالاشتراك مع (وزارة الثّقافة و الإعلام | البحرين) .
بين الشّعر و التّصوّف :
منذ بدايات النصّ الشّعري الحديث – أعني قبل التنظير له أو فيه – و ثمّة معركة يخوضها شعراء هذا النصّ للعثور على معنى الوجود الدّفين ، معركة أسمتها النّاقدة الرّائدة (سوزان برنار) بـ (الطّموح الميتافيزيقيّ) ، حيث الوعي بالماوراء و اقتحام الأبواب الصّوفيّة التي تفصلنا عن المجهول سيعطيانِ للنصّ أبعادَه السّحريّة التي تصل به إلى القدرة على الحديث إلى الرّوح [2] . وكما نرى فمنذ عنوان العمل (أسمى الأحوال) تتمّ إحالة القارئ إلى أجواء الرؤى و الإشراقات الصّوفيّة .. أو أنّه – أي القارئ - سيفترض هكذا أجواء على أقلّ تقدير . حيث كلمة (الأحوال) و مفردها (حال) لها حضور وتأثير حاسمانِ في التّعبير الصّوفيّ ؛ و تعني "كلّ ما يردُ على القلب دون تصنّع و لا اجتلاب" [3] . و التي وردت مقترنةً بمصدر يفيد العلو و الرّفعة (السّمو) الذي صيغَ على (أفعل) التفضيل (أسمى) ممّا لا يبقي مفرًّا من العبور حفاةً خفيفينَ على هذه الرّوح التي تتمدّد فوق الأوراق .
نعم ؛ لقد أحالتنا الشّاعرةُ – عبر العنوان - إلى أجواء العمل ، إنّما خرجتْ بنا و أخرجتِ النصّ من سذاجاتِ التعبير الصّوفي المعتاد نحو جماليّات الشّعر الذي يشتغل مبدعُه على آلية ترضخ بكامل الأناقة إلى مبدأ (البحث) عن عنصر الإدهاش الأوّل و الأهمّ على الإطلاق وإن لم يكن الوحيد ؛ عن (لغة شِعريّة) بمفهومها المعاصر لا الإغريقي قطعًا [4] . وبوسعي الإرشاد إلى بعض مظاهر هذا الاستعمالِ الصّوفيِّ غير المبتذل و لا المستهلك ، و الحريصِ قبل كلّ شيءٍ على نكهة الشّعر :
"سمّهِ السّرَّ لأسميكَ السّراجَ" [صفحة 21] .
"لن أدركَ منتهاكَ مالم أدمني" [صفحة 67] .
"جسدٌ محكمٌ كبيتِ الله" [صفحة 69] .
"يا الله ؛ امتحنّي بذخيرةِ قلبي" [صفحة 71] .
"أستحلفُ المستحيلَ ؛ أن يراكَ و يعجزَ عنك" [صفحة 73] .
"مِشكاةٌ جموحةٌ أغرتني بما لم أقوَه" [صفحة 114] .
"غير الذي يراني أراهُ ؛ غير الذي أراهُ يراني" [صفحة 123] .
"ثقْ بي ؛ أيّها اللاّشيءُ .. فيكَ انطوى كلُّ شيءٍ" [صفحة 159] .
وغير ذلك الوفير ممّا لا يضيف حصره أكثر ممّا أبدينا و أوضحنا .
اللّغةُ لأجل اللّغةِ أحيانًا :
يرى (جوناثان كلر) و أنا معه فيما يرى ؛ أنّ ثراء الأدب و قوّته يعتمدانِ على حقيقة أنّه ليس فعالية لتسلّق الجبال أو لعب الشطرنج حيث معايير النجاح و الإخفاق واضحة ، لذا فإنّ تقييمَه يبقى شخصيًّا و لا يخضع لتشريحٍ معياريٍّ من قبل منتحلي صفة الخبراء [5] . و سأحاول – بعجالة – الدخولَ إلى تقييم اللّغة (الشّعريّة) من خلال فصلها عمّا قد يوحيه معمار (اللّغة) المحترفة ؛ دون أن أنتحلَ صفة (خبير) .
تمتحُ الشّاعرةُ عبر هذا العمل الوقور من الثّراء الهائل للّغة العربيّة ؛ إلى الحدّ الذي يغريها بخوض مغامرة (خطرة) . و مكمن الخطورة – في تصوّري - أنّ الشّاعرة لا تخلق أو تحاول خلق الجديد فقط ؛ بل أنّها تستخدمُ الشّعريّ و اليوميّ و الوحشيّ و المُهمَل والقاموسيّ مجتمعينَ ، و تجتهد في أن تقولَ كلّ شيءٍ باستخدام كلّ شيءٍ تقريبًا .. لذا كان الكتاب – في تقديري - عبارة عن احتشاد لغويّ مسيّجٌ بالشّعر غالبًا و لكن ليس دائمًا ، فيما تبقى الشّاعرة ناجحةً في تقديم لغة احترافيّة ؛ حتّى حين يغيب الشّعر أو يتوارى قليلاً خلف أغراض فكريّة أخرى تستوجب اللّحظة تمريرها .
و هنا سأوردُ مثاليْنِ سريعيْنِ مصداقًا على ما أدّعي من حيث استخدام اللّغة لأجل اللّغة و استخدام اللّغة لأجل الشّعر ، و بجوارهما انطباعي :
"حنكةُ الوردةِ ؛ عطرُها الغريرُ" [صفحة 24] ؛ [لغةٌ و شعرٌ] .
" القشّ لا يعلّم الحقلَ ؛ إنّما بقدرةِ القمحِ يتعلّم منه" [صفحة 33] ؛ [لغةٌ] .
هكذا يمكن القياس على بعض مساحات العمل ؛ و يبقى أنّ الفكرةَ برمّتها مجرّد انطباعٍ شخصيٍّ لحدود ما أراهُ شِعرًا .
بين الحواسّ و الحدوس :
أمّا (الحدوس) و مفردها (حدس) فهي "أدنى مراتب الكشف" [6] . و ها هي الشّاعرة تتقصّد إحالتنا إلى أجواء التّصوف مرّة أخرى ؛ إنّما بطريقتها . فهذه الثّنائيّة المتناقضة ترد – كما أزعمُ - بشكلٍ غير عفويٍّ ، أي تردُ كجزء من مُناخٍ أو فحوى يجب أن تعلق في ذهن القارئ . أمّا كيف جاز لنا القول بذا ؛ فحين نستعرضُ بعض الأمثلة سيتكشّف للمتابعِ الحصيفِ علامَ بنينا زعمنا :
الحواسّ :
"تسربلتُ بهتفٍ يُلغي الحواسَّ" [صفحة 104] .
"من سبي الرّنين لتعطّلِ الحواسِّ" [صفحة 120] .
"خرسٌ أكيدٌ للحواسِّ" [صفحة 129] .
الحدوسُ :
"آخر الجسد حدوس لا تتدارى" [صفحة 26] .
"حدوس اكتست بملامحَ خرّبت أعذارنا" [صفحة 150] .
"هطول السّياط لجرف أنّة الحدوس" [صفحة 155] .
إنّ "الحواسَّ" تأتي دومًا ملغاةً و معطّلةً بل وخرساءَ ، فيما تجيءُ "الحدوسُ" واضحةً لا تتدارى و بملامح تخريبيّة ، بل أنّ ثمّة مظاهر لها يجب إخمادها بالسّياط ؛ حتّى و إنْ كانت على صهوة طليقة .. لا غير . نحن أمام نزوع عارمٍ إلى عالم الإيهام و التخيّل و الافتراض ثمّ الشّك المريب .. الشّك الجميل ، في مقابل التفريط بجوهر المدارك و التجربة المحسوسة ثمّ بالفكرة الماديّة برمّتها .
بين النّور و العَتمة :
خلافًا لـ (بورخيس) الذي يرى بأنّ الكلماتِ سحريّةٌ ، و ربّما كانت هناك لحظةٌ ، كانت كلمة (نور) فيها تبدو ضياءً ، وكلمة (ليل) ظلمة [7] ؛ تقوم الشّاعرة بحشدِ اللّدوديْنِ معًا دون أن يعنيها المعنى القريبُ مطلقًا ، حيثُ تعربُ عن علاقتها الوطيدة بكلٍّ منهما ؛ إنّما تميّز واحدًا على آخرَ بدرجاتٍ .. فكأنّ الصوتَ الممسكَ بلجام القصيدة يريدُ القول : أنا الّليليُّ المحضُ !
إنّ هذه الثّنائيّة واحدة من أمتع المقابلات التي تقصّدتُ إجراءَها يومًا ؛ ولا أقولُ بقطعيّة صوابها و لكنّني أؤمن بمغزاها الأكيد و الرّاسخ . لقد كنتُ – ومعي النصّ طبعًا - أمام نسفٍ كاملٍ لمعاني الكلمات المعتادة ، حيث تمّتْ إعادة ترتيب اللّغة وفق لحظة (الإشراقة الشّعريّة) ؛ تلك التي لا تعترفُ إلاّ بذاتها خالقة و مدمّرة في آن . و كي نفهمَ هذه الثّنائيّة .. علينا أن نطالعَ هذه الأمثلة :
الأنوار :
"ثياب النّور تُضني من يغشاها" [صفحة 20] .
"قنديلٌ خالٍ من اللّيل" [صفحة 22] .
"غير وميض ماضٍ .. تبدّد" [صفحة 63] .
"النّهار تكدّس بصحوهِ الشّقيّ" [صفحة 90] .
العَتمة :
"أفيق كلّ ليلةٍ لأرى الليلَ" [صفحة 37] .
"اللّيلُ معي ؛ أعرفه ولا أعرفني" [صفحة 70] .
"قبل أن يستنيرَ المساءُ" [صفحة 97] .
"نورٌ صافٍ ؛ ما يُشبه اللّيل قبل الأوان [...] اللّيلةُ موغلةٌ في النّهار" [صفحة 148] .
في الواقع ؛ نحن نلمسُ بأنّ "ثياب النّور" مُضنية . فيما يتمّ تدجينُ أحد أهم رموز النّور "القنديل" و جعله ابنًا أبكمَ في حضرة أبيه النّاطقِ : اللّيل . حتّى "الوميض" الـ كانَ يومًا .. ها هو قد تبدّدَ . أمّا "النّهار" فرغم إشراقته إلاّ أنّه ليس أكثر من "تكدّسٍ شقيٍّ" . وفي المقابل ؛ نجدّ بأنّ صوتَ النصّ يهفو و يرفو ليطوي المسافة نحو لحظات العَتمة المُنيرة ، تلك اللّحظات التي ينتظرها بصبرِ و شوق المريدينَ .. فثمّة من يفيقُ من نومه – هذا إنْ كان ينامُ باستغراقٍ أصلاً – و يحدّق في الحالِكِ ، في الرّئيفِ الذي "نعرفه ولا نعرفنا" ، في الذي يشرقُ حتى لو كان مغزى فعلِه "مَغيبًا" . إنّه "النّور الصّافي" الذي يوغلُ في الشّقيّ .. أعني في "النّهار" . لذا علينا أن نفهم معنى أن يطلب هذا الصّوتُ و بجسارةٍ :
"قُدني أيّها الأعمى !" [صفحة 22] .
تلميحات :
أوّلاً . جاءتْ عناوينُ القصائد لافتةً و محتفيةً بذات الأجواء الرّوحيّة التي سادتْ غالب الدّيوان ؛ كما نرى في : (تأبين المحبّة) (مسجد الجسد) (آماد) (جاهُ المسرّة) (مهاد) (حتوف الجرائر) (ابتهالات المحن) (شكايا اليقين) (مسرانا) (لها السرّ) (مِشكاة الكون) .
ثانيًا . بعضُ المقاطع و السّطور جاءَ كثيف المعنى و المبنى ؛ راسخًا في أجواء الحكمة و التجرِبة الحياتيّة ، محيلاً أبدًا إلى المُطلق .. كما في :
"معضلة المعرفة ؛ تعاظم الدّليل دون يقين" [صفحة 24] .
"ما من حجر لم يسند القتلى بعدُ" [صفحة 116] .
"كلّ صمت داوٍ" [صفحة 117] .
"يئنّ كلّ بابٍ من غُصّة لا تزال" [صفحة 160] .
ثالثًا . ثمّة إيمانٌ واضحٌ بالشّعر و فعلِ الكتابة عمومًا ؛ إنّها رسائل مُرّرتْ ضمن سياقاتها التي أثارت عنايتي .. كما في :
"للشّعر قدرةٌ على التناهي" [صفحة 36] .
"قلمي : خشبة خلاصي" [صفحة 58] .
"كم كان الورق حديقة قلبينا" [صفحة 93] .
رابعًا . استعملتْ الشّاعرةُ صراحةً بعض الأسماء التي لها حضور هامّ [روحيّ أو أسطوريّ] في وعي البشريّة كـ (غاندي) و (شهرزاد) و (بنيلوب) ، و كان الاستعمال الرّمزيّ موفقًّا و خادمًا للمشهد بشكلٍ عامٍّ كما لمستُ .
خاتمة :
يرى (باشلار) ما روحه لا نصّه : أنّ الصّورة الشّعرية تنتمي إلى الكينونة ، و أنّ الخيالَ هو ما يضعنا في قلب الطبيعة البشريّة ، و أنّ الشّعر في إجماله ظواهريّة الرّوح لا الفكر ، فيما تحليل كلّ هذا يخضعُ إلى طريقتنا في الإصغاء إلى العالم [8] . وهذا تمامًا ما نجحتْ في فعلِه الشّاعرة (فوزيّة السّندي) حين أطلعتنا على كينونتها و فطرتها و قاسمتْنا أسرارها و عالم مخيالها و شاركتنا في محاولاتها لإدراك السرّ و ما تهمسُ به الرّوح و ما ينوءُ به الفكر . وهذا – أيضًا - ما اجتهدتُ أنْ أفعله أنا حين أخضعتُ كلّ تلك المعطياتِ إلى أدواتي و طريقتي في الإصغاء إلى العالم .
يبقى أن أشيرَ بتجرّدٍ إلى أنّنا أمام كتابٍ يشعرُ المرء بامتنان بعد أن ينتهي من قراءتهِ . ثمّة حلم و خيال و واقع يستمدّ العمل مادّته البكر منها جميعًا ، ليقومَ بطهوها على مِرجل يحلو للبعض – وأنا منهم – تسميته بـ (نموّ العلاقة) ؛ وحين تنضجُ (طبخة النّص) ستخرج إلينا عاريةً من لعنة المفهوم و حرّةً إلاّ من سحرِ اللّحظة . هذا الكتاب أحد الأجوبة الممكنة على التّساؤل الخالد لـ (أنسي الحاج) : "هل يمكنُ أن يخرجَ من النثر قصيدة ؟" [9] ، و نجيبُ : نعم يمكنُ .. جدًّا .
هوامش :
[1] رامبو ، الإشراقات ، تقديم و شرح : سوزان برنار ، ترجمة : قيس خضور ، دمشق ، منشورات وزارة الثّقافة ، 2002 ، صفحة 22 .
[2] للاستزادة انظر : سوزان برنار ، قصيدة النثر .. من بودلير إلى أيّامنا ، ترجمة : د. زهير مجيد مغامس ، مراجعة : د. علي جواد الطّاهر ، الطّبعة الثّانية ، القاهرة ، الهيئة العامّة لقصور الثّقافة ، 1996 ، الصّفحات 57 – 59 .
[3] الجرجاني ، التعريفات ، بيروت ، مكتبة لبنان ، 1985 ، صفحة 85 .
[4] للاستزادة حول مفهوم الشّعريّة الإغريقيّة انظر : آرسطو ، فنّ الشّعر ، ترجمة و تقديم : د. إبراهيم حمادة ، مكتبة الإنجلو المصريّة ، الفصل 21 .
[5] جين تومبكنز ، نقد استجابة القارئ ، ترجمة : حسن ناظم | علي حاكم ، القاهرة ، المجلس الأعلى للثّقافة ، 1999 ، صفحة 199 .
[6] الجرجاني ، التعريفات ، بيروت ، مكتبة لبنان ، 1985 ، صفحة 86 .
[7] بورخيس ، صنعة الشِّعر ، ترجمة : صالح علماني ، الطّبعة الأولى ، دمشق ، دار المدى ، 2007 ، الصفحة 113 .
[8] للاستزادة انظر : د. عبد الكريم حسن ، المنهج الموضوعي ، الطّبعة الأولى ، بيروت ، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات و النّشر و التّوزيع ، 1990 ، الصّفحات 21 – 22 .
[9] أنسي الحاج ، لن ، الطّبعة الثّالثة ، بيروت ، دار الجديد ، 1994 ، صفحة 9 .
نُشرت في صحيفة الأيّام البحرينيّة
عدد 21 | آب | 2010
سَعْد اليَاسِري
السويد
آب | 2010
الموقع الشّخصيّ
التعليقات (0)