عندما انقطع الماء عن حي أبوروف بأمدرمان
تشكل الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وكهرباء وماء ومواصلات وأمن ؛ وإن كانت في حدها الوسط والأدنى ... تشكل عصب الإستقرار وصمام الأمان للسلطة في كافة مجتمعات ومدن وبلدات وقرى العالم على االثالث والسودان في مقدمتها .....
مظهر الحاكم أو المسئول وكثافة لحيته . وحركات صلاته وقيامه وصيامه وتردده على المساجد وطول سجوده لربه أمام الكاميرات ؛ وإتساع دائرة وسواد لون زبيبة الصلاة الواضحة على جبهته ، وترديده لكل البسملات والحمدلة والحوقلة والتهليل والتكبير جهراً ؛ لا تهم أحد ولا تلوي عنق أحد بقدر ما تهمه هو شخصيا... وذلك مصداقا لقوله عز وجل [ قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]
والموظف الحكومي العام ، والسياسي المخضرم ، والحاكم الذكي بغض النظر عما إذا كان قد جاء عبر التعيين أو صناديق الإنتخابات أو فوق دبابة . يكون أكثر حظا في الإستقرار على كرسي السلطة الذهبي، والإحتفاظ بخاتم سليمان في أصبع يده ؛ إذا لم يهمل هذا الجانب الخدمي الحساس لدى المواطن العادي . أو يعتريه الشك بأنه ليس بهذه الأهمية الإستثنائية القصوى في كسب رضا المواطن ؛ وبالتالي صعوبة تحريض المعارضة السياسية للشارع العام ، وإيقاظ الأغلبية الصامتة للإنتفاض عليه إن كان حاكما ؛ أو التسبب في إقالته ككبش فداء إن كان أفندياً أو وزيراً.
مسايسة العباد بالحسنى . وحسن تدبير شئونهم ومصالحهم اليومية بالرفق واللين . والحرص على تلبية مطالبهم الخدمية اليومية الملحة ؛ كل هذا يمثل لدى المواطن العادي أولوية أكثر بكثير مما تمثلها تصفيح رأسه بالنظريات السياسية والقوالب الأيدلوجية.
وفي المجتمع السوداني حيث لا نشكو من التمزق الطائفي والتشدد الديني أو التفرقة العنصرية . يصبح من الصعب على أنظمتة السياسية أو العسكرية الحاكمة إلهائه بقضايا جانبية . ومن ثم فلا يفلح التقرب إليه سوى بتوفير الخدمات الملتصقة بممارسته لحياته اليومية النمطية.
قبل عدة أيام انقطع الماء في مواسير وصنابير حي أبوروف الأمدرماني العريق (الكائن على الضفة الغربية لنهر النيل !!) وما جاوره من أحياء ؛ واستمر الإنقطاع مدة أربعة ايام متواصلة . فخرج سكان الحي والأحياء المجاورة في تظاهرة سلمية غاضبة يحتجون على الحال وإهمال إصلاح الحال .....
كان الحشد كبيرا والغضب بتفاعل ويزداد . ومن المحال أن يعود الأهالي إلى بيوتهم دون حل أو بصيص أمل في الحل؛ أو أن يبطش بهم جند النظام ويفرق حشدهم بالقوة الغاشمة.
وصلت الأخبار للأجهزة الأمنية والإدارية الحاكمة فجاءت شاحنات شرطة مكافحة الشغب على عجل . لكن الذي لوحظ أنها وقفت غير بعيد تراقب الأمر عن كثب ....
تفاوتت ردود الأفعال وسط المتظاهرين ما بين لزوم البعض المسالم بطبعة للصمت المريب من جهة . وإزدياد حماس البعض من أصحاب الأجندة في ترديد المزيد من الهتافات السياسية غير المطلبية المشروعة بقصد الإلهاب والتحريض من جهة.
توقع الناس أن يحدث الصدام وتزهق بعض الأرواح ، ويتساقط الأطفال تحت الأرجل والأقدام ؛ وتهان النساء وتمتهن المحارم بالتدافع والتماسك والإحتكاك ؛ وتسيل دماء الجرحى من الأهالي . ...... فسارع بعض الشباب بإخراج وإشهار هواتف البلاك بيري وغيرها إستعداداً لتصوير المذبحة على الطبيعة وبثها بعد ثواني لأركان الدنيا الأربعة على اليوتيوب ومواقع الويب .
ولكن طالت فترة هدوء وإنتظار شرطة مكافحة الشغب غير بعيد دون أن يترجل عناصرها من الشاحنات . ودون أن يتقدم "الضابط" كي ينتهر الأهالي في حزم وعجرفة وإستعلاء المفتش البريطاني الإستعماري ليأمرهم بالتفرق فورا وفتح الطريق للحركة والعودة إلى بيوتهم وإغلاق أبوابها ؛ أو الذهاب إلى اشغالهم. وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور.
وحين طال الإنتظار والترقب . أدرك بعض ذوي الخبرة من الأهالي أن وراء الشرطة ما وراءها . وأن هناك مسئولا على أقل تقدير قادم في الطريق ....
وبالفعل إن هي إلا دقائق حتى وصل موكب سيارات حديثة فخمة ترجل منها المعتمد والمحافظ والوالي والوزير المختص ......
تراجع أصحاب الأجندة السياسية عن الصفوف الأمامية كأنما أصابتهم صدمة . واندفع أصحاب المطالب الخدمية من الأغلبية الصامتة لمواجهة المسئولين والحوار معهم .
بدأ أهل السلطة المفاوضات بهدوء مع من آنسوا في أنفسهم المقدرة على تمثيل الأهالي ... وساد المكان والجمهرة أدب الحوار المطلبي وشجاعة الإستماع للرأي الآخر.
تركزت كلمات المسئولين على تفهمهم لموقف الأهالي وسخطهم . وأن ما خرجوا لأجله من تظاهر وترديد هتافات يمثل أساليب مقبولة ومطالب مشروعة ستجد طريقها للحل السريع خلال يوم أو يومين على أكثر تقدير.
وبالفعل لم تمضي 24 ساعة على وعود المسئولين حتى عادت المياة إلى مواسيرها وصنابيرها وثلاجاتها وأزيارها وجرادلها.
يقول المثل الإنجليزي "No cry no feed" أو بما معناه أن الرضيع إذا لم يبكي لا ترضعه أمه ..... ويقول الناس في العاصمة الآن "أكان ما تكورِك زول بجيك مافي" ....[ والكوراك معناه رفع الإنسان صوته لأعلى درجة بسبب ظرف إستثنائي .... و بجيك بمعنى يأتي إليك]
جميل أن " تكورك " الجماهير مطالبة بحقوقها . والأجمل أن يأتي المسئول مسرعاً ليعاين المشكلة على الطبيعة حتى يجد لها الحل المناسب وسط أصحابها مباشرة دون وسيط وأوراق وسيركل مكتبي روتيني يستغرق وصوله شهورأ ثم ولايأتي بنتيجة ؛ كونه يتحاشى عكس الحقائق على طاولة المسئول الأعلى بشفافية.
عظيم أن تمد السلطات كافة حبل الصبر في علاقتها بمواطنيها . وأن يكون التعامل بين المواطن والمسئول على أسس حضارية . وأن نترك القناعات والأساليب القديمة التي كانت سائدة ، حين كانت كل تظاهرة تفسر من جانب السلطة على أنها دسيسة ومؤامرة لقلب نظام الحكم .... وجميل أن يعتاد المواطن على المطالبة بحقوقه المطلبية المشروعة على أساس من الموضوعية وتحاشي الخلط بينها وبين الأجندة السياسية. وذلك من باب أن لكل مقام مقال.
التعليقات (0)