مواضيع اليوم

عن البحر ... قصة "كان" وأخواتها !

سلطان القحطاني

2009-08-22 17:36:35

0

عن البحر ... قصة "كان" وأخواتها !
من مفكرة سلطان القحطاني:


1- يدُ من هذه التي تهز مهدي؟

لم أعرف اسبانيا من خلال سوناتات حب "لوركا"، وقسوة الجنرال "فرانكو"، وصراع الثيران الدموي فحسب، بل كذلك من عيني ماريا جوزيه، الحسناء الفالنسيّة التي كانت ترافقني في جولات المشي اليومية في شوارع "هيستنغز" الصغيرة، جنوب إنجلترا، حيث الأماكن التي كنا نتحدث فيها عن الأحلام، والمهنة المتعبة، والحرية، وأقواس القزح الموجودة في كل هذا العالم.

لا زلت أتذكر كيف كانت دهشتي حين قالت لي ذات ظهيرة يتعجب منها الربيع أن مدينتها مدينة عشاق، وأن أسم فالنسيا هو مبتدأ في جملة حب لا تنتهي، وأن فتياتها مجموعة من الأغنيات الصغيرة لا تلبث أن تتحول مع مرور الوقت والعشق إلى مقطوعة موسيقية لم يسمع بها الزمان نفسه. وقد كان هذا هو السر في أنني كنت كل يوم أسمع معزوفات صغيرة في تتهادى في البيت الذي كنت أسكن فيه.

لم أكن أعرف "ايبيزا" في ذلك الوقت وإلا لكنت سألتها عنها. لكن قُدّر لي أن أزورها وكنت متحمساً لأسباب كثيرة، فصاحب الدعوة هو بالنسبة لي خليط بين الصحافي والمرشد والمعلم والأب والصديق، والمكان هو قصة حب لا تصلح إلا في الصيف ولم يسبق لي اكتشافها، والزمان هو تلك اللحظة العصيبة التي تمر لحظة واحدة في العمر حين يشعر الإنسان أنه في مفترق طرق: فكراً وروحاً وعقلاً وقلباً.

إذاً هاأنذا ذاهبٌ إلى المدينة البحرية التي قيل لي أن جمالها أقصر من كذبة طفل. وهكذا بالفعل غادرت لندن في صباحها الجميل متزوداً بأحلامي الطازجة وأصابع "موزارت" تتراقص على البيانو في أذني ودفتر الكلمات الصغيرة بجواري حيث أدون ما قد يأتي من السماء.

كان كل شيء اعتيادياً لولا أن قطرات المطر بدأت في العزف بقوة على نوافذ الحافلة التي تقلني إلى المطار البعيد. "موزارت" والمطر وأنفاسي بدأت في التكون على زجاج النافذة كأنها دمع الندى فوق الأشجار البعيدة. الطريق طويلة نوعاً ما إلى مطار "ستانسديت" لولا الصبر والنوم والأحاديث الجانبية مع المسافرين.

لم يتوقف المطر وخشيت على الطائرة وعلى نفسي من مطبات الهواء لكن مضى كل شيء بسلام حتى حين. قبيل الصعود إلى الطائرة أوقفت الشرطة أحد المسافرين وبدأت في تفتيش حقائبه، بينما علت أصوات مجموعة من الشبان في الجهة المقابلة، يبدو أنهم أصدقاؤه، وهم غارقون في الضحك والعبث فيما هم يشيرون إليه بأصابعهم.

مضيت إلى حيث الطائرة بعد انتظار لم يكن بالقصير في الطابور الطويل من المسافرين.

سألت مضيفة الطائرة الحسناء عن مقعدي لأنني لم أجد رقماً على بطاقة الصعود فقالت كمن ينفث نفساً من سيجارة : "أجلس حيثما تشاء". يبدو أنه كان سؤالاً أبلهاً ليستحق إجابة متأففة مثل هذه.

وفعلا اخترت الصفوف الأخيرة من الطائرة على طريقة ما كنت أفعله في حافلة النقل المدرسية قديماً التي قد هربت منها مرات المرات لأستقبل شمس الظهيرة ونسمات الحرية الحارقة. لقد بدت لي هذه الطائرة حافلة مدرسية مهلهلة لا تزيد إلا بالأجنحة والقدرة على السباحة في سماوات الله العُلى.

حين استويت في مقعدي بدأت المسلسلات الصاخبة من المقعد المجاور.

هكذا دون مقدمات أخرج الرجل ذو اللكنة الاسكتلندية الذي يجلس جواري قلما من جيبه وهو يسترق النظر لممر الطائرة وإذ به يفتحه ويبدأ بسكبه على ظهر يده ويشمه. ومما فهمته من حديثه، بعيداً عن لوثة اللكنة وتخدر الشفاه، أنه كان يتحدث عن مسحوق الكوكايين. عرض علي القلم فقلت له مازحا إن أنفي من الحجم الكبير وهو يحتاج لسبعة أقلام. ضحكنا وقررت أن أحظى بساعة من النوم علها تعينني على تحمل مشقات المساء.

لم يمض وقت قليل حتى فوجئت به يهز كتفي ويشير إلى حقيبة الظهر التي بين يديه ويخرج قنينة من الفودكا ويعرضها علي. اعتذرت بلطف بعد أن سكبت ابتسامة مهادنة إلى جاره الذي قرر أن يخلع قميصه ويترك نصفه الأعلى عارياً. بهدوء قال لي أن لديه سيجارة من الماريوانا لكن التدخين غير مسموح به في الطائرة ويعدني – جزاه الله خير الجزاء- أن يعطيني نصيبي منها فور الهبوط.

وهكذا توالت العروض حتى قررت أن أنام وأن أشكر أبا حنيفة لأنه أحلَّ النبيذ ولم يحلل الفودكا ولا الماروانا !


- "مرحباً .. أنا سيسيليا" ..

قالت وهي تمد يدها المليئة بالتجاعيد وتنظر إلي بصرامة. لم تمض ثواني حتى تذكرتها. إنها سيسيليا ساركوزي، المرأة التي أدخلت زوجها قصر الإليزيه ثم خرجت وحيدة من البوابات الخلفية لتلبي نداء القلب. وبالفعل حصلت عليه مع ريتشارد أتياس الذي يبدو أنيقاً ولطيف المعشر مع ابتسامة لا تفارقه حتى في أحلك الظروف.

في الحقيقة لم تثر إعجابي وهي تخطو أمامي مستبقة زوجها الجديد بخطوتين كي تتعرف على اليخت الجميل "آمون" بصحبة ناشر إيلاف السيد العمير. حين خرجت وهي تتحرك مثل الجنود الذين أنهوا معسكرهم التدريبي قلت إنني لم أرتح لها. العمير يقول إنها لطيفة ثم يغمز بابتسامة : " يبدو أن هنالك إتحاد لقصار القامة ضدها".

بالطبع لم يكن يقصدني.

هايدي تقول :" كم هي جميلة بدونه". الهاء تعود على "ساركوزي" الذي أصبح منتقدوه يسمونه "نيكولاس آل ثاني" نتيجة صلاته المشبوكة المتشابكة مع الأسرة الحاكمة في قطر.

بدأت رحلة البحر إلى جزيرة "فيرومنتيرا". بدأت المحركات في الدوران. بدأ زبد البحر في التشكل فقاقيع بيضاء تسر الناظرين. وبدأت أولى اكتشافاتي الجديدة. إنها "شارلي باسي" المغنية التي تسكب الفراديس الخضراء في أذنيك. من هنا اكتشفتها ومع المرشد الروحي ذاته مثلما اكتشفت "أم كلثوم" لأول مرة في مراكش، وتوالت بعدها اكتشافاتي لعوالم "فرانك سيناترا" و"هاندل" و "موزرات" و "اليزابيث الأولى" والكثيرون غيرهم في جولات المشي اللندنية.

انشغلت بالتفتيش عن "سومر ست" بارجة صاحبة الجلالة التي قال لي السيد العمير أنها كانت هنا أمساً، لكنني لم أجدها في هذا "المستحيل الأزرق" كما كان يسميه الراحل الجميل صالح العزاز، والباقي الأجمل قاسم حداد.

نحدق في البحر سوياً ونحن جالسان في مقدمة "آمون". نتحدث عن الجاذبية. "كم كان نيوتن عظيماً" قلت. قال لي : "نعم وتصور أن اكتشافاً مثل هذا يتأخر آلاف السنين ... لم يتحرك العلم إلا حين تحرر من السلطة البطريركية التي كانت وقتها تحارب كل محاولة علمية لاكتشاف الكون".

لم تكن شارلي باسي هي الاكتشاف الوحيد الذي صادفني خلال هذه الرحلة، بل أنني أكتشفت عوالم صديق نجدي لم يستحسن أن أكتب عنه أو أذكر أسمه. وكما أختار بوب وودورد أسماً مستعاراً لمصدره الذي أفضى إليه بأسرار الأسرار التي كبرت مثل كرة الثلج مكونة فضيحة "ووتر جيت" مسمياً إياه "الحنجرة العميقة" فإنني قررت تسمية هذا الصديق النجدي باسم يليق بالبرزخ بين الأصالة والمعاصرة اللتين يعيش بينهما.

يمكن أن أسميه "اللحية الغانمة" .. هذا النجدي الجميل القادم من الصحراء ليستمتع ببوتشيلي وتطربه أغنيته الشهيرة "حان الوقت لأقول وداعا" ويحج إليه كلما قربت حفلاته الأسطورية من شواطئ الخليج، ولا ينسى سارة بريتمان، وشوارع الليل وغربة فرانك سيناترا.

يلتاع بموزارت، يسأل القصيمي، يقرأ التاريخ، يمل من سارقي الحياة، لا يتصالح مع النجوم الكريمة، يكره حين يكره، ويحب حين يحب, ويعطي حين يعطي، ويمنع حين يمنع. وكل هذه التناقضات تكون منه "قذافي" جميل ولكنه على "طريقته" الخاصة مثل كل "الشيوخ" !



مضى الوقت كمن يسرقنا ونسرقه، وبدأت لندن تضرب نداءها البعيد في آذاننا. عما قريب سوف نغادر هذا المهد الجميل المستلقي في البحر. لقد نمت هنا كما لم أنم من قبل. شعرت بأن ثمة يد تهدهدني ليلاً كي أنام. أمهات وأخوات وحبيبات بأيديهن المفقودة !

حسم السيد العمير الأمر وقررنا المضي. وحين وصلنا لندن كانت تستقبلنا بالمطر الجميل، والنسيم الهادئ، وتبقت في الذكريات، ايبيزا المجنونة، وصخبها المستمر، وماريا .. الفالنسيّة الحسناء! .

2- "كان": يا ما كان ... وما سوف يكون !

لقد كان هذا العنوان أعلاه شبيهاً بعنوانٍ كتبه شاب قبلي قبل أكثر من ربع قرن في صحيفة محلية أسمها "الجزيرة" تصدر في السعودية. وما بين البينين هناك العقود الطويلة والأفكار المتغيرة والمياه الكثيرة التي جرت تحت الجسور وفوقها.

إن الأحلام سلالم تصعد إلى الأعلى ولم أختر سلماً بعد. كم تبدو سلالم هذا العصر مربكة، محيرة، مشوشة. حتى المستقبل كان أجمل في الماضي.

وصلت مطار "نيس" وبدأت سورة البحر تتهادى من بعيد، وبدأتُ أسمع ترتيلها، وصوت مقرئيها، ورفرفة أجنحة حمامها. البيوت تتسابق في الصخور كما بدت لي طوال الطريق من "نيس" إلى "كان".

طوال هذا الشريط الجميل حتى البحر يمكن أن ألخص الأحلام. أحلام شاب يريد التغيير والعدالة. يريد أغنياء أكثر، وفقراء أقل. شاب يريد الإجابة على سؤال طالما أرقه حول كيفية العيش بين وهج المبادئ وسطوة الحقائق. على وظيفة القلم، وقلم الوظيفة. مسؤولية الأمل، وألم المسؤولية. شاب لا يزال حائراً ومحيراً حتى لنفسه.

كانت هذه الأفكار تتصارع في رأسي ولم يقطعها سوى "آمون" اليخت الجميل الذي يستلقى على البحر مثل أنثى جميلة. "ما معنى آمون؟" قلت. يجيب السيد العمير :" إنها مأخوذة من بيت لطرفة أبن العبد يعني فيه الناقة المريحة". يحضر لي الديوان وأقرأ البيت. ولا أعرف لماذا نسيت أن أسأل لماذا آمون؟.

الطريف في تلك الليلة هي قصة كتاب لاحظت أن العمير يدون فيه بين فترة وأخرى بضع كلمات بخط يده. إنه إحدى روايات الروائي المغربي محمد شكري. قصة وجود هذا الكتاب هنا مضحكة جداً. لقد أُهدي الكتاب إلى صحافي سعودي كبير. واضح أنه لم يكن مستعجلا على قراءته، فتلقفه العمير الذي كان يهوى القراءة في الحمام.

ويبدو أن العمير مع زحام الأفكار، الذي يعيش فيه معتادا ومختارا، قد نسي الكتاب في الحمام وحين دخل شكري ورأى كتابه في الحمام جن جنونه بطريقته وشخصيته القلقة وقذف بالكتاب في البحر، ولم يعد الكتاب إلا بعد تدخل العمال وتجفيف الكتاب وما تبقى من الصفحات.

حين قلت أنني أريد أن آخذ هذا الكتاب الوثيقة، قال العمير مداعباً: لا .. لا .. هذه بضاعتنا ردت إلينا ... ولكن من البحر!".

في الليل كنا نقرأ المتنبي بينما نسائم الهواء الجميلة في "كان" تهز المعاطف وخصلات الشعر وصفحات الكتاب.

أقرأ بصوت لا يسمعه إلا الليل وأبا محسّد حاملاً أمله وألمه وطمعه على كتفيه وسائراً في أرجاء المعمورة :
" تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم ".

يستمع العمير كما الصوفي ويتحدث بهدوء: " تخيل لو أنه ما زال حياً بيننا، بالتأكيد سيتم محاكمته في محكمة العدل الدولية على هذا البيت الهتلري !" .
فعلاً .

لكن من سيقنع المرحومين التويجري والشيراوي، والحي القصيبي بهذا الكلام؟ وهم الذين حملوا لواء المتنبي وتشربوه ودافعوا عنه سنوات تجر في أردانها سنوات. غرقوا في أثر المتنبي حتى الثمالة بينما قرر الجواهري، المسكون بالمتنبي حتى العظم، أن يهاجم أستاذه كي يولد من جديد وينفي عن نفسه تهمة أنه كان صورة جميلة للوحة أجمل!

وأيضاً من يستطيع أن يقنع الناقد الدكتور عبد الله الغذامي بأن المتنبي ليس شحاذا بل .. بل رجلاً يطالب بحقوقه التي لم تمنحها إياه الحياة، واستكثرها عليه القدر. علينا أن نتفهم شعور المتنبي حين يرى أن ملوكاً وأمراء وسلاطين صغاراً منحوا أشياء لم يستحقوها بينما ظل هو ملكاً بلا مملكة، وطريداً أبدياً بين الرمال، وعلى حواف الأنهار.

ليته عرف أن هنالك مئة ألف أمير قد ولدوا خلال القرن الأخير لكن لا يوجد إلا متنبي واحد! ... على طريقة بيتهوفن حين عاتب غوته على وقوفه المستمر لأمراء بلاط أوروبا وانحناءه أمامهم.

بدأت أحب البحر بعد سنوات طويلة من الكره والهرب والرؤية عن بعد. تذكرت "حنا مينا" روائي البحر الذي خلب لبي سنوات طويلة حتى التهمت نصف رواياته أو ما يزيد قليلاً. كم مرة شعرت بأن سريري زورق صغير تتراقص به دوائر البحر حتى يتحول إلى فقاعة. كم مرة أغلقت الكتاب لأنني خشيت على البطل وعلى نفسي من الغرق.

كل الأبطال يغرقون. أليس كذلك؟ .. ألم يسرقنا الزمن حتى غرقنا فيه ولم نستفق إلا على سنوات ضاعت من أعمارنا دون أن نعرف أين وكيف مضت. ويا للأسف لم نحتفظ بالإيصال كي نطالب بتعويض عنها. ومن أين سنخصمها إن استطعنا إلى ذلك سبيلا.

مع البحر يغدو للموسيقى طعمٌ آخر. ولقد أصبح العمير عاشقاً للموسيقى لدرجة أنه قد يتحول إلى أذن كبيرة. لقد ملأت الموسيقى فراغه الروحي كما قال لي. إن أهم مفتاحين يمكن بهما فهم شخصيته هو فهم علاقته بالغرب والموسيقى كذلك. هذان هما المفتاحان في رأيي لكل باحث يريد السباحة في عوالمه أو الكتابة عنه. إنه يطوف أوروبا لسماع معزوفة أو سيمفونية أو زيارة بيت موسيقي بشبق لا ينتهي ولا يتوقف.

أما أنا فإنني غارق في ترقب موسيقى القرن المقبل. موسيقى المستقبل. أسمع أصواتاً كثيرة لكنني لا أعرف أين نداء ألبي، وأي صوت أطرب إليه.

الوداع يا كان، أواه ما أجمل ما كان وما أجمل ما سيكون !




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !