عندما يكون في سنن الله الجغرافية قولان؛ أيهما نصدق ما رواه المفسرون أم ما تراه العيون؟
بقلم د. أبو بلال عبد الله الحامد
أ- وعاظ و مفسرون يقولون:إرسال الله السماء مدرارا يخص المسبحين
انتشرت في ثقافتنا الشعبية السائدة خلال العهود العباسية والمملوكية والعثمانية ترهات وخرافات تكونت من خلال آراء وانطباعات روج لها بعض كتب الوعظ والتفسير،وقد أدت إلى إضعاف الروح العملية في الأمة، وصادرت إرادة الإنسان وعلم الشهادة، بدعوى الإيمان عامة وبالغيب خاصة.
من ذلك مايردده أغلب المفسرون: أن من بركة الإيمان أن يفتح الله بركات من السماء والأرض على المؤمنين، فيرسل السماء مدرارا، ويوسع الأرزاق ويكثرالأولاد، ويحتجون بآيتي إرسال السماء مدرارا، كما في قول هود عليه السلام "ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدراراً" ( هود : 52) وقول نوح عليه السلام"فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين..." . ويحتجون أيضا بآية:" ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا؛ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " ( الأعراف : 96 ) .
غالب المفسرين حين يذكرون هذا الرأي، يصرحون به تارة ويوحون به تارة أخرى؛ كالنسفي وابن عطية وأبي حيان والزمخشري، وعديد من المتأخرين، كسيد قطب وابن عاشور والصابوني والزحيلي..
ولعل خير من بلور هذا الرأي وأيده وتحمس له ابن كثير، الذي قال: معنى الآية"إذا تبتم إلى الله، واستغفرتموه وأطعتموه، أمدكم بالمال والبنين، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، ورزقكم بالأنهار والجنات" (مختصر تفسير ابن كثير)
ومضى عديد من المفسرين بنا أبعد من ذلك، فقالوا: إن الحرمان من الأرزاق والذرية والأمطار؛ من نتائج الكفر!!. وما الغرابة في قولهم ذلك؟،ماداموا يرون إنزال السماء مدرارا من نتائج الإيمان!، واحتجوا أيضا بآيات خاصة بمكذبي الأنبياء، كقوله تعالى"ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا".
ب-أولويات علم الجغرافيا ماذا تقول؟
وحقائق الجغرافيا الطبيعية والبشرية اليوم ، وتاريخ الحضارات؛ يثبت أن هذا كذاك كلاهماغير صحيح .
ولكن تركيز المناقشة هنا على الدليل النقلي أولى، لأن فيه تصحيحا لأمر اعتبر من مسلمات العقيدة، وعبره نستطيع أن نثبت أن ما قرروه غير صحيح.
ولعل من المفيد أن نشير في فاتحة المناقشة إلى أمرين:
الأول:أن من المقرر في أصول فقه الكتاب والسنة، أن فيهما نصوصا عامة وأخرى خاصة، فالعام هو"الدال على جميع ما يشتمل عليه اللفظ"، والخاص هو"الذي وضع خاصا بفرد من المعاني أو الأجناس أو الأشخاص(انظر أصول الفقه:أبوزهرة:156)، كما أن من المقرر أن في النصوص ماهو مفصل وما هو مجمل، وأن المجمل إذا أشكل يرجع في إيضاح معناه إلى المفصل.
الثاني: أن الله سير البشر على سنن طبيعية واجتماعية مطردة وأخرى خارقة نادرة.
وسنن الله المطردة صرحت بها عشرات الآيات، التي تقرر بأن تمتع الأمم بالنعم لاعلاقة له بكفر ولا بإيمان،كقوله تعالى،عن قوم هود أنفسهم على لسان هود:"واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين،وجنات وعيون"(الشعراء:132-134).وقوله تعالى أيضا:"ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن، مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا عليهم السماء مدرارا، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم، فأهلكناهم بذنوبهم"، وقوله تعالى:"أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين‘ نسارع لهم في الخيرات؟ بل لايشعرون".وقد قرر المفسرون هذا في مواضع كثيرة، منها سورة الفجر.
أما سنن الله الخارقة؛ فهي خاصة بالأمم التي أرسل الله إليها الأنبياء بالمعجزات فكذبتهم، فعاقبها الله عقوبات خارقة، وسنة الله في الأمم المارقة تتكون من أربع مراحل:
المرحلة الأولى بعث رسول يذكر بنعم الله كالمطر والأولاد.
المرحلة الثانية: يصيبهم الله بالبأساء والضراء، كأن يحبس المطرعنهم،ليخوفهم لعلهم يرجعون إليه.
المرحلة الثالثة: إرسال الله السماء عليهم مدرارا، عند تضرعهم وإعلانهم الاستعداد للإيمان.
المرحلة الرابعة: نزول العقوبة الخارقة الماحقة، عند إصرارهم على الكفر.
وقد صرح الذكر الحكيم برباعية مراحل سننه الماحقة الأمم المارقة، كقوله تعالى: "ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك. فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون.فلما نسوا ما ذكروا به؛فتحنا عليهم أبواب كل شيء.حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون " ( الأنعام : 42 - 43 ) . وأوضح نموذج لهذه الرباعية،هو قصة موسى وفرعون.
ترك التنبه لهذه المراحل يجر كثيرا من الناس بل ومن المفسرين أنفسهم؛ إلى الخلط بين سنن الله المطردة وسننه الخارقة، وهذا ماوقع للمفسرين، أمام آيات سورة هود ونوح
و على ضوء هاتين المقدمتين؛ ينبغي أن نقول: إن وعد قوم نوح وهود بالأمطار؛ إنما هو في ختام المرحلة الثانية من رباعية سنن الله الخارقة، التي أجراها على الأمم المارقة.
لعلنا نتأمل آية فتح البركات نفسها، من خلال سياقها وجوها في سورة الأعراف :
سنجد القرآن يعرض قصص خمس قرى من الأمم المارقة:قوم نوح وهود ولوط وشعيب وصالح(الأعراف: 59-93).
وسنجده ثانيا يصرح مباشرة،فورعرض قصص القرى الخمس؛ باطراد رباعية مراحل سنن الله الخارقة، يقول تعالى:"وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء، لعلهم يضرعون0 ثم بدلنا مكان الحسنة السيئة،حتى عفوا وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء0 فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون"(الأعراف:94و95)
ثم نجد ثالثا أمامنا مباشرة؛آية فتح البركات-وقد جاءت تعقيبا ختاميا على قصص القرى الخمس-:"ولو أن أهل القرى آمنوا...لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض..." ( الأعراف : 96 )؛ فهي تقول:إن الله لم يظلم أهل تلك القرى المارقة الخمس، عندما استأصلهم، فلو أن أهل تلك القرى؛ آمنوا عندما شاهدوا المعجزات وأصابتهم النكبات؛لفتح الله عليهم أبواب الرزق والبركات، التي أغلق عندما تنكروا للمعجزات.
ولذلك جاء في ختام قصص القرى الخمس المبادة: وتلك القرى أهلكناهم(الأعراف:97-102). وسياق الآيات متسلسل الحلقات، في إطار سنن الله الخارقة ، الذي يصرح بأنها خاصة بأمثال القرى الخمس، ، ولاينبغي عزلها وانتزاعها عن سياقها، لأنه يفضي إلى تعميمها على جميع الأمم، واعتبارها من سنن الله المطردة.
و قد تنبه الإمام البغوي(إمام أهل السنة في عصره) إلى أن خصوصية فتح البركات، ليس من سنن الله المطردة العامة، بل هو مرحلة من مراحل رباعية سنن الله الخارقة الخاصة، فقال في تفسيره: "لفتحنا عليهم " أي تابعنا عليهم المطر والنبات، ورفعنا عنهم القحط والجدب". أي أن نعم المطر والرزق والأولاد؛ من النعم التي سخرها الله للعالمين كافة،لا تختص بالمؤمنين، كما ذكرذلك أيضا القرطبي والألوسي وتفسيرالمنار. لكن عبارات البغوي أكثر دقة ومنهجية من عباراتهم .
كما انتبه البغوي أيضا إلى أن ماورد في سورتي هود ونوح؛ إنما هو من النصوص المجملة، التي يرجع في تحديد معانيها إلى مثل النص المفصل في سورة الأعراف، فقال في تفسير سورة هود :" ذلك أن الله عز وجل حبس عنهم المطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم فلم يلدن، فقال لهم هود عليه السلام: إن آمنتم أرسل الله عليكم المطر، فتزدادون مالاً، ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت ".
وقال أيضا في تفسير سورة نوح: "ذلك أن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم...، فهلكت أولادهم وأموالهم، ومواشيهم،فقال لهم نوح: "استغفروا ربكم" من الشرك،أي استدعوا المغفرة بالتوحيد؛ "يرسل السماء عليكم مدرارا".
ج-سبب غفلة هؤلاء الوعاظ والمفسرين:
وسبب وقوع من وقع من المفسرين في هذا اللبس؛ وذلك خطأ كبير في تطبيق منهج فقه الكتاب والسنة نفسه، ذلك أن في آيات سورتي هود ونوح إجمال،والإجمال في قصص القرآن يهدف إلى تركيز الضوء على جانب يتصل بالمقام ، و من المقرر في أصول فقه الكتاب والسنة؛ أن النص المجمل يرجع في تفصيل معناه وإزالة ما يعتريه من إشكال إلى النص المفصل.
ولعل ما مر يبين أن آية الآعراف محكمة صريحة، وأن آيات سورتي هود ونوح مجملات غير صريحات،أي متشابهات، وأن فهمهن لايكون إلا بردهن إلىالصريح المفصل المحكم في مثل سورة الأعراف.
ويستحق رأي البغوي الإشادة، لأن البغوي لم يرو في تفسير الآيات إلا هذا الرأي، ولم يقل مثل ما قال أغلب المفسرين: في سنن الله الجغرافية قولان، وهذا يدل على وعي منهجي، بأن تلك الآيات وأمثالها ليست من النصوص العامة، التي تقرر سنن الله الجغرافية المطردة، بل من النصوص الخاصة، التي تقرر سنن الله الخارقة، التي حلت بالأمم المارقة.
التعليقات (0)