عملاقان جاهلان !
بقلم حسن توفيق
جسر حديدي معلق. طوله لا يتجاوز ثلاثة أمتار - خطوات السائرين عليه لا بد أن تحدث ضجة عالية. كان الارتباك يسيطر عليّ حين أعبر هذا الجسر بسبب تلك الضجة التي يحدثها وقع حذائي علي الحديد. وكنت كذلك أشعر بالرهبة، فالجسر يفصل بين عالمين، عالم العاديين من الناس، وعالم الذين توغلوا في بحار المعرفة العميقة. أقيم هذا الجسر الحديدي المعلق منذ أكثر من أربعين سنة داخل مبني جريدة الأهرام القديم بالقاهرة. الواقفون علي الجسر كانوا يستطيعون أن يروا المطبعة التي لم أكن أعرف فيها غير العم سلامة الذي كان يأتي الي أحمد بهجت ببروفات مقالاته ليصححها. أما الجسر نفسه فكان يفضي الي مكتب الدكتور لويس عوض الذي أعد له باعتباره رئيساً للقسم الأدبي بالأهرام.
ذات ظهيرة، عاد أحمد بهجت من مكتب د. لويس عوض إلي مكتبه. نظر إلينا وهو يطلق ضحكة صاخبة، ثم قال: لقد حضرت مناقشة غريبة أقرب إلي الخناقة بين د. لويس عوض ود. عبدالرحمن بدوي. كل منهما اتهم الآخر بالجهل. السبب كان اختلاف كل منهما حول طريقة نطق اسم الكاتب والشاعر الألماني برتولت بريشت. د. لويس عوض يقول لـ د. عبدالرحمن بدوي أنت جاهل يا دكتور بدوي.. اسمه بريخت ود. عبدالرحمن بدوي يرد قائلاً: أنت جاهل يا دكتور عوض.. اسمه بريشت !.
قال لنا أحمد بهجت وهو يضرب كفاً بكف.. إذا كان هذان العملاقان جاهَليْن، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟!.. جسمي كان نحيفاً وقتها، ومع هذا فإني أحسست أني أتضاءل الي درجة التلاشي! شغلني التفكير في هذه المناقشة أو الخناقة حين خلوت لنفسي لأن كلاً من هذين المفكرين الكبيرين كان يحاول أن يتحري الدقة، حتي لو كانت في طريقة نطق اسم إنسان. والدقة هي التي تميز الجادين عن غيرهم ممن يعيشون الحياة دون أن يرهقوا أذهانهم بالتفكير.
الجدية في كل شيء تتطلب الدقة. هذا ما نفتقده الآن في معظم مجالات حياتنا. الكلمة الجادة والمسؤولة تتطلب منا أن نكون عارفين ومستوعبين، لكن ما يحدث الآن أن كثيرين منا تنفتح شهيتهم للكلام، بل إنهم قد يقدمون الفتاوي فيما لا يعرفون ولا يستوعبون. المهم أن تنطلق حناجرهم بطوفان الكلمات التي تغرق آذان من يستمعون إليهم. ولأن الدقة غائبة فإن كل إنسان منا يحاول أن يجتهد بطريقته دون أن يحاول التعرف علي اجتهادات غيره في نفس المجال. لهذا لا يمكن أن تكون هناك مصطلحات موحدة، وحتي لو توحدت المصطلحات فإن الجميع لا يتفقون حول مدلولاتها ومراميها. كل مثقف أو شبه مثقف يتصور الآن أنه المثقف الأوحد وأن سواه لا يفقهون. وهكذا الحال في كل مجال فلدينا من يتصور أنه الفنان الأوحد أو أنه الطبيب الأوحد أو المهندس الأوحد أو حتي الجزار أو البقال الأوحد !.
.. رحم الله زمان الدقة!.
التعليقات (0)