علي هامش القصة (5) «المفارقة التصويرية»
فاتحة القول: عرف النقد العربي القديم والبلاغة العربية القديمة لوناً من التصوير البديعي القائم على فكرة التضاد، وقد عولج تحت اسم «الطباق» في صورته البسيطة، و«المُقابلة» في صورته المركبة، أما «المُفارقة التصويرية» فهي «طريقة في الأداء الفني مختلفة تماماً عن الطباق والمقابلة، سواء من ناحية بنائها الفني، أو من ناحية وظيفتها الإيحائية، وذلك لأن «المفارقة التصويرية» تقوم على إبراز التناقض بين طرفين كان من الفروض أن يكونا متفقين، و«التناقض في المُفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل»(1).
والأديب المعاصر يستغل هذه العملية في تصوير بعض المواقف والقضايا التي يبرز فيها هذا التناقض، ليلفت نظرنا إلى شيء يريد إبرازه، أو فكرة يُريد توضيحها.
ومن هذه القصص التي تعتمد على المفارقة التصويرية قصة «سوء تشخيص!» لأحمد جاسم الحسين ، ونصها:
«أشارت التحليلات الأولية إلى احتمال أن تكون الكتلة الموجودة في بطنه سرطانية
لما أجريت العملية كانت المفاجأة عالية،إذ وجدوا مجموعة من الخطابات والشعارات والصور المنشورة في جريدة رسمية »(2).
يدرك القاص جيداً أن القصة القصيرة جداً لا تستغني عن المفارقة، إذ هي عنده أساس من الأسس التي لا غنى عنها أبداً، وتعتمد على مبدأ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإن هذا الضحك يكون في كثير من الأحيان مؤلماً إلى حد البكاء، ويسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء، ولعل إيجاد المفارقة أن يكون أكثر جدوى في طرح الأسئلة الكبيرة حول العولمة والهوية وحقيقة الشرف، ونسبية المفاهيم، والقدرة الخارقة التي يتمتع بها المهزومون الذين يجعلون العهر شرفاً(3)
وفي واحدة من أكثر قصص زكريا تامر نجاحاً تقدم النهاية مفارقة تثير السخرية والألم في آن، يقول في قصة "الشهادة":"تباهت بهية أمام نساء حارتها بحفاظها على شرفها وشرف الحارة التي ولدت فيها، وحكت ما جرى لها أمس عندما كانت تتنزه في أحد البساتين القريبة، فالرجل المجهول الذي اغتصبها شهر سكيناً تذبح جملاً، وأمرها بأن تخلع كل ثيابها، ولكنها لم تخلع جواربها متحدية أمر الرجل وسكينه، فشهقت نساء الحارة معجبات بها، وانتشرن في البساتين عازمات على ألا يخلعن الجوارب"(4)وقد تعتمد المفارقة على إعطاء الجملة بعداً دلالياً بنائياً، يتجاوز الدلالة اللغوية المباشرة، على نحو ما نجد في قصة "آخر مشاجرة":"جاء رجل إلى جحا، وقال له متشكياً: "عندي زوجتان لا تكفّان عن التشاجر، واليوم أوشكت الواحدة أن تخنق الاخرى، فماذ ا أفعل؟"
قال جحا: " ولماذا تشاجرتا اليوم؟"
قال الرجل: "واحدة كانت تقول إن ما يفعله ملكنا يؤهله للشنق، والثانية تقول إنه يستحق السجن فقط، فهل لديك نصيحة تساعدني على وضع نهاية لمشاجراتهما؟"
قال جحا أنت لست محتاجاً إلى أية نصيحة، فحين ترجع إلى البيت لن تجدهما، ومشاجرتهما اليوم آخر مشاجرة".
وتزوج الرجل امرأة ثالثة(5)
والقصة القصيرة جدا مع اعتمادها على عناصر القص من شخصيات وأحداث وزمان ومكان وحبكة ونهاية نراها تمتاز بقدرتها على التكثيف الدلالي، وإثارة التأويلات المختلفة، وعنصر المفارقة فيها يُحكٍم استراتيجية النص التي يبغي الكاتب أن يُبرزها بوعي، وتستطيع فاعلية القراءة لاحقاً أن تُشارك الكاتب في تفعيل النص وإثراء دلالاته، اعتماداً على تقاطع المقروء مع مخزون الذاكرة، وما يُثيره من غنى دلالي، في ضوء النص / الزمان / المكان / القارئ .(6)
خاتمة القول : غدا إن شاء الله تعالي نواصل الكتابة علي هامش القصة
ولكن تبقي القصة :
في قصة د. هيام عبد الهادي صالح: من مجموعة وللجبل أغان أخرى، بعنوان .«بالألوان»: «حين أدرتُ تلفاز أحلامي جاء العرض باللونين الأبيض والأسود .. ظللتُ أتململ. فجأة اصطبغت الشاشة بلون واحد: الأسود فقط! .. كانت الأيدي تكبلني لمقعدي لأستمر حتى نهاية العرض الحزين»(7).
الهوامش
(1) د. علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ط2، مكتبة دار العلوم، القاهرة 1979م، ص137 ، 138.
(2) أحمد جاسم الحسين: سوء تشخيص، موقع «القصة العربية»، في 17/1/2003م.
(3) د.يوسف حطيني :القصة القصيرة جدا عند زكرريا تامر
(4) زكريا تامر:الحصرم، رياض الريس للكتاب والنشر، لندن، ط1، 2000.
(5) زكريا تامر:نداء نوح، رياض الريس للكتاب والنشر، لندن، ط1، 1994.
(6) د. حسين علي محمد : القصة القصيرة جدا قراءة في التشكيل والرؤية ، ورقة ألقيت بكلية اللغة العربية بالرياض، في 26/4/2003م،
(7) د. هيام عبد الهادي صالح: وللجبل أغان أخرى، ص95.
للتواصل مع الكاتب (213):sedeeks@yahoo.com
التعليقات (0)