احتفل جنوب السودان هذا الأسبوع باستقلاله وحصول شعبه على الحرية التي منعتها عنهم الأنظمة الشمولية التي حكمت السودان في العقود الخمسة الماضية. بعيداً عن حرية الجنوبيين، التي نهنئهم عليها، فقد حاول الدكتاتور السوداني عمر البشير استغلال الحدث التاريخي لتحقيق بعض المكاسب التي كان منها رفع العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على نظامه، وإلغاء قرار ادعاء المحكمة الجنائية الدولية بتوقيفه مع عدد من مسئوليه. ولم يفت البشير بالطبع محاولة استغلال الحدث للتأكيد على المكسب الأهم الذي حققه انفصال الجنوب وهو تحديد هوية شمال السودان الإسلامية، وهي الهوية التي سيعكسها الدستور الذي يعكف الشماليون على وضعه هذ الأيام والذي يتوقع أن ينص على تطبيق الشريعة الإسلامية.
ربما تشير مطالب وتصريحات البشير إلى الأسباب الحقيقية وراء قبوله بانفصال الجنوب عن الشمال، بل، ومن دون مبالغة، دفعه القوى الجنوبية في اتجاه الانفصال. فالبشير، من ناحية، ظن أنه بموافقته وتسهيله عملية الانفصال سيحسّن من صورته السيئة المعروفة عنه دولياً، وسيساعد في رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على نظامه، وسيقدم الدليل على عدم تشدده وقبوله بمطالب شعبه وعدم تورطه في الجرائم التي ارتكبت ولا تزال ترتكب سواء في الجنوب أو في دارفور أو في كردوفان. والبشير، من ناحية أخرى، رأى أن انفصال الجنوب وحده كان السبيل الوحيد أمام شمال السودان الذي تقطنه أغلبية مسلمة لتطبيق الشريعة الإسلامية التي عارضها الجنوبيون بكل قوة.
محاولات البشير باهظة الثمن لتحقيق مكاسبه وأهدافه تعكس سذاجته السياسية منقطعة النظير. فهو ضحى بثلث مساحة السودان وبربع سكانه وبسبعين بالمائة من موارده الطبيعية لتطبيق الشريعة الإسلامية وللهروب من مصيره المشئوم الذي كتبه لنفسه بمساهمته وتشجيعه وتبنيه لجرائم الحرب وأعمال الإبادة الجماعية التي ارتكبت في الجنوب ودارفور. ولكن هيهات فالمجتمع الدولي الذي تبنى أمر محاكمة البشير جنائياً قبل ثلاث سنوات ليس على نفس المستوى من السذاجة، وهو لن يتوقف عن سعيه الحثيث لتقديم كل من شارك في أعمال الإبادة التي ارتكبت في السودان للعدالة.
يمتلك عمر البشير سجلاً في مجال حقوق الإنسان هو الأسوأ عن جدارة بين كل طغاة عالم اليوم والأمس القريب. ولعله من غير المبالغة القول بأنه منذ عصر النازية، وباستثناء حرب الكونغو التي اشتركت فيها ثماني دول أفريقية وراح ضحيتها نحو ستة ملايين قتيل، لم يفقد بلد من أبنائه مثلما فقد السودان. فقد راح ضحية الجرائم العنصرية التي قام به نظام عمر البشير ضد الجنوب ودارفور نحو مليوني ضحية في الجنوب ودارفور. تقول موسوعة ويكيبيديا أن مليوني ضحية من الجنوب قتلت منذ عام 1984 وأن ما بين مائتين إلى أربعمائة ألف ضحية من دارفور قتلت منذ عام 2003، وهو ما يضع نظام البشير الذي جاء للحكم في عام 1989 في صدارة قائمة الأنظمة السيئة في العقود الستة الماضية.
يفصل البشير عن من يليه في ترتيب القادة الأسوأ في مجال الحريات وحقوق الإنسان مسافات كبيرة. مقارنة بسيطة بين عدد ضحايا البشير وعدد ضحايا بعض من الطغاة ومجرمي الحرب الأخرين، الذين عرفهم العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والذين تجري محاكمتهم دولياً، تبين أن البشير هو الأسوأ على الإطلاق. وإذا كان البشير مسئولاً عن مقتل نحو مليوني جنوبي ودارفوري طوال العقدين الماضيين، فإن رئيس وزراء رواندا الأسبق جان كامباندا كان مسئولاً عن الحرب الأهلية الرواندية التي راح ضحيتها نحو خمسمائة ألف رواندي، وأن الدكتاتور الليبيري السابق تشارلز تايلور كان مسئولاً عن مقتل خمسين ألفاً في الحرب الأهلية التي اندلعت في سيراليون، وأن زعيم صرب البوسنة رادوفان كارادجيتش كان مسئولاً عن مقتل نحو ثمانية ألاف بوسني مسلم.
عمر البشير يقف اليوم على موعد مهم مع العدالة بعدما وجدت المحكمة الجنائية أدلة كافية على تورطه في جرائم الإبادة التي جرت في دارفور. وأرجو ألا تضيع العدالة في غمرة احتفالات المجتمع الدولي باستقلال جنوب السودان، وأرجو ألا ينخدع العالم في قيامه بتسهيل البشير استقلال الجنوب. لابد للعدالة أن تأخذ مجراها، ولا بد للمجتمع الدولي أن يتعامل بصرامة مع البشير الذي لا يزال يجوب أفريقيا وأسيا طائراً من غير أن تستوقفه العدالة. قد تكون هناك مخاوف دولية من ردة فعل غاضبة للمسلمين حول العالم إذا ما تم القبض على البشير، ولكن المجتمع الدولي لن يقبل بأن يكون العالم أسير مجاملة فئة على حساب العدالة. لقد حاكم المجتمع الدولي وما يزال يحاكم الكثيرين من مجرمي الحرب في العقدين الماضيين ولعل اخرهم راتكو ميلاديتش المتهم في جرائم بحق مسلمي البوسنة، والذي سلمته بلاده،صربيا، للمحكمة الدولية. ولعل الجميع يعي أنه لا يجب أن تكون هناك استثناءات أمام العدالة.
التعليقات (0)