أذكر أني مرةً كنت أبحث في اليوتوب عن بعض الفيديوهات لتمضية الوقت، فأثار انتباهي فيديو للشيخ السعودي العريفي(أنظر الرابط أسفل المقال).الفيديو كان على ما يبدو جزءً من محاضرةٍ ألقاها الشيخ لا أعرف موضوعها، لكنه كان في هذا المقطع الذي سمعته يتحدث عن مسيلمة الكذاب وقصته مع عمرو بن العاص وهو صحابي مشهور، هذه القصة وقعت قبل إسلام بن العاص، حيث من المعروف أن مسيلمة نازع محمدا النبوة في حياته.
يقول العريفي،دون ذِكرٍ للتفاصيل، أن عمرَ بن العاص طلب من مسيلمةَ أن يُسمِعهُ بعضاً مِمَّا أُوحِيَّ إِليه، فأَسمعه سورتين الأولى قال فيها : "الفيل و ما أدرك ما الفيل، له خرطوم طويل و ذيل قصير"، و الثانية : "يا ضفدع نقِّي ما تَنِقين، لا الماء تشربين و لا الطين تُكَدِّرين"، لكن الصحابي، و رغم أنه لم يسلم بعد، إلا أنه كان من دُهَاةِ العرب، وما كانت لتَنطَوي عليه مثل هذه التُّرَّهات، فأجابه إجابةً مُفْحِمة، قال له " واللهِ إنك تعلم أني أعلم أنك كذاب".طبعاً كل من كان حاضراً يسمع للشيخ هلل وكبر لدهاء بن العاص، الذي أسلم فيما بعد لأنه أدرك بلاغة القرآن، التي لا تُدرِكُها بلاغة، و لا يمكن أن يأتي بها بشر.
أنا هنا لا أريد أن أناقش تفاهة القصة، إذ كيف يُعقل أن يستطيع مسيلمة اسْتِمالَة عشرات أو ربما مئات الآلاف من العرب بكلامٍ كهذا، ثم أنه يصف الصَّحَابيَّ بالدَّهاء في موقف لا يستحق أي دهاء، كما أني لا أريد نقاش تفاهة المُستمِعين للشيخ، فقد أَلِفْنا ذلك،لكن المشكل المطروح هو أن مسيلمة هذا استطاع بهذا الكلام، الذي ضحك منه كل من كان يستمع للعريفي، لا لسببٍ إلا لإدراكهم ضحالته، أن يجذِب إليه من الأَتباع ما شكَّل خطراً كبيراً على الإسلام و المسلمين و صعَّب القضَاء عليه ، حيث أنه هَزَم جيش عكرمة قبل أن يُرسِل إليه أبو بكر جيشا أكبر بقيادة خالد بن الوليد، ليواجهه مسيلمة بجيشٍ قِوامُه 40000 رجلاً فيما يعرف بمَوقِعة اليمامة التي انتصر فيها المسلمون و التي كانت من أصعب معاركهم في تلك الفترة، وخير دليلٍ على هذا، هو أنه من الأسباب التي دفعت أبو بكر إلى تدوين القرآن، موت عدد كبيرٍ من الحُفَّاظ هناك.
قد يسأل سائلٌ الآن، ما علاقة هذا ببلاغة القرآن، و أجيب أنه يمِيط الِّلثِام عن تناقض كبير في أُطروحة الإعجاز البلاغي، حيث أن المسلمين يستندون في طرحهم على أننا في هذا العصر لا نملك من القدرات البلاغية ما يُمَكِّنُنا من تذوُّق هذه البلاغة، الشيء الذي كان متوفراً للعرب في تلك الفترة. كيف لا و هم أصحاب المعَلَّقات و سوق عُكَّاظ حيث كان يتبارى الشعراء بشعرهم، مما يشكل دليلاً قطْعِيّاً على الإعجاز البلاغي في القرآن، إذ لو كان محمدٌ كاذباً لاكتشفُوا كذِبه و عرفوا أنهُ من عندِه. لكِنهُم يَنسَون هنا كيف أن مسيلمه استطاع فعل نفس الشيء، بكلام يقولون أنه من صُنعِه، فإذا كان هؤلاء العرب بهذا الذَّكاء اللُّغوي، كيف انطَوت عليهم خَدِيعَة مسيلمه. ثم أنهم بنَسْبِهِم هذه السُّوَّر وهذا الكلام التافه إليه يزيدون الطِّين بِلَّه، و يزيدون من تحقير العرب الذين يسْتَشْهِدون بهم في بلاغة القرآن.
هذا كما أن قَولَهُم بأنَّنا في هذا العصْر غير قادِرين على رُؤية الأَبْعاد اللّغوية لِلقرآن، أمرٌ ينطَوي على تَعجيز المراد منه إِسكات كل من سَوَّلت له نفسه إِنتِقاد القرآن لغوياً، كما أنه خاطئٌ أيضاً، إذ أننا نملك خزَّاناً ذَاخِراً من الأَشعار والنصوص الأدبِية التي كُتِبت في نفس الفترة، و التي يظهر جَلِيّاً لكُل ذي ذوق محايد شدَّةُ بَلاغتها و جمال كَلِماتها و تناسق و عمق معانيها، بما يفوق بأشواط ما يوجد في القرآن. هذا دون إغفال حقيقة كون القرآن يحتوي على عدد كبير من أمثال سورتي مسيلمه، حيث يُغَطَّى على ضُعفِها اللُّغوي بتفسيراتٍ واهية كأسباب النزول، و إذا لم يجدوا مخرجاً، يقولون بأن لِلَّه حِكمةٌ فيما أَنزَل، وبِأن القرآن يَحتَوي على آيات مُتَشَابِهات وأخرى بَيِّنات.
ومن هنا يَظهر أنَّه إذا أَردنا دِراسِة القُرآن لُغوياً يَجب أوَّلاً أن نَضْمن حِياد الدَّارِسين، فالمسلمون بِكَافة أطيافهم يَقْرؤون القرآن وهُم يُؤمِنون إيماناً راسخاً بأَنه "لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"، و بِأن أَيَّ عيب يَبْدو لهم انما هو عَيبٌ في قُدْرتِهم على الفَهم أو في إمْكانِياتهم اللُّغوية، وبِهَذه الطَّريقة، يبقى القرآن رغم كل عيوبِه كاملاً في نَظَرهم.
و في النهاية أتْركُكُم لتَتَخَيَّلوا معي كيف كان سَيكون العالم لو انتَصر مسيلمة في تِلك الحرب، ربما كان يُقال الآن محمداً الكذاب عوض مسيلمة، و لكان هناك شيوخ مثل العريفي هذا يَقرؤون بعضاً من قرآنه ليَضْحكوا من سخَافته، و كيف أنه لم يخْدع أهل الحقِّ من اتْباع مسيلمة رسول الله.
رابط الفيديو :
https://www.youtube.com/watch?v=f8QkabyQqPY
التعليقات (0)