مواضيع اليوم

على طريقة الحكواتي ... ( فنتازيا الجريمة والعقاب ) .

هشام الصباحى

2009-03-16 02:39:25

0

 

 

 

 

على طريقة الحكواتي

( فنتازيا الجريمة والعقاب )

 

 

فرمان بونجق :

 

في مثل هذه الأيام تَقْ ريباً ، أي في الثامن من آذار ، من العام 1965 ، كنتُ وأقراني من الأطفال نمضي سيراً على الأقدام ، من محطة تل علو للقطار ، إلى تل علو القرية ، التي كانت تحتضن المدرسة الابتدائية الوحيدة في المنطقة ، وكان أندادي ومن يصغرني ومن يكبرني يتقاطرون على تلك المدرسة اليتيمة ، من قرى : بيلونة ـ كرحو ـ خربة البير فوقاني وتحتاني ـ وقرى متناثرة أخرى ـ ومن المحطة أيضاً ، بالإضافة إلى أبناء تل علو نفسها . وكانت المدرسة مؤلفة من ثلاث غرف مخصصة للتدريس ، وغرفة للإدارة ، وغرفة مبنية على السطح ، كانت مسكناً للمدرسين . أما بيت الدرج فكان يستخدمه عمو السيّد مستخدم المدرسة ، لحفظ أدوات التنظيف ، وأدوات الفلاحة التي كنا نستخدمها في حرث الحديقة الملحقة بالمدرسة ، خلال حصتي مادة الزراعة عملي ، وكانتا حصتين يتيمتين في الأسبوع ، ملحقتان ببرنامج يوم الإثنين قسراً .

 وفي صبيحة ذاك اليوم الماطر ، وبعد أن اصطففنا لتحية العلم ، وبمناسبة "عيد الثورة " قادنا المدرس إبراهيم  الخطيب في جولة دائرية حول المدرسة ، وهو يهتف ، ويردد التلاميذ من خلفه ما لم أكن أفهمه آنذاك على وجه الدّقة ، لأنني كنت لا أزال في الصف الثالث الابتدائي ، ولم أكن قد تجاوزتُ التاسعة من عمري ، إلاّ أنّ أحدهم شرح لنا نحن الكورد فيما بعد ، على أنه كلام فحواه التهكم على البارزاني ، وعلى البيشمركه ، وكان التلاميذ يرددون ثلاثاً من بعده ، أما الكلمة الأكثر التصاقاً بذاكرتي فكانت : يسقط يسقط يسقط .

وما أن بردت ناره ، حتى قادنا إلى فصولنا الدراسية ، ومضى هو إلى غرفة الإدارة ، ولم يمض الكثير من الوقت ، حتى عاد الرجل حاملاً في يده عصا من النوع المرن ، والذي كنا نسميها خيزرانه ، وهي تتميز بأنها تتراقص أثناء ارتطامها بالجسد ، فتلسع ، وكنا نخشى لسعتها تلك ، لأنها كانت مؤلمة ، أو ربما كانت أجسادنا لا تزال غضّةً حينذاك . وما أن اجتاز الباب ، حتى وقفنا صارخين : صباح الخير يا أستاذنا المحبوب ، على نمط أنشودة . فأشار إلينا بالجلوس ، فجلسنا ، ولكنه أردف وهو يهز تلك الخيزرانة : مين فيكون كردي ؟. الكردي يوقف .

فوقفنا وكان عددنا يتجاوز نصف الصفّين ، أي الصف الثالث والرابع ، حيث كنا في غرفة واحدة . وطلب إلينا ـ كلاً على حِده ـ أن نشتم الكورد والبارزاني معاً ، وكنت آخر من أتاه الدور ، فلم أفعل . كرر قائلاً : سبْ ولا ، فلم أفعل ، فأجلسني عنوةً على كرسيٍّ وكان أيضاً من خشب الخيزران ، وأمر زميلنا عبود الخلف ، الذي كان يكبرنا سناً ، أن يمسك بكلتا قدمي ، وانهال عليهما ضرباً ، فاختلط عويلي وصراخي وبكائي من شدة الألم ، فتوقف لبرهةٍ من الوقت ، ثم سألني أن أشتم ، فما فعلت ، وكرر الضرب ، ولما وجد أن باطن قدميّ قد احمرتا ، فأخذ يضربني على قفاهما ، فزاد صراخي ، وصرتُ أستنجده وأتوسل إليه أن يضربني أسفل قدميّ ، ويبدو أنه وجد نقطة ضعفي ، فاستمر بالضرب على قفاهما حتى احمرّتا ، وتوقف مجدداً ، وسألني أن أشتم ، فلم أفعل . فعاود الكرّةَ ، تارةً على باطنهما ، وتارةً على قفاهما ، وتارات أخرى كانت ضربة ما تخطئني ، فتأتي على يدي عبود ، فيقفز عبود صارخاً : أخ .. ويترك قدميَّ منصرفاً عني ، فيكرر عليّ ذات السؤال ، وأكرر عليه ذات الرفض ، فيتقدم عبود ليمسك قدميّ من جديد وهو يكاد يُقتل رعباً ، وتتوالى الضربات ، ويتعالى صراخي وبكائي ، وفي آخر محاولة له في إثنائي عن عزيمتي ، وعندما لم يفلح ، تراجع قائلاً : قوم ولا .. لعمه في سَمَاك شو راسك يابس !.

مائة خبطة تلك التي تلقتها قدميّ ، عدا التي تلقتها يديّ عبود ، أنا لم أعددها ، ولكن زملائي كانوا يعدّون ، وعندما هممتُ بالنزول عن الكرسي ، سقطت أرضاً ، وزحفت إلى مقعدي ، وأنا في حالة صدمة ، لم أغادر مقعدي طيلة ذلك اليوم الدراسيّ ، ولدى مغادرتنا المدرسة كنت أتحامل على نفسي في المسير ، وكانت الطريق تمتد على مسافة أكثر من ثلاثة كيلومترات ، فسبقني زملائي ، وسبقني الخبر أيضاً .

كانت المحطة تحتضن مساكن العمال ، ومساكن عناصر مخفر الشرطة ، ومقهى ، ومطعم ، ومحل لحلويات المشبّك ، ومحلين للأقمشة ، وبعض المحلات التي توفر المواد الغذائية ، ومطحنة حبوب ، وبائع خضار ، كانت بمثابة مركز تجاري صغير ، يؤمّه سكان القرى المجاورة للتبضع وقضاء حاجياتهم ، ومن بينهم المدرسين الثلاثة ، الذين كانوا غالباً ما يقطعون المسافة الممتدة بين تل علو القرية والمحطة ، إما للتسلية والترويح عن النفس ، حيث المقهى ، أو لشراء ما يلزمهم من طعام . وكانوا غالباً ما يأتون في العصارى ، ويعودون مع المغارب .

كان والدي رحمه الله ، في نهاية العشرينات من عمره آنئذ ٍ، كان قوي الزند ، متين العضد ، يكاد يخطف المترين طولاً ، يتمرن على حمل الأثقال ، منذ أن كان فتيّاً ، عاشقاً للرياضة ، مبهوراً بجسمه ، يسير وقد تقدمَ صدرهُ خطواتهِ ، وكان حائزاً على وسام " بطل الشجاعة في الجيش السوري " ، لطرده المستعمر من البلاد ، حين كان جندياً يرابط على تخوم بحيرة طبريا ، وكنتُ أنا ابنه الوحيد ، زد على ذلك أنه ومجموعة من الأعمام الكورد ، كانوا كثيراً ما يتجاذبون أطراف الحديث في الليالي ، وبصوت منخفض ، إثر نشرة الأخبار ، التي كانت تصلهم بشكل متقطع ، من إذاعة صوت الكورد وكردستان ، لقد كان عاشقاً كزملائه للبارزاني الخالد وللبشمركه ، وكانت كل هذه الظروف ، محفزات للانقضاض على ذلك المدرس ، ومعاقبته على فعلته تلك .

في عصر ذات اليوم ، لم يركن إلى مجلسه ، كان يقطع الساحة الممتدة بين سكن العمال والخط الحديدي جيئةً وذهاباً ، وعيناه أبداً تتطلعان إلى الطريق القادمة من مدرسة تل علو .    

كانت والدتي تائهة بين الخوف والحنق ، خوفها على والدي ، وحنقها على المدرّس الذي أدمى قدميّ ، ولم تكن تركنُ إلى مجلس ، فكانت روحها معلقة بين الباب وبين النافذة المطلة على الساحة ، تجيء وتذهب ، وهي تضرب كفاً بكف ، تشتم المدرس حيناً ، وتسأل الله قائلةً : سترك يارب ، اللهم أسألك الستر ، بجاه الشيخ عبد القادر الكيلاني .

لم يمض الكثير من الوقت ، حتى لاحت لوالدي ملامح اثنين من المدرسين الثلاثة ، كان أحدهما ذلك المدرس ألبعثي إبراهيم الخطيب ، لم ينتظر حتى يقتربا من حرم المحطة ، فاندفع باتجاههما هائجاً ، فاندفعتُ أنا الآخر خارجاً ، وتبعني رهط من أطفال المحطة ، وساد الضجيج المكان ، وخرجت بعض النسوة ، ثم تبعهن بعض الرجال ، إلا أننا جميعاً تأخرنا على الضربة الأولى ، فما شاهدناه ، كان والدي باركاً على صدر إبراهيم ، يمسك بيسراه على خناقه ، وينهال بيمناه على وجهه ، فيما كان المدرس الآخر واقفاً في حيرةٍ من أمره وهو يطلب النجدة .

كان أول الواصلين من الرجال ، جارنا الأقرب رئيس المخفر ، ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً ، فنادى على الجمع المهرول : أن أسرعوا . ولدى وصولهم ، حاولوا أن ينتزعوا الرجل من تحت والدي فلم يفلحوا ، فانقسموا إلى قسمين ، قسم منهم تأبطوه من الخلف لرفعه ، وقسم تشبثوا بذراعه اليمنى ، كي يكفّ عن لكمه ، وعندما كانوا يسحبون والدي كان يسحب معه المدرس المتكور تحته ، فتفشل المحاولة ، فيصرخ فيهم جارنا : أن ثبتوا ذراعه اليمنى . فحاولوا تثبيتها إلى الخلف ، لتبقى لكْمته بعيدةً عن وجه الرجل ، ولكن والدي حين كان يسدد اللكمة إلى وجه الرجل كان يسحب معه الجمع الممسك بذراعه اليمنى ، فيصطدم بعضهم ببعض ، ويفقدون السيطرة على أنفسهم ، وعندما أخذ منهم التعب واليأس مبلغاً ، توقفوا جميعاً ، بينما استمر والدي بتسديد اللكمات ، ولم يتوقف عن ضربه إلاّ بعد أن استدعوا إبراهيم بيسي ، وكان والدي يتشوق على الدوام لمجالسته ، لأنه كان رزيناً راجح العقل من جهة ، وكانت أمه إبنة عم جدي من جهةٍ أخرى ، وما أن مسَّ الرجل كتف والدي ، حتى التفت إليه فوجده إبراهيم بيسي ، فتوقف عن ضرب المدرس ، ونهض عنه واقفاً .

إلاّ أنني عندما حدّقت في ملامح المدرس ، لم أستطع التعرف إليه ، فقد كان وجهه منتفخاً ، وأزرق اللون مائلاً إلى السواد ، ولم تكن عيناه لتبدوان أبداً ، وكان منكوش الشعر ، رقبته حمراء تسيل عليها الدماء ، وكانت ملا بسه قد تمزقت في جزئها السفلي ، وتنتَّـفت في جزئها العلوي ، فبادرت والدي متسائلاً : من هو هذا الرجل الذي كنت تضربه ؟. فتوقف لهنيهةٍ وهو ينظر إليّ في نزق ، فأدركت بأنّ علي الانصراف ، وبينما كنت منصرفاً عنهم ، كان الجمع يتقاطر مغادراً باتجاه مخفر الشرطة .

ولم تمض ساعة من الزمن ، حتى جاءنا عمو إسماعيل ، الذي كان يسوسُ الخيول الخاصة بالمخفر ، وهو يشير بسبابته ووسطاه ، ويحزُّ حافة كفه اليمنى على معصمه الأيسر ، في إشارة لذبح ديكين روميين ، من القطيع الذي كانت والدتي تربيه ، ولم يكتف بإيماءته تلك بل تابع ، رافعاً سبابته اليمنى ، مشيراً إلى جهة الشمال القريب مرةً ، وإلى الشمال البعيد مرةً أخرى ، كنايةً عن ديكين آخرين ، أحدهما لرئيس المخفر ، جارنا من جهة الشمال ، والثاني لبيته الذي كان يقع في أقصى جهة الشمال من المحطة ، ولما تأكد من وصول الرسالة ، ارتسمت على محياه ابتسامته المعهودة ، وعاد مهرولاً باتجاه المخفر .

بعد أن تناول الضيوف عشاءهم ، وأتمّوا طقوس المصالحة ، وانصرفوا كل على حاله ، تساءلت والدتي معاتبةً والدي على ما حدث ، وفي ظنها أن الأمور ما كان ينبغي لها أن تصل إلى ذلك الحد من العنف ، فالتفت إليها قائلاً بالكوردية :

min ne jiboî korêxwe lêxist , min jiboî seîdayê berzani lêxist , erêê derba

min lê hatibû , her roj nakevê derbêde …..




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !