زارنا أيام الحجّ رجلٌ جزائريّ من أصدقاء والدي وكانت سُكناه في بيتنا الصغير منضمّاً إلى مجموعة من الحجاج الأقارب والزملاء والأصدقاء والمعارف الذين يدينُ لهم ربّ الأسرة بالفضل والكرم لمّا زارهم في بلدانهم شرقاً وغرباً في عالمنا العربي والإسلامي،ورآني ذلك الرّجل أسقطُ أحياناً أثناء سيري نتيجة اعوجاجٍ وعرَجٍ في رجلي اليمنى بسبب شللِ أطفالٍ قديمٍ أُصبْتُ به وأنا بن سنتين من عمري فأسرّ لأبي بأنّ الجزائر تزخرُ بالأطباء الماهرين في علاج مثل هذه الأسقام والمشكلات في العظام ..
قرّرَ والدي أن أذهبَ للجزائر وأنا حينها أبلغُ ستة عشر عاماً فقط لإجراء الفُحوصات اللازمة ودراسة إمكانية العلاج وسافرتُ معه بالفعل في شهر رمضان من عام 1986م وأتينا العاصمة الجزائريّة التي تحمل نفس اسم الدولة واستقبلنا حينها صديق والدي الذي اقترح عليه أن نقوم بهذه الرحلة واستضافنا في منزله الهادئ الجميل في وسط العاصمة وكان حينها مديراً لأحد مصارفها الحكوميّة ..
كان سفري في ذلك الوقت بمثابة القفزة فوق حدود الخيال ووراء منتهيات التوقّعات إذْ لم أكُن أتصوّر مغادرة المدينة المنورة في طائرة تمكث بين السعودية والجزائر أكثر من مس ساعات لا توقّف فيها ولا محطّات ولا مروراً بحدود أو مراكز شرطة سوى رجال أمن المطار الدولي في العاصمة الجزائرية الذين كانوا على عكس ما قرأته في الصحف صغيراً عن "غِلظةٍ" في تعامل الإنسان الجزائري رغم لَطَافة قلبه وخاطره ..
وفي مستشفى "الحرّاش" كانَ موعدنا الأولي مع استشاري العظام جزائري الجنسيّة من أبٍ جزائري وأمٍّ فرنسيّة واسمه "ساتور" ولكنّ لهجة الجزائريين يفخّمون في نطقهم التّاء ليقترب من الطّاء فاستقرّ قفي سمعي أنّ اسمه "ساطور" وذهبت تلك الكلمة تقيمُ علاقات توافقيّة مستمرّة مع تخصّص جراحة العظام وما في ذلك من تكسير وتجبير ومشكلاتٍ لا أوّلَ لها ولا آخر أخافتني كثيراً منه ولكنّي مضطرّ للسمع والطاعة لأوامر والدي الذي يحدوهُ الأمل أن يراني أمشي على قدميّ من دونِ عرَج ..
هذا الاستشاري ذو العينين العسليّتين الوضّاءتين وما في ملامح وجهه من سحنة لا نعرفها نحنُ القادمين من سُمرة الحجاز وملامح الصحراء العربيّة جعلتني أشغفُ به كوجه جديد غير مألوف خاصّة وأنّه لم يكنْ يعرف من اللغة العربيّة سوى كلمة "لَبَاس" بمعنى "لا بأس" وهي اختصار للسؤال عن الحال هل أنتَ بخير وأرجو أن تكون بخير،وكان يلفظها بطريقة مميزة يخلطها بابتسامة تجعل الصغار في العمر مثلي يشعرون بالأمان وهم يسلّمون أجسادهم لتشخيصه وفحصه الطويل ..
وبعد مراجعات استمرّت أسبوعاً قرّر الطبيب بأنْ لا مناص من عملية جراحيّة يتمّ فيها هدمُ بناء الرّكبة وإعادة تركيبها مرّة أرى باستخدام مقبضٍ من مادّة قريبة من الحديد ومن ثمّ فتح نهاية الساق لتطويل وتَرِ الكاحل حتى يسمحَ للقدم أن يلمسَ الأرض بعد أن بعُدَ عنها طيلة أربعةَ عشرَ عاماً،وأخبرنا الطبيب أنّه سيجري العملية بعد شهرٍ من آخر زيارة زُرناه فيها وفق جدول عملياته التي كانت تأخذ كلّ وقته متنقلاً بين العاصمة الفرنسية "باريس" والجزائريّة "الجزائر" ..
اضطرّ والدي لأن يتركني في الجزائر وحدي ويعود للسعوديّة بسبب انشغاله بعمله الذي لا يستطيع أن يتغيّب عنه شهراً كاملاً في انتظار عمليّة تتطلّب البقاء في الجزائر لشهرين آخرين بعد إجرائها،وسافرنا من يومنا إلى مدينة "وهران" ومنها استقلّينا طائرةً إلى مدينة "بشار" الصغيرة في الجنوب الجزائري قريباً من الصحراء الكبرى قاصدين أبناء عمومة لنا استوطنوا الجزائر وأضحوا جزائريين جنسيةً وثقافة ووطناً ..
وصلنا لمطار "بشار" وكانَ في ذلك التاريخ عبارة عن غرفتين لا أكثر واحدة للقادمين والثانية للمغادرين في بهو من صحراء لا ترحمها الرّياح في أغلب شهور السّنة وذهبنا لبيتٍ كبيرٍ من عائلة "الجكاني" هناك حيثُ الطبيعة العربية الأصيلة وكرم الضيافة ودماثة الأخلاق وسماحة النفوس وتركني والدي بعدَ يومين عندَ هؤلاء القوم ورجَع للسعوديّة ومكثتُ بينهم قرابة الخمسة والعشرين يوماً أنعمُ بكثيرٍ من الدَلال لم أعرفه عندَ أهلي وفي بلدي وانطبعَ في تعاملي الكثير من عاداتهم بعد فترة وجيزة حباً في هذا الشعب الكريم ..
وفي اليومين التي مكثها والدي معي صادَف يوم عيد الفطر المبارك والناس هناك في رمضان تنام في الليل وتستيقظ للسحور ومن ثمّ لصلاة الفجر على عكس ما تعوّد عليها أهلنا في الحجاز من سهر الليل ونوم النهار،ولمّا أذنَ المؤذن لصلاة الصبح من يوم العيد أسرعتُ مع والدي لجامع كبير بجانبنا قبل أن يخرج معنا أهل الدار وأدينا الصلاة مع الجماعة وانتظرنا كالعادة التي نعرفها في السعوديّة أن تصلي الناس العيد بعد شروق الشمس مباشرة وهم ماكثين في المسجد حتى تأدية هذه الشعيرة،ولكنّ الناس بدأت في التناقص بعد صلاة الفجر حتى خلا المسجد من الجميع إلا أنا وأبي فاقترح عليّ والدي أن نصلي ركعتين لله وننصرف وتأكّدَ بأنّ هؤلاء لا يصلّون العيد وتمتم "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" ..
عُدنا للمنزل ووالدي متكدّر خاطره بسبب عدم قيام أهل "بشار" بهذه الشعيرة ونمنا على مضض ولم نستيقظ إلا على أصواتٍ وجلبةٍ في الخارج تدعونا للنهوض لصلاة العيد عند الساعة العاشرة صباحاً وتأكّدنا بعدها أن ما جرت به العادة الفقهية في بلاد المغرب العربي أن وقت صلاة العيد هو "الضحى" بعد أن تشرق الشمس بما يقارب الساعة والنصف أو الساعتين دونَ عجلةٍ اختارها أهل الحجاز لمذهبٍ حنبليّ يتبنى وجهة نظر أخرى وظروف اجتماعية وجدَت في الدّين والأحكام الشرعيّة متّسعاً ..
لمّا حانَ وقتُ مراجعة الطبيب عُدتُ برّاً إلى العاصمة "الجزائر" برفقة أحد أبناء عمومتنا بسيارته "البيجو505" وقطعنا مسافة ألف كيلومتر مارّين على مدنٍ كثيرة أتذكّر منها "وهران" و "الشّلف" التي كانت تسمى "الأصنام" وبها وقع زلزالٌ مدمّر قبل مجيئنا لها بسنوات وكذلك "سطيف" و "سعيّدة" وقرى لم تكن تغيبُ عنّا طيلة طريقنا حتى وصلنا العاصمة ودخلتُ مستشفى الرّياضيّين وأجريتُ العملية التي تكلّلت بالنجاح وخرجتُ منها "الجبسُ" يلفُ رجلي من أصابع القدم حتى نهاية الفخذ ..
لمّا عادَ والدي للجزائر بعد إجراء العمليّة مكثَ معي حتى أمر الطبيب بفكّ "الجبس" عن رجلي وإلحاقي ببرنامج للعلاج الطبيعي في منتجع طبّي بمدينة "بوحنيفيّة" وتركني هناك وعاد للسعوديّة مرة أخرى وقضيتُ جلّ وقتي في ذلك المركز أخضع لعلاج طبعي على أيدي جزائريّين أضحوا بعد سنوات من أعز الأصدقاء والإخوان،والغريب أنّ أغلب أسئلتهم كانت تدور حول ما السبب وراء مجيء "سعودي" إلى الجزائر للعلاج وبالسعودية نفطٌ وخيرٌ كثير وليس لدي من الإجابات سوى رغبةُ والدي حفظه الله ..
تجوالي في الجزائر هذا قبل أكثر من ثلاث وعشرين سنة لم يتكرّر حتى يومنا هذا ولكنّي لم أنس ما لقيته في تلك الدولة من حضارة وتنظيم ووطنيّة كبرى لم أشاهدها وأنا اليوم أتجول في عالمنا العربي دونَ وصيّ ولا مرافق،ووجدتُ في الجزائر برغم وطأة ظروفٍ اقتصاديّة تنحو منحى الرؤية الاشتراكيّة حينها إصراراً من الشعب على الاكتفاء الذاتي بما تنتجه الجزائر من أدواتٍ استهلاكيّة ينظر لها الجزائريون بعين الفخر والاعتزاز والغبطة ولم يحزنهم حينها إلا تواطؤ الغرب المُجحف على فريقهم الوطني الذي شارك في نهائيات كأس العالم في الثمانينات الميلاديّة وتغلّب على ألمانيا في المباراة الشهيرة ..
لطول مكوثي في الجزائر حينها الذي استمرّ لقرابة الأربعة أشهر أتيتُ للمدينة المنورة وأنا أتكلّم لهجة الجنوب الجزائري فأستبدلُ كلمة "نعم" بكلمة "واه" بمعنى الموافقة وأستخدم التعبير بالواحد في كلّ حديثي،حيثُ إن أهل "بشار" كانَ الواحد منهم عندما يحكي لكَ قصّة يقول "في واحدِ المرّة لقيتْ واحدِ الرّاجل في واحد الزّنقة وقالّي واحدِ الكلمة ....... الخ" وكنتُ مثار استحسانٍ من إخوتي وأصدقائي وكأنّني أطلسٌ جغرافيّ متنقّل أحكي قصص السفر وحكايات الاستطباب ..
ليس في الجزائر مجاملةٌ ولا أنصاف حلول ولا تضييعٌ للوقت ولا إعادة للكلام فالرّدود هناك قاطعة والأحكام من الصغار قبل الكبار واجبة التنفيذ ونقضُ العهد بداية للطّرد من الإنسانيّة والكرم واجبٌ وإعانة الضعيف فرض عين والترحيبُ على قدر الموجود والاعتزاز بالأصل والدولة والوطن سيرة الكلّ،وباختصار شديد هذا ما أعرفه عن الجزائر التي زرتها تذكّرته اليوم بعد لغَطٍ رياضيّ مؤسف ..
التعليقات (0)