مواضيع اليوم

عندما تقمص الشبيحة لويس الرابع عشر

خلف علي الخلف

2012-01-14 01:47:27

0

 في التسعينات من القرن الفارط، وبعد أن دالت دولة الشبيحة، وبسطوا سيطرتهم الاقتصادية و«التشبيحية» على كامل الساحل السوري، وتمددت إستثمارتهم «التهريبية» إلى كامل المنطقة الوسطى وحلب...

قرر الشبيحة أن لايحذوا حذو النظام بإهمال منطقة الجزيرة السورية، فمددوا نشاطهم الإقتصادي ليشملها. كانوا في الغالب يستخدمون طريق حلب – الحسكة، الذي يمر من شمال مدينة الرقة ويقطع الطريق الواصل بين الرقة وتل ابيض.

في ذلك الحين وفي تلك المنطقة التي مازلت أعتقد أنها منطقة مهجورة من العالم بدأوا بمصادرة السيارات [أي سيارة يصادفونها وتحقق أغراضهم «التنموية»] للقيام بـ «مشاوير» تهريب؛ حتى أصبح أصحاب السيارات يخبئونها ويتنقلون بالسيارات العامة، أما من ظلوا يستخدمون سياراتهم أصبحوا عندما يتلاقون يهنئون بعضهم بالسلامة أولا ثم السؤال «ها.. مالقطوك؟.»

عند هذا السؤال تسمع مرويات كأنها «خيال ماركيزي» تبدأ بطريقة توقيف [السادة] الشبيحة لصاحب السيارة وتنتهي بقبول عذره الذي قدمه لعدم الذهاب معهم لتحميل «حمل تهريب» وتكون جملة «انقلع ولاك..» حتى إذا ترافقت مع رفسة هي فرج عظيم ولطف وكرم من الشبيحة، وتثير الضحك والانبساط لصاحب السيارة الذي قد يكون وجيهاً في قريته.

قبل الناس الأمر وكأنه قدر لا راد له!. وهكذا تم التعامل شعبيا مع الأمر على أنه غير مسيء للكرامة، بل إنه شيء قريب من الكوارث الطبيعية. رغم ذلك تظل بعض القصص محفورة لغرابتها ولفرادتها.

في يوم من أيام صيف الحقبة الأسدية المستمرة منذ 41 عاماً، والتي تشارف على نهايتها، وأثناء عبور الشبيحة من حلب الى الحسكة على الطريق المذكور، لا أدري ماذا حدث لأحد المجانين في دورية للجمارك وقرر مطاردتهم، [وأنا لا أصدق أن يصل الجنون بأحد إلى هذا الحد وأبحث عن مسبب أكثر اقناعا للحادثة التي أرويها لكم] وفي خلال تلك المطاردة حدث تبادل إطلاق نار مع الشبيحة؛ والذين في العادة يكون أحدهم من عائلة الأسد لحماية القافلة باسمه؛ وأصيب أحدهم [وهذا شيء أيضا لايمكن تصديقه] فقرروا الانحراف عن طريق الحسكة الى طريق تل ابيض الغربي باتجاه الرقة [يربط الرقة بمنطقة تل أبيض طريقان أحدهما غرب البليخ وآخر شرق البليخ].

سوء حظ وأقدار أحد أقاربنا أنه يسكن على جانب هذا الطريق حيث يملك قطعة أرض زراعية هناك، على الأرجح ورثها أبيه عن جده. ومن سوء حظ هذا الرجل أنه عاش في ظل الحركة التصحيحية المباركة، التي أطالت عمر الإنسان في سوريا [بحسب تقرير قديم لصحيفة رسمية]، ونهبت البلاد، و... أوصلت الكهرباء لقرى سوريا ولم تتركها في الظلام الدامس الذي يستر العباد من مصائب الشبيحة، فما أن رأى الشبيحة ضوء المنزل حتى قرروا أن يمروا عليه ويرموا «حمل الدخان» لديه، لتصبح سياراتهم خفيفة لاسعاف المصاب. [بحسب الرواية التي لا أصدقها وأنسب الأمر الى «بنشر» لدولاب أحد سياراتهم قضاءا وقدرا فلا يعقل أن يجرؤ أحد في ذلك الوقت على الضحك أمامهم فما بالك باطلاق النار عليهم] قالوا للرجل «سنعود. خلي الدخانات عندك حتى نرجع..»

لم ينم الرجل الذي لا يدخن، وهو يرى المصيبة التي حلت عليه والمتمثلة بكراتين من الدخان الأجنبي [ المارلبورو تحديدا]، وما أن أشرقت شمس الصباح، التي بدت مضطربة وخائفة كما رآها الرجل؛ حتى ذهب إلى المخفر الذي يتبع له وأبلغهم بالمصيبة؛ فحلت المصيبة على المخفر! بعد مشاورات سرية بين رئيس المخفر[المساعد] والشرطة الذين بلا رتب، قالوا له: الله يوفقك الله يوفقك هذا ليس شغلنا إنه شغل الجمارك روح بلغ الجمارك ولا شفتنا ولا شفناك يا أبو فلان الله يستر عليك، استر علينا كلنا متجوزين وعندنا ولاد...

ولأن الجمارك في الرقة قرر الذهاب الى الفرقة الحزبية القريبة منه!. وبعد أن تركه أمين الفرقة وذهب إلى بعض الأعضاء العاملين في الحزب [بالموتوسيكل] للتشاور، عاد؛ ومعه أحد الرفاق البعثية الذين يفهمون بالقوانين، فقالوا له: يارفيق هي بدها قرار سياسي ونحن لسنا قدها. الله يخليك الله يخليك لا شفتنا ولا بلغتنا!

ذهب الرجل الى قسم الشرطة الخارجي بالرقة وإلى الجمارك وإلى...  فأصبحت «قصة كراتين الدخان» التي لديه يعرفها كل شخص في الرقة وأصبح معارفه المدخنين يتوددون له مازحين علّه يعطيهم كروز كروزين دخان حتى لو بحقهم! وهو يرد على كلامهم فقط: بـ الله اتركونا يااااه خلونا نخلص من ها المصيبة!

بعد أن شاع الخبر كثيرا وبعد خوف «القيادة» في الرقة من أن يصل الخبر لـ «القيادة بالشام» التي لا يستطيعون تخمين موقفها حول الأمر، فقضية حساسة مثل هذه قد تعتبر [فجأة] ضمن اختصاص الأمن القومي وقد تطيح بكل من يتورط بها، فقد يعتبرون متخاذلين لعدم قيامهم بالواجب الوطني ومكافحة الفساد والتهريب، وقد يعتبرون متسرعين لقيامهم بما من شأنه وهن نفسية «الشبيحة» والإضرار بخططهم التنموية لمنطقة الجزيرة، وليس للرقة فقط!.
...

بعد تشاور «قيادات» الرقة، من أمين فرع الحزب [وهو السلطة العليا نظريا في المحافظة] إلى المحافظ إلى قائد الشرطة إلى رئيس الجمارك إلى فروع الأمن... قرروا تشكيل لجنة مشتركة لاستلام الكراتين؛ كي يتحمل الجميع مسؤوليته التاريخية والعقوبة المحتملة من الشبيحة كي لا «يشيلها» واحد أو جهة بمفردها...

وبالطبع تقاسمت اللجنة جزء كبير من الكراتين وسلمت «كروزات» قليلة منها للجمارك بموجب ضبط رسمي، فارتاح الرجل وأولم لأقاربه بعد خلاصه من هذه المصيبة التي حلت عليه في ليل دامس.

لم يمض يومان على تسليم الدخان المهرب إلا و«طب» عليه الشبيحة في ليلة كان القمر فيها بدراً. أحدثوا جلبتهم المعتادة ودخلوا إلى المكان الذي وضعوا فيه الكراتين ولشدة المفاجأة لم يجدوها!.. فسألوا الرجل بذهول شديد: وين الدخان ولاه؟!

فرد الرجل متلعثما: الدخان.. الدخان..

- أي الدخان ولااااه...

- الدخان... الدخان.. أخذته الدولة!

كبير الشبيحة، والذي عادة يكون من بيت الأسد أصبح يصرخ كالملدوغ وهو يركل الرجل:

ولاه مين الدولة!.. مين الدولة ولاه!... ولاه أيـ... بربك مين الدولة!.. ولاه أنا الدولة... أنا الدولة ولاه..

صمت الرجل؛ لـأنه فعلا لا يعرف «مين الدولة». استفاق أطفال الرجل وبناته وزوجته على الصراخ والتهديدات بالقتل وبدأوا يبكون ويصرخون في ذلك الليل الذي كان القمر فيه بدرا، فرقّ قلب زعيم «القافلة» لحالهم..

قال له: سماااع ولاه.. قدامك مهلة تلت ايام.. بدي الدخانات نفسن وبدي لاقيهن مكان ما نزلتن وإلا قسما برب الكعبة لأصادر لك ولادك ومرتك بدل ها الدخانات... وغادرت «القافلة» بحفظ الله ورعايته.

حار الرجل وبار، وطمئن أطفاله أن الصباح رباح، وأنه سيذهب إلى «الدولة» التي أصبح الدخان في عهدتها، ويبلغها بتصاعد المصيبة التي حلت عليه في ليلة مقمرة.

ولأن لقاء إنسان بسيط في سوريا [الأسد] بمسؤول صغير، يحتاج لواسطة فما بالك بلقاء كبار «القيادة»، جاء الرجل إلى قريب له من «طيز الصبح»، وأيقظه من نومه وحدثه بالمصيبة، طالباً تدخله حيث علاقته بـ «القيادة» في الرقة جيدة.

ذهب الرجلان إلى أمين فرع الحزب حيث «يمون» عليه «الواسطة»، وحدثوه بالمصيبة... فما كان حاله أفضل من حالهم، وبعد استماع شديد لحالة الرجل، وبعد تحريض منه على أنه بحماية «الدولة» وإنها هي التي أخذت الدخان، وإنها هي التي يجب أن تحميه وتشوف له حل... أجرى أمين الفرع اتصالات برؤساء الفروع الأمنية والجمارك، وكانت نتيجتها [بدون طولة سيرة] أن تنصل الجميع من «المصيبة».

تركوا الرجل يواجه مصيبته وحيداً دون «دولة». وأمام الحاحهم الشديد على «المسكين» أمين الفرع بالتصرف، اتصل بالمحافظ وأمن لهم لقاءاً معه دون أن يشرح له المشكلة.

ذهبا إلى المحافظ، وقد تضائل الأمل بإمكانيات الدولة وقدرتها على حماية فرد من «رعاياها»، وكان الرجل يردد طول الطريق: إذا الدولة ما قدرت تحميني من يقدر على ذلك.. لاحول ولاقوة إلا بالله.. ياربي منين جبت لي ها المصيبة... ياربي شسويت أنا لتبليني ها البلوة.

دخلا إلى المحافظ، وكحديث ودي يبدأ به المسؤولون مع من يلتقونهم من فلاحي ومزارعي المحافظة؛ سأل المحافظ عن حال القطن.. حيث كانت منطقة شمال الرقة من أكبر مناطق زراعة القطن.

فأبلغه «الواسطة» الذي مع الرجل، أن القطن زين، وأن عند أبو فلان [الرجل صاحب المصيبة] «قطنات» [أي حقل قطن] من أحسن القطن بالمحافظة وأنه فلاح نشيط، يزرع القطن والقمح والشعير بجد ونشاط... لكن القطنات مهددات بالموت وضياع جهد الرجل مؤكدا له أن ذلك سينعكس على اقتصاد الدولة[وهذا أسلوب موارب في رواية المشكلة يتقنه بـ«بساطة» أهل الريف]. فانتفض المحافظ مؤكدا أنه سيذلل كل العقبات كي لاتموت نبتة قطن... تفضلوا شو المشكلة؟

شرح الرجل المشكلة للمحافظ، مع التأكيد على أنه قام بما يجب أن يقوم به أي «مواطن» صالح، لأن هذه «دولتنا» ولازم نحارب الفاسدين كلنا، وأن التهريب يضر الوطن ياسيدي المحافظ...

صفن المحافظ، ودق الجرس وطلب ماءاً... ثم طلب له ولهم قهوة مرة؛ فقد نزلت عليه مصيبة لاقدرة ولا طاقة له بها. وبعد أن فكر عميقاً..

قال المحافظ: شو بعمل لك يعني... أرسل لك جيش يحميك مثلا! افتح لك مخفر بالبيت يعني! شو فيني أعمل؟!

كان الرجل صادقاً، فلم يكن أحد يستطيع أن يفعل شيئا أمام كارثة من هذا النوع تصنف ضمن الكوارث الطبيعية في سوريا الأسد، ولا يستطيع حتى نائب الرئيس ومجلس الوزراء مجتمعاً أن يفعل شيئا اتجاه «مصيبة» من هذا النوع.

لكن المحافظ لم يكتف بذلك فقد أردف: بعدين أنتم العشائر معروفون بإغاثة الملهوف، لشو لتبلغ عنه..! يعني الجماعة أمّنوا فيك وتركو ها الكم كرتونة عندك ضروري تبلغ عنهم؟! هي خيانة للأمانة..! مافيني أعمل لك شي دبر نفسك...

خرجا من عند المحافظ بخف حنين واحد. وبقي الخف الثاني عند «الدولة». تدارس الرجلان الحل بعد عجز «الدولة» كاملة عن حمايته، فكان القرار أن يجمع عائلته ويحتمي بقريتنا عند أقاربه، حيث لايمكن أن يعرفوا مكانه، ويترك «القطنات» تواجه مصيرها، فحياة أبنائه وعائلته أهم من «القطنات».

عاش الرجل لاجئاً بعيداً عن بيته عدة شهور بسبات ونبات، مع تكتم شديد على مكانه كي لايصل ذلك لعلم الشبيحة الذين كانوا هم الدولة، ولم يعد حتى تيقن الرجل أن دولة الشبيحة نسيته.

هذه الحادثة ليست فريدة من نوعها، فقد تعرض السوريون في ظل دولة الشبيحة إلى استباحة مستمرة وقاسية؛ وهذا ما يفسر الإصرار الأسطوري لهم لنيل الحرية وبناء دولتهم القادرة على حمايتهم وصيانة حقوقهم وكرامتهم.

لويس الرابع عشر هو من قال: أنا الدولة والدولة أنا..

تابعوني على تويتر والفيسبوك:
http://www.facebook.com/khalaf.a
http://twitter.com/alkhalaf 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات