بقلم: كمال غبريال
قصة هذا المثل العربي، هي ما يحكى عن اثنين من الأصدقاء، فيما كانا يسيران ويتسامران، أشار أحدهما إلى شيء فوق قمة جبل، قائلاً لصديقه: هل ترى ذلك الطائر الذى فوق الجبل؟ أجابه صديقه نعم، ولكنه ليس طائراً، بل عنزة. . راحا يتجادلان فى كون ما يريان طائر أم عنزة، وبعد قليل طار هذا الشيء من فوق الجبل، فقال الصديق: أرأيت، ألم أقل لك أنه طائر؟. . لو كان عنزة ما طارت. . قال له الآخر بإصرار: "عنزة ولو طارت".
صارت هذه العبارة مثلاً فى العناد والإصرار على الخطأ. . لكنها بالدرجة الأولى تعبر عن حالة الانفصال بين حقائق الواقع، وبين ما يصر البعض على التمسك به من آراء مفارقة، ويصر في الوقت ذاته على أنها القراءة الصحيحة والوحيدة لذلك الواقع. . هنا في الحقيقة نكون أمام مشكلة مستعصية، فتلك التركيبة العقلية والسيكولوجية، لا نقول يصعب، بل ربما أيضاً من المستحيل التعامل معها، ناهيك عن مدى نجاح محاولات إعادتها إلى جادة الصواب، الذي يعني إعادة وصل ما تمزق من ربط بين الفكر والواقع.
يلح علي هذا المثل بشدة، ولا أبالغ إذا قلت طوال ساعات الصحو، وربما النوم أيضاً، وأنا أتابع مواقف وردود أفعال شعوبنا ومثقفينا، على كل ما يحدث لنا ومن حولنا. . يتخايل هذا المثل أمام عيني، فتداهمني أشباح اليأس واللاجدوى، فعبثاً أي مجهودات وتحليلات ومقالات، توجه إلى إناس يعانون إنفصالاً، ليس في شبكية عيونهم، بل الأدهي فيما تنقله هذه الشبكية من إشارات، تترجم في المخ ترجمة مفارقة ومنبتة الصلة، بما هم بالفعل شاخصون إليه!!
إلى هذه الخاصية في العقلية العربية (إن صح هذا الاصطلاح التعسفي أو دل على شيء) يرجع صدامنا مع العالم ومع العصر، ويرجع فشلنا في التوافق مع العالم، وفشل العالم في إلحاقنا بمسيرته المعولمة. . فمن المفترض أن الظروف العملية هي التي تشكل وعي الإنسان، وليس العكس. . بمعنى أن الفكر الحقيقي والصالح لدفع الإنسان إلى الأمام، هو ذلك الفكر المستمد من حقائق الواقع، لكن ما هو الحل مع شعوب تأبى أن تنظر إلى الأرض وحقائقها، وتصر على ترجمة ماتراه بعيونها، ليعكس ما هو مختزن منذ عشرات القرون في ذاكرتها المحتقنة بما تحوي من نفايات وخزعبلات؟
الأمثلة على ما نقول أكثر من أن تحصى، فهي بالفعل وليس بالمجاز تفترش كل مساحة حياتنا، بالذات فيما يتعلق منها بالوعي الجمعي. . ولم ينج منها بالطبع الوعي الفردي لإنسان هذه المنطقة، وإن كان بدرجة أقل. . وسوف نستعرض في هذه السطور بعض الأمثلة البارزة لهذه الظاهرة، ونترك البقية لاستنتاجات القراء:
• "الولايات المتحدة الأمريكية عدوة لشعوبنا، حتى لو كانت تغدق علينا كل أنواع المعونات المادية والفنية": مليارات الدولارات أنفقتها على مصر مثلاً، لتطوير التعليم الفني والعام والجامعي، وتطوير وتدريب المجتمع المدني ونشطائه، ودعم الديموقراطية والإصلاح السياسي، وتطوير أساليب الري، ومعالجة مياه الصرف ومياه الشرب، وتحديث سائر مؤسسات الدولة ونظمها، علاوة على حماية البيئة، ومشاريع البنية التحتية. . كما قامت بدعم مشاريع القروض الصغيرة، ودعم برامج التعليم في المدارس التجريبية، ودعم برامج محو الأمية الخاصة بالفتيات الريفيات، وتأسيس مشاريع القرية المنتجة، بالإضافة إلى تدريب القادة والصحافيين المصريين. . كما قام برنامج المعونة الأميركية بتمويل تأهيل القيادات المصرية من الرجال والنساء في القطاعين العام والخاص ممثلين عن قطاعات المالية، والاتصالات، وتقنية المعلومات، والتصنيع، والاستشارات، والتدريب والتعليم. . وممثلون عن هيئة سوق المال، وبورصتي القاهرة والإسكندرية، والهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة، ووزارات الطاقة، والتجارة الخارجية والصحة والبترول. . كما ضخت المعونة الأميركية جزءاً كبيراً من أموالها، في دعم مجتمع الأعمال في قطاع الخدمات، مثل السياحة والصناعات الغذائية، كما خصصت مليارات الدولارات في دعم الخدمات الصحية وتنظيم الأسرة والزراعة والتعليم. . كما أن المستشارين الأميركيين خلال السنوات الماضية، نقلوا خبرتهم ومعرفتهم إلى الأجيال المصرية من التقنيين والعمال والمتخصصين المصريين، خاصة في مجال الاتصالات والطاقة والزراعة، وتنقية مياه الشرب، ومعالجة المياه الغير صالحة لاستخدامها في الزراعة، وفي التعليم الأساسي، والتنمية التجارية. . باختصار شملت المعونة الأمريكية جميع مناحي الحياة المصرية، سواء الاقتصادية أم الثقافية والتعليمية والصحية.
رغم كل هذا فإنها ليست "بطائر"، وإنما "عنزة" عدوة. . وهنا تنبري العبقريات القومجية والمتأسلمة، لتنهال فوق رؤوسنا بالتحليلات والتفنينات، التي تثبت بها بما لايدع مجالاً للشك، أن كل تلك المعونات كانت من باب العداء لمصر، لاستنزاف مواردها، والسيطرة على قرارها ومحو هويتها، وما إلى ذلك من قوائم اتهامات معلبة، أو تم استخراعها خصيصاً، لمحو أي آثار طيبة أو إيجابية، تجاه من نضمر لهم في قلوبنا وعقولنا عداوة أبدية مقدسة!!
• في معرض بحث أمريكا والتحالف الغربي عن أسلحة دمار شامل لا وجود حقيقي لها، رغم دأب صدام على تهديد العالم بها، قاموا بتخليص الشعب العراقي والمنطقة والعالم من الوحش البعثي المسعور، الذي لم يترك جهة إلا ومد إليها أذنابه بالشرور. . وقد تم التخلص منه وتحرير العراق بسهولة فاقت كل التوقعات، إثر انهيار القوات الصدامية من تلقاء نفسها، وقام الشعب العراقي بضرب صور صدام بالأحذية، وسحل تمثاله في شوارع بغداد. . كل هذا واضح لمن له عينان، ولمن ليس له أيضاً، ويستطيع بتلمس الواقع بيديه، أن يكون صورة ما حدث ويحدث. . واضح أيضاً وضوح الشمس أن العراقيين أنفسهم باختلاف فرقهم وميولهم قد شرعوا في ذبح بعضهم البعض، وساهم العروبيون والمتأسلمون من كافة الدول الشقيقة في تلك المهمة المقدسة، وهي تدمير العراق وسفك دماء أهله، تحت مختلف الرايات والشعارات. . واضح أيضاً أنه في معرض ذلك تكبد الشعب الأمريكي وشعوب التحالف، خسائر جسيمة من دماء أبنائهم وأموالهم، وهم يحاولون تطهير قطعة من عالمنا الشرق أوسطي، وانتشالها من كهوف التخلف، لتطفو على سطح العصر وحضارته. . مع ذلك نصر مع أشاوسنا ومجاهدينا على أنها "عنزة ولو طارت". . "فالعنزة" أي أمريكا هي التي تقتل الشعب العراقي، وهي التي جاءت لتهيمن علينا، وتتحكم في ثرواتنا البترولية، التي سبق لصدام أن أشعل فيها النيران، وهو يغادر الكويت مقهوراً مدحوراً. . هكذا أيضاً فإن كل من يحاول إقناعنا بأن نتأمل الحقائق الواقعية، لنستخلص منها رؤيتنا وتقييمنا للأمور، يكون عميلاً للإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، وعدواً للإسلام وحاقداً على المسلمين!!
• ما يفعله العروبي الهمام "عمر حسن البشير" في الشعب السوداني في دارفور واضح للعالم كله، واستجلب التعاطف والتدخل من كل الدول والمنظمات الإنسانية، لوقف المجازر والإبادة الجماعية والتشريد والتجويع والاغتصاب للشعب السوداني (المسلم السني) في دارفور. . العالم كله يرى "الطائر"، ونحن فقط وأشاوسنا نرى "العنزة". . فالتعاطف والتكالب العالمي لنجدة مجازر العروبة البشيرية، هي مؤامرة إمبريالية صهيونية، تستهدف تفتيت السودان، والسيطرة على ثرواته البترولية الواعدة، ضمن مخطط عالمي صهيوني لتفتيت كل الكيانات العروبية المجيدة والرافلة في الرخاء والحضارة.
• حزب الله ينشب مخالبة في عنق الشعب اللبناني ودولته الأكثر رقياً بين جميع النظم السياسية بالمنطقة. . ليعود بها للوراء مئات السنين، سياسياً واقتصادياً وحضارياً. . سلاحة ورجاله غير موجهين جدياً إلى إسرائيل، بل يؤدي لها خدمة جليلة، بأن يقدم لها المبرر لتدخلها وقتما تريد على طبق من ذهب، أو على سجادة إيرانية الصنع. . حزب الله يجر لبنان إلى حرب غير متكافئة مع إسرائيل، يُقتل فيها اللبنانيون، وتُدمر بيوتهم ومقدرات حياتهم، فيما يختبيء السيد نصر الله في جحر مكين. . لكننا نرى أموراً مختلفة تماماً، ولا يمكن بأي حال أن تكون مستمدة مما نرصده على أرض الواقع. . فنحن نرى أن سماحة السيد قد حقق نصراً إلهياً على إسرائيل، وبأنه سيد المقاومة، وليس سيد إرهاب الشعب اللبناني، وتعويق مسيرته السياسية والحضارية، واليد الخفية لتنفيذ ما يتم على أرضه من جرائم اغتيال. . هو إذن الجهاد والصمود والتصدي، الذي يجعلنا نصر على أنها "عنزة ولو طارت"!!
لو استرسلنا في تعداد الأمثلة على تلك الحالة الفريدة المستعصية، فسيلزمنا مجلدات للإحاطة الجزئية بها. . هي حالة شعوب تعيش منذ قرون منكفئة على نفسها، تردد ببغائية ما يحقنه في رؤوسها المخادعون والمدلسون، سواء كانوا حكاماً أو رجال دين أو متثاقفين "مرتزقين بدينار أو صحن حساء"، كما سبق وأن قال "نزار قباني". . فهل من سبيل لأن تستيقظ شعوبنا من غفوتها، لترى العالم كما هو بالحقيقة، أم أننا سنظل أسرى أوهامنا، التي تصور لنا الأمور على أنها "عنزة ولو طارت"؟
التعليقات (0)