إن السمة المميزة لعصرالعراق الحالي هو أنه عصر موت المعنى يبدو ذلك مخيفا منذ الوهلة الأولي ، عصر القحط الروحي والفقر المعنوي، فكل أكاذيب الساسه الذين قفزوا على حين غرة على جسد العراق المنهك هي معارك خاسرة فقد فيها الإنسان العراقي إنسانيته، واستحال فيها إلى شخص ملتبس الفعل والارادة وفاقدا لأحساسه بأدنى مقومات كونه انسان ، كل شيء بدا آيل للسقوط في أفق الارتكاس نحو مجتمع الغاب الذي اسسه صولجان حفاة العقل في الحسينيات ، فبالرغم من كل ملامح التقدم التي يتبجح بها زمان العراق الرديء هذا والذي هو زمن القمع الديمقراطي بامتياز، فإن الفاقة والحرمان والبشاعة هي صفات وصور مأزمية تبصم جانبا من الحياة أو التي تبدو كذلك في العراق .
عندما ندمن التأمل ونرتكن إلى هاجس السؤال، ونعاين ما يعتمل في عصرنا من ضياع وتيه، ، من موت كئيب يرفض الانسحاب من بين ظهرالعراق ، عندما نفعل ذلك كله يتأكد لنا بقوة أن العمر الافتراضي للمعنى من الوجود قد زال وانتهى، وأننا انخرطنا قسرا في اللامعنى السديمي، وفي عمق البقع السوداء كما يقول كافكا …
في كل شيء يلوح اندحار المعنى و سرابه، لكن هذا لا يفهمه المالكي وهو ما يدفع نحو السؤال عن المعنى واللامعنى، وشعرة العقل أو اللاعقل التي تفصل بينهما وتحتم علينا بعدا الدخول في وضع ما لا نحسد عليها في مطلق الأحوال …فلا يسعنا إلا أن نتساءل مجددا عما يعطي لوجود الانسان العراقي أو غيابه معنى محتملا، وما الذي يسحب من تحتنه بساط المعنى ؟ ويحشره بالتالي في متاهات اللامعنى لوجوده ؟ وقبل ذلك هل هو في حاجة قصوى إلى المعنى في زيف اللامعنى ؟ لمجابهة هذا الشقاء التساؤلي لا مناص من التأمل لقراءة تفاصيل الحياة واكتساح لغتها البئيسة بحثا عن معنى الأشياء أو لا معناها في عصرالعراق الجديد الطافح بالرداءة و الابتذال.
إن السقوط المدوي لصدام جاء كمشروع مجتمعي تجديدي جاء ليبشر الفرد بفردانيته، بحريته، بقدرته على الفعل، لقد جاء وفقا لأدبياته الأولى ليؤكد انتهاء عهود صكوك الغفران ودخول الجنة بغير حساب جاء لينهي محاكم التفتيش، جاء ليقتل النبؤة في مهدها قبل أن تمتد لتغتال مسحة الشوق أو الخيال أو الحلم ، لكن لم يخلص الإنسان العراقي من القهر السياسي القديم الا ليقع في اكذولة مشرعنة هذه المرة باسم المرجعيات واصحاب العمائم الذين لم يعترفوا للعراق بحريته لأنهم لا يعرفون أساسا ماذا تعني الحرية .. فقط هم يعرفون معاني كثيرة للعبودية .. على الرغم من أن العالم بات يقدس الآن الحريته الفردية بكل محمولاتها الانسانية والكونية
إن حرية الفرد في المجتمع العراقي الحديث ما هي إلا وهم قاتل، ان المجتمع الحديث هذا عرف عقلنة جديدة للقمع وتناميا مفزعا لآليات تقليم الأظافر وقص الأجنحة واطالة الذقون ، وعرف ارتفاعا حقيقيا لصيغ القهر الاجتماعي، الشيء الذي أدى إلى ضياع ” الأنا ” وسط زحام ” النحن ” .
فالفرد صار أكثر انصياعا لقيم الجماعة السستانية و أكثر انصهار وتحللا في بوثقتها، وهو ما يؤدي نهاية إلى إلغاء فردانيته وتبخيس حريته وفعاليته الاجتماعية. فهل مات الإنسان العراقي الذي بشرنا به زوال حكم الطاغية هل مات انسان العراق الجديد أو هو في سبيله الى الموت ؟
إن عمليات الفرملة والقمع وتقنيات إعادة الإنتاج والتدجين، وما إلى ذلك من تقنيات تذويب الفرد وقتله تؤكد بأن هذا المجتمع يحكمه أجداده، وأنه مجتمع خاضع للموتى ويدار من القبور ومن القبور يتسرب دائما الهواء الفاسد ، أي أنه يأتمر وينتهي بالفائت والغائب، وفي ذلك نفي وإلغاء مباشر لحرية الفعل والتجاوز وموت للحاضر وضياع للمستقبل . والواقع أن الإيمان بالفرد العراقي وحريته التي لا يمكن له أن يعرف مذاقها طالما هؤلاء المخلوقات المسخ يمسكون بعصا كسحاء يهشون بها على الغنم القاصية حتى ترجع الى الى الحظيرة بمباركة مراجع التقليد وسدنة هياكل الوهم وهم يخرجون من جحورهم التاريخية يسرقون الأمل والفرحة بالغد الآتي الذي طال انتضاره وبعد مزاره .. ويقتلون حتى البسمة من شفتي الطفل الرضيع حتى أرادوا ما اريد لهم … ارادتهم تنبع من غيرهم .. أرادوا للعراق ... يال الخسارة ويال ضياعك أيها العراق .. أن يتحكم هولاء.. الدمى... قراطية... بمصيرك .. أرأيتم الى وجه المالكي الذي يشبه وجه القرد .. مع الاعتذار للقرد .. كيف راح البصاق يتطاير من شفتيه وهو يقول نحن العراق ... ارأيتم كيف اختزل العراق في شخصه الكريه ورائحة نوى التمر التي كان ينظمها مسابح ويبيعها على باب السيدة زينب في سوريا ... أو الى هذا الدلفين الذي يبدو على شكل انسان بوجهه الخنزيري القبيح الطالباني هذه الكتلة من الضراط كيف يقول العراق أمانة في اعناق الكرد أو الذي ذلك القزم ويكفيه أنه كذلك الحكيم الذي يصول ويجول في طول العراق وعرضه مبشرا بالدمى .. قراطيه .. والحرية والبغاء المقدس .. وآسافاه عليك يا حجاج وما أحوجنا اليك الى رجل يشبهك يلده التاريخ على حين اغفاءة من زمن الناهقين في كل العراق ......
لقد صلنا إلى درجه عليا من البؤس المجتمعي و مات الفرد والإنسان ، كيف ولماذا يحدث ذلك ؟
في قصة “وداع السلاح” ناقش ارنست همنغواي فكرة مقلقة تتعلق بالفرد في المجتمع، إن كان في مقدوره أن يدير ظهره للعالم وأن يعيش لنفسه بعيدا عن صخب الناس وحفلاتهم التنكرية التي هي الهدف الأثير للسوسيولوجيا كما صرح الراحل بيير بورديو أكثر من مرة.
وعليه فقد اختار بطلا القصة كاترين وفريدريك أن يعيشا في قمة جبل بعيدا عن العالم المزيف، وفي النهاية المأساوية كنهاية مبدع القصة، بعد موت كاترين سيصيح فريدريك مختزلا كل المعاني الهاربة ” إن العالم يحطم الفرد ”، وعلى نفس الدرب نقول بأن المجتمع العراقي يسحق الفردانية ويدجن الأفراد محولا إياهم إلى أرقام مدمجة في أقراص مدمجة، أو أصوات انتخابية في معارك السياسة المرجعية الخاسرة بامتياز ، أو زبائن مستهدفين في جيوبهم وراحتهم في أتون الاستهلاك ، هذا هو عصر العراق – للأسف الشديد – عصر الجماهير، عصر القطيع المساق نحو ما يبتغيه الذين هم فوق دوما .
لا مكان للفرد، ولا كلمة إلا للجماهير / القطيع، الذي يشار إليه بالرأي العام والمواطنين والشعب وما إلى ذلك من التسميات المخادعة، فهذا القطيع يوجه قسرا نحو مسارات مدروسة بغير قليل من الدهاء، اعتمادا على أجهزة إيديولوجية وأخرى قمعية حسب ما تمليه الظروف … وربما هذا ما جعل الكثيرين من آل القلق الفكري يختارون الرحيل بعيدا ، ربما لأنهم لا يريدون أن تغتصب حريتهم في الفعل والاختيار، لهذا اختاروا الرحيل ألما وجنونا وانتحارا رحمة من قضاء الساعات الطوال أمام فضائيات تحقق في البقع االسرطانية في وجه المالكي المسبحجي . أو ماضي الحكيم المفعول به ...
في ثقافة القطيع تصير المسايرة فعلا مباركا وتمسي المساءلة ذنبا يستحق العقاب، وبالطبع ففي وضع كهذا سيكون القهر والنبذ الاجتماعي بالمرصاد لكل من سولت له نفسه باقتراف ” جرم ” السؤال والخروج عن طوع السائد والمبارك من طرف الجميع، فلا مجال للمبادرة والتساؤل النقدي قبالة ثقافة الإجماع و القطيع وفتاوى المرجعيات .
قطعان بشرية إذن في جل أرجاء االعراق يتم تعليب وعيها الجمعي في قوالب جاهزة لإدمان المسايرة ونبذ النقد والمساءلة، يتم تشكيلها حسب مقتضيات اللعبة الدائرة، حتى تكون جاهزة للتحكم فيها عن بعد وبأقل الخسائر، وحتى تكون – وهذا هو المهم – جاهزة لقول لا ثم قول نعم إن استدعت الضرورة ذلك، ولرفع شعارات واستهلاك منتوجات معينة وباختصار لفعل ما يتوجب فعله وما تقتضيه ضرورة الصالح العام ..
والواقع أن كل هذا ما كان له أن يكون، وأن يتجذر واقعيا، بهذه الأشكال المفزعة لولا القمع المؤدلج بمباركة المراجع ، فالدولة، أية دولة، تلجأ في سبيل ترسيخ مؤسساتها و حضورها إلى جهازين متلازمين هما الجهاز القمعي والجهاز الإبيولوجي المرجعي ، فالأول يعمل على تصريف العنف المؤسسي والتحكم فيه، والثاني يقوم بتقديم حقنات سوسيوسياسية لشرعنة القائم والحفاظ عليه، الدولة في المجتمع الديمقراطي العراقي الحديث نجدها قد أولت عناية فائقة للجهاز القمعي كما أولت العنياة كذلك للجهاز الابيولوجي الابوي ايديولوجي العلوي الحسيني الفاطمي الأهمية القصوى ليضفي الشرعية على الممارسة القمعية باسم الديمقراطية .. دمقراطية المعابد والحسينيات مما سمح بتكون تكنولوجيا جديدة هي تكنولوجيا القمع الشرعية ، و هي محصلة نهائية لسباق التسلح اللطمي بالجنازير وجنون السيطرة على العراق وهتك شرفه ، وهو أيضا اختبار موضوعي لقدرة الأنظمة الحاكمة على تطويع الأفراد وتحويلهم إلى أجساد طيعة تماما كما هو الأمر بالنسبة لمؤسسة العقاب كما يقول ميشيل فوكو.
إن تكنولوجيا القمع لا تظهر آثارها فقط في الطفرة التي عرفتها مؤسسات العقاب والامتداد المرجعي الذي صار مكتسحا لكل التفاصيل الإنسانية في العراق ، ومحصيا لكل الأنفاس والحركات والسكنات، .
إذن في أحضان هذا الوضع الرديء الذي يقتل ويحطم الفرد، في ظل هذه الأنظمة الجائرة المبسترة التي يموت فيها الأمل وتداس فيها الكرامة ، وتباع فيها المبادئ وتشترى في كرنفال المبادئ، هل ثمة معنى ما لما يمكن أن يقال ؟ ذلكم ما نعجز عن تأكيده، وذلكم ما يغرقنا في حيرة باذخة ويورطنا في عمق الأسئلة الكبرى، علها تبعد عنا أرق السؤال والضياع في زحمة المتاهة .
هناك في قارات الفكر الفلسفي تحدث هيدغر ذات مرة عن هروب الآلهة، كما تحدث ماكس فيبر عن حروب الآلهة، وفي ذلك إشارة واضحة على انحسار المعنى وتبعثر الحقائق وتحطم صروح اليقينيات. ومع نيتشه الذي اعلن موت الله وفوكو الذي أعلن موت الانسان وجيل دولز ورولان بارت الذان اعلنا موت الخداثه يبقى السؤال ممكنا بل وقائما عن ولادة اليقضة من رحم الموت الجمعي للفكرة أنا كانت
وهنا والآن ونحن نعاين موت الإنسان بأبشع الطرق وأكثرها خسة وخيبة وجبنا في العراق ، نجد أنفسنا مستفزين بأسئلة المعنى واللامعنى، ومدعويين إلى تفكيك الوقائع لصوغ الممكن بعيدا عن قلق البياض والفراغ، فاللامعنى يجتاح قحطنا وفراغنا المهيب، ويؤسس لموتنا في أحضان تكنولوجيا القمع ومجتمع القطيع، وكل التفاهات التي تسرق منا حريتنا وفعلنا وتسرق منا الأهم وهو المعنى من الحضور أو الغياب، فإلى متى سيستمر العراق في ركضه المجنون وراء لا معنى الأشياء ؟ وينسى أنه يساق من هذه الكائنات المسخ الى مذبحه التاريخي
اتعرفون لماذا أحب العراق .. لأنه عراق سومر وأكد و آشور وبابل ... لأنه عراق اور كاجسنا واور نمو ويتلتا ومسكا كاشر ولكوبلندا وسرجون الأول وسرجون الثاني وحمورابي وشلمنصر والقائمة تطول ... لأنه العراق الذي كان هو البداية لقصة الحضارة والتطور كان هو المهد الذي ولدت في رحمة المدنية وكان هو الينبوع الذي دلفت من مآقيه أصول المعرفة لتغذو الانسانية أنسانيتها وتطعمها من اثداءها السكينة والوقار والحرية والعدالة والمنهجية في التفكير وتؤسس للوعي سبله وتشق للمعرفة طرقها وللفكر مجاريه .. سلو الهند والسند والفرس والميدا أو الفراعنة واليهود والأغريق والرومان وغيرهم من أمم الأرض قديمها وحديثها من الذي علمهم الحرف والكتابة من علمهم القانون ومبادئ علم الأخلاق من علمهم الدين وعلوم التأويل من علمهم أصول الزراعة والتدجين من رسم لهم خطوط علم الفلك والتنجيم من الذي وضع المبادئ الأول لعلم قواعد اللغة والأدب والشعر ووضع لكل ذلك الضوابط والقواعد من أول من وضع قصة للخلق وسن القوانين التشريعية والدينية .. من أول من بنى المدارس والمستشفيات ووضع قوانين النظام الاجتماعي واصول المحاكمات والجزاء والعقاب سلو التاريخ من اي كوكب هبط هاؤلاء الناس أن الأغريق لم يعترفوا لحضارة من الحضارت القديمة التي سبقتهم ما خلا السومريين ففي كتاب أثينا السوداء ثمة اشارات بالغة الدقة الى فضل السومريين الذين منهم ومنهم فقط تعلم الأغريق فن الملاحم وأدب الملاحم والمبادئ الأولى للخلاق والقيم ...
لهذا أحببت العراق ولهذا أخاف عليه أن يغتاله في لحظة جنون حقد الفرس والكرد التاريخي في التواطئ مع السادة الجدد
التعليقات (0)