عندما تتراجع الكنسية.. ..ويتقدم الدين!
بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
ذات يوم تساءل الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين بلهجة مستنكرة: "كم فرقة عسكرية يملك البابا؟" في إشارة إلى بابا الفاتيكان، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عرف العالم أن بابا الفاتيكان السابق يوحنا بولس الثاني ساهم بدور كبير في هدم الاتحاد السوفيتي بقوة التأثير الروحي الذي أثبتت التجربة أنه قادر على هزيمة الجيش الأحمر بسمعته الأسطورية.
وقد كان هذا البابا من أكثر الباباوات ممارسة للعمل السياسي والاجتماعي في التاريخ الحديث وأكثرهم حضوراً في عالم ما بعد الثورة الفرنسية التي غيرت وجه أوروبا باتجاه انحسار نفوذ الكنيسة. وخلال بابويته زار يوحنا بولس الثاني أكثر من 120 بلدا، وهو ما جعل البعض يعتبره من أهم شخصيات القرن العشرين على الإطلاق.
وبين هذه الزيارات الكثيرة تعد زيارته للاتحاد السوفيتي الأهم والأكثر شهرة، ففي 2 يونيو 1979 وبعد 8 أشهر فقط من انتخابه واعتلائه الكرسي البابوي دشن بزيارته جهودا متواصلة قام بها الفاتيكان لتقويض الاتحاد السوفيتي. وكان مـما قاله في الجموع المحتشدة هناك: "المسيح يحارب الشيوعية"!.
وفيما رفع مستقبلوه شعار: "نريد الله في مدارسنا". لكن المفارقة أن من تحالفوا مع البابا السابق وأسعدهم الدور الذي قامت به المسيحية في الحرب الباردة هم أنفسهم من يدخلون اليوم مواجهة ملفتة مع الكنيسة بعد أن بدا الدين يطرق بقوة أبواب العواصم التي كانت تاريخيا مسقط رأس مبدأ فصل الدين عن الحياة العامة عموما.
والمشهد المعكوس بدأ عندما أرسلت أم إيطالية من أصل فنلندي أطفالها لمدرسة إيطالية رسمية لتكتشف انتشار الصلبان في فصولها فشنت حملة لإزالتها لتناقضها مع ما تعتبره "حق أطفالها في حرية الاعتقاد". المواطنة في نهاية الشوط حصلت على حكم قضائي من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بستراسبورغ يقضي بضرورة إزالة الصلبان المعلقة بالمدارس الإيطالية مع تعويض الشاكية، ونص الحكم على أن الصليب رمز ديني مسيحي يتعارض مع حرية العقيدة.
رد فعل الفاتيكان كما هو متوقع كان إدانة الحكم ووصفه بأنه: "غير مسؤول، ومخزٍ ومقلق!". وسارعت وزيرة التعليم الإيطالية إلى إعلان سخطها على الحكم، "لأن الصليب رمز يعتبر جزءا أصيلا من وجدان المواطن الإيطالي وهويته وثقافته وتاريخه". أما رئيس سيلفيو برلسكوني فأكد أن القرار غير ملزم مضيفا أن "المسيحية هي تاريخنا....وهناك 8 بلدان أوروبية تحمل رايتها الصليب"!!
وبالعودة إلى الناس كانت النتائج مدهشة، فمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية لا يتعارض حكمها مع قناعات الفاتيكان والحكومة الإيطالية وحسب بل أيضا تتعارض مع قناعات الناس، فقد أفاد استطلاع رأي أجراه معهد "إيسبو" بإيطاليا أن 84% من الإيطاليين يؤيدون تعليق الصليب في المدارس والطريف أن 68% من الأشخاص الذين لا يحضرون أبداً القداس في الكنائس أيدوا وجود الصليب في المدارس.
والمثير أن الحكم أطلق موجة من النقاشات في عدة دول أوروبية في مقدمتها النمسا، كما ترافق مع تصاعد الاهتمام بعلاقة الدين بالحياة العامة، ففي ألمانيا مؤشرات تنطوي على مفارقة كبيرة، حيث تشهد ألمانيا تراجع دور الكنسية مترافقا مع تصاعد مشهود لدور الدين (الإسلام والمسيحية معا). والشهادة هذه المرة تأتي من واحدة من أعرق المؤسسات الإعلامية الرسمية الألمانية، فالمسيحية – حسب تقرير لإذاعة صوت ألمانيا – لعب دورا كبيرا في تشكيل الهوية الثقافية لألمانيا. ولعبت الكنيسة دورا في تاريخ البلاد، إلا أن هذا الدور أخذ بالتراجع. وعلى عكس فرنسا، فإن تأثير المسيحية في ألمانيا لا يقتصر على الكنائس ودور العبادة فحسب، وإنما ترك بصماته أيضا على الحياة السياسية، حتى أن بعض الأحزاب السياسية بألمانيا كحزبي الائتلاف الحاكم: الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي يؤكدان انتمائهما للدين المسيحي على الأقل من خلال صفة "المسيحي" في اسميهما.
وتلعب الكنيسة دورا في صياغة الدروس الدينية في المدارس الألمانية، وفي الإرشاد الروحي للجنود الألمان في ثكناتهم العسكرية وتوجد مدارس وجامعات مرتبطة بهذه الكنيسة أو تلك. ورغم هذا الدور فإن تأثير الكنيسة بدأ في التراجع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. عندما كان 50 % من الألمان ينتمون للكنيسة الإنجيلية، بينما كان 45 % منهم كاثوليك.
وبعد حوالي نصف قرن وحسب دراسة للكنيسة البروتستانتية (2006) قال 25 % من اللادينيين بأنهم يصلون على الأقل أحيانا، بينما قال نحو 35 % من أتباع الكنيسة إنهم لا يصلون إطلاقا. وبينما كان يداوم نحو 52 % من الكاثوليك و13 % من البروتستانت خلال الخمسينات على الذهاب للكنيسة للصلاة، تراجع عددهم بشكل ملحوظ، بحيث يحرص فقط 23 % من الكاثوليك و8 % من البروتستانت على الذهاب بانتظام للقداس الكنسي. وأصبحت زيارة عديد من الألمان للكنائس تقتصر على عدد مناسبات كالتعميد والتثبيت والزواج والتأبين.
أن دور الدين في أوروبا في حالة إعادة تشكل ضخمة عابرة لحدود الدولة فانهيار الاتحاد السوفيتي دفع شرائح واسعة من شعوب شرق أوروبا للعودة إلى الدين، أما الكنيسة فتفقد بوتيرة ملحوظة أتباعها لحساب أنماط من الإيمان أقرب للتصوف كالبوذية والقابلاه اليهودية الذين ينتشران بقوة. ومن المؤكد أن الوجود الإسلامي في أوروبا ساهم بقوة في إعادة الدين إلى ساحة النقاش العام.
التعليقات (0)