مواضيع اليوم

على ذمّة الرّاوي ـ قصة قصيرة

يوسف رشيد

2010-08-08 12:11:04

0

كنتُ أعرفُ كلَّ شيءٍ ، لكنّي لم أقلْ أيَّ شيءٍ .. لم أجد المناسبة التي أضمنُ فيها تقبّلكَ لما أريدُ قوله .. كنتُ أضيقُ أحيانا من نفسي ، ومن ثقل ما يحملهُ رأسي المُتعَب ..
لكنَّ حبّي لكَ ، وإشفاقي عليكَ ، جعلاني أؤثرُ شيئا من العذاب في نفسي ، على أن أبوحَ لكَ بكلام ، أرى أنكَ لستَ مستعدًا لتقبُّله ، واستيعابه .. فبقيتُ صامتا طيلة الوقت الذي مضى من عمر العلاقة بينكما ..
ولم يكنْ صمتي ، صمتَ الغافل الذي لا يرى ما يجري حوله ، أو صمتَ الماكر الذي يفركُ يديْه فرحًا وشماتة ..
كنتُ أحزنُ حينا ، وتهزّني قشعريرة فرح حينا آخر ..
حيث إن المعركة التي قُدِّرَ لي مراقبتُها عن قربٍ ، لم يكنْ فيها سواكما ، وأنتما عندي في منزلةٍ أعز عليّ من أعز إنسان آخر في الوجود .. فآثرْتُ الصمتَ ، والتزمتُ به ، ورعيْتُ علاقتكما رعاية أبٍ لطفلهِ الوحيد ، يحاولُ أن يؤمّنَ له كلَّ أسبابِ السعادة والراحة .. يفرح ُ لفرحِه ، ويتألمُ لألمِه ..
كنتُ أحسُّ بكلّ خلجةٍ تختلجُ في صدريْكما .. كانتْ تبدو على الوجهيْن بأدلةٍ قاطعةٍ لا تقبلُ الشكَّ ولا التأويل ..
أحاولُ رأبَ الصدْع حيثما رأيته .. أجمعُ الشمْلَ .. أصلحُ ما أراه فاسدًا بينكما .. أشنُّ هجومًا على كل فردٍ منكما منفردًا عن الآخر .. ألومُه ، وأؤنبُه ، حتى يتسارعَ كلٌّ إلى الاعتذار ..
وظلَّ تصاعُدُ العلاقة بينكما ونموُّها ماثلا أمام عينيّ .. كذّبْتُ نفسي بادئ ذي بدء ، وقلتُ : إني أحَمِّلُ الأمورَ أكثرَ مما تحتملُ .. لعلهما لا يقصدان شيئا غيرَ توطيدِ عُرَى الصداقة ، والحفاظ على معانيها ..
أسمعُ همساتٍ من الأطراف ، فأسرعُ إلى تكذيبها وتفنيدها ..
ومن دافِع الحبِّ الذي أكنُّهُ لكما ، والصداقةِ التي تربطنا ، لم أحاولْ قط ، إثارة أمر أرى فيه إزعاجًا لكَ خاصة ، لأني ضعيفٌ أمام تهكمكَ في مثل هذه الأحوال ..
أما الآن ، فلقد قرّرْتُ أن لا أتركَ شيئا دونما النظر فيه ..

إنكَ أخطأتَ كثيرًا ..
آنذاك ، لم أجد الشجاعة الكافية لأقولَ لكَ : إنكَ مخطئ ..
لقد كنتَ في نظري إنسانا آخر .. أسوِّغ لكَ أخطاءَك ، وأصوغها مصبوغة بألفِ لون ولون .. وأقلبُها على كافة الوجوه ، حيث يرضيني أقلُّ الوجوه جمالا .. لا يهمّني في ذلك أيُّ شيء ، سوى أنْ تكون بعيدًا عن الخطأ ولو في نظري على الأقل ..
وهكذا بقيتُ معكَ طيلة أكثر من سنة ، هي عمرُ العلاقة بينكما ، إذا صحّت التسمية ، لأني مع ذلك ، أشكّ في أنها علاقة حقيقية ..
إنّ جزئياتٍ كثيرةً ، يتوهّمُ معظمُ الناس ، فيظنونها حقائقَ .. لكنها لا تلبثُ أن تتبدّى لهم وهْمًا وسَرابًا ، لا تختلفُ في شيءٍ عن الأوهام التي تسيطرُ على عقولهم ..
حتى إن ثقتي المطلقة بتصرّفاتك ، وبكَ شخصيا ، جعلتْني أكذّبُ فيكَ ما تراه عيناي ، إذا لم تقله لي أنتَ بلسانك ..
ومع كل هذا ، كان لا بد أن تصِلا إلى ما وصلتما إليه ..
ولعلي إذا أردتُ أن أحدّدَ المسؤولية ، لقلتُ بلا تردد : إنكَ أنتَ المسؤولُ عن كل ما جرى .. وعليكَ المضيُّ إلى الأمام ، وفي نفس الاتجاه والطريق ، لأنكَ قطعتَ شوطا طويلا ، ولم تحدّدْ له نقطة الوصول منذ البداية ..
أكرّر : إنكَ أنتَ المسؤول أولا وأخيرا ، لأنكَ لو أذبْتَ جسدَها ، وجعلتَه عجينة ليّنة ، وجعلتَ فيه قوّة التخلق بهيئةٍ له حرية اختيارها ، لوجدْتَه ، بعد لحظاتٍ ، قلبًا يحتوي الجسدَ ، لا جسدًا يحتوي القلب ..
وبعبارة موجزة :
إنها كتلة من العواطف والأحاسيس المرهَفة .. إنها قلبٌ كبيرٌ بصورة جسدٍ كامل ..
لقد كنتَ لها مزرعة خصبة ، انزرعَتْ فيكَ شجرةَ زيتون ، ونَمَتْ ، وأزهرَتْ ، وأثمَرَتْ .. فما بالك اليوم تتأفّفُ وتتضجّرُ سأمًا لغيرتِها من تصرفاتك ؟؟!!
إنكَ تجرحُها في الصميم ، تقتلعُها من جذورها التي رعيْتَها أنتَ بذاتك ، وتحرقها ، ثم تذروها رمادًا في عاصفة هوجاء ..
إنها لم تتوانَ في لحظةٍ من اللحظات ، عن التضحية بكل غالٍ ورخيص من أجلك .. إنها تحزنُ وتضحكُ من خلالك .. تعيشُ معكَ ، حاضرًا كنتَ أو غائبًا .. لسانها يلهَجُ بذِكركَ ، كلسان متصوف ..
أنسيتَ ؟!
إني لم أنسَ يوم قلتَ لي كذا وكذا وكذا ....
هل تذكرُ كيف كانت إجابتي آنذاك ؟؟ حسنا ، سأذكّرُك ،
قلتُ لك : إنها محسوبة علينا ، والأفضلُ أن تبقى علاقتنا كما هي .. إنكَ لسْتَ بحاجةٍ إليها الآن ، وها نحن سعداءُ وقانعون بهذه العلاقة ..
إني أعرفُ أنكَ لم تقتنعْ بكلامي ، وبقيتُ بيني وبين نفسي ، خائفا من المصير المرتقب ، لأنك عنيدٌ ، وعمليٌّ ، ولا يمكن أن تمرَّ فكرةٌ برأسكَ دون أن تسعى بدأبٍ لبلوغها ..
وثمة تصرفاتٌ كثيرة لك ، أكّدتْ لي هواجسي ، وجعلتْني متيقنا من نواياكَ تجاهها ..
إني أراها تتهَرَّبُ منكَ ، تهرُّبَ الراغبِ الخائفِ .. إنها بمقدار ما ترغب بتلبية ما يروق لك ، تتهرّبُ خوفا من الوقوع في هاويةٍ يصعبُ الخروجُ منها ، ولئلا تتلوثان بما يسيءُ إليكما ، الأمر الذي سيؤدي إلى إشكالات ، أنتما في غِنى عنها .. وهي ترى وراءَ الأكمة ما لا تريد الوقوع فيه ..
إني أقولُ نيابة عنها : إنها تفضّلُ أن تظلَّ قريبًا منها طيلة العمر ، على أن تقضيَ معكَ لحظاتِ هيام وشوق وغرام ، ثم ينتهي ذلك سريعًا ..
إنها لا تريدُ لذةً مؤقتة .. إنها وَلهَى بكَ ، مأسورةٌ لك .. ترغبُك دومًا وأبدًا .. إنكَ ملاكٌ في عينيْها ، حتى لقد جعلتكَ ملاكا في أعين الذين عرَفوكَ من خلالها .. وعَرَفَ القاصي والداني أنها واقعة في حبائلك ، وغارقة في لجَّتك .. فرحماك ..
لماذا بقيتَ أنتَ بعيدًا ؟؟ بقيْتَ في برج عنادِكَ الذي قلما تزحزحتَ عنه .. لا أعرفُ لجهلٍ ، أم لتجاهل ؟!
حقيقة .. كان أمرًا محيرًا ..
لكن الذي يزيدُ حيرتي قوةً ، أنكَ فجأة ، فتحْتَ لها بابَ قلبكَ على مصراعيْه ، فأخافَها الولوجُ خشية الضياع والانتهاء .. لكنّ إصرارَكَ وإلحاحَكَ عليها بالولوج ، جعلاها تنساقُ وراءَ عاطفتها التي طالما أرّقها بُعدُها عنكَ .
إنكَ لم تكنْ مقتنعًا بهذا الموقف .. لكن مجرَّدَ التفكير فيه ، ثم انفتاح السيرة ، دفعاكَ لتنفيذه دون أن تحسبَ حسابَ النتائج ، أو لخطأ في تقديرها ..
لكنها هي لم تكن لتصدِّقَ أنها بين ذراعيك ، فطارتْ على جناحيْ نسر خرافي وهمي ، ظنتْهُما بساط الريح ، تسيّرُهُ بأمرها إلى حيثُ تشاء ، ووقتما تشاء ، تصحبُ فارسَها ، مزهوّةً به ، سعيدةً إلى درجة الجنون ..
وكان لا بد أن ينالَ أحدُكما من الآخر .. فرويْتَ ظمأكَ المعهود .. وأطفأتَ قلبَها الملتاع ، فأصابكَ شيءٌ من الذي يصيبُ آكلَ العسل ..
وازدادتْ هي التصاقا وولوعًا ..
وهذا ما لم ولن أسوِّغَه لكَ ما حييتُ ..
لقد كفرْتَ بكل القيم ، حتى صارَ الغفران ُ مستحيلا .. هدّمْتَ بيديكَ كلَّ صَرْح ، وتركتَها بين الأنقاض ، دون أن تمدَّ لها يدَكَ لتساعدَها ، ولو بدافع الصداقة على الأقل ، إذا افترضنا عدم قدرتكَ على إنقاذها .. وهذا ما أشكُّ فيه ..

اعذرني على قلة أدبي معك ، لأول مرة في علاقتنا ، لكني ما زلتُ أحترمُكَ كلَّ الاحترام ، وأقدِّرُكَ كلَّ التقدير .. إلا أنّ الحقيقة تستدعي مني توضيحَ دقائق الأمور حسبما كنتُ أرى وأسمع ..
صدّقني : ما عرفتُكَ جبّارًا إلا لأيام قليلةٍ مضَتْ ..
لكنّ الجوادَ الذي حَمَلك وتحَمّلكَ فترةً طويلة ، آنَ وقتُ كبوته ، فكبا ..
كنتُ أتمنى أن لا أراكَ في هذه الحال ، في نفس الوقت الذي لم أكنْ فيه راضيًا عن دموعِها ، المنهمرةِ بسخاءِ دِيَم الشتاء ..
لقد عزَّ عليَّ ما أنتما فيه من ألم ، وحيرةٍ ، وضيق .. فلم يكنْ لي بدّ من مواساتِها ، لأنكَ أنتَ المجرمُ بحقها .. ومع ذلك ، لم أحاولْ تعميق الشرخ بينكما ، وجاهدْتُ أنْ أخففَ وقْعَ المصيبة عليها ، وأصوِّرَ الأمرَ بأنه طبيعي وعادي .. لكنه في حقيقته أكبرُ من جريمةٍ بحق إنسانةٍ تعَبّدَتْ في محرابكَ ..
اعذرْني ثانية .. فلقد صار جُبْنًا صمتي عمّا أرى ، وخيانة بحق الصداقة التي نستظلُّ بظلها ..

لا أدري إذا كان في صدركَ شيءٌ تريدُ البوحَ به .. ها إني منتظرٌ كلامك ..
.......................................................................

حسنا .. سأكملُ إذن ما دمتَ لا تريدُ الكلام ..
إني لا أعيبُ ، الآنَ ، عليكَ صمتَكَ .. بل لعله يساعدني ، ويشجّعني .. والعتمة تخفي عن عينيّ ما يعتلي وجهَكَ من قسماتٍ وغضبٍ .. لذا ، لن أجدَ وقتا أفضلَ من الآن ، لأنفثَ كلَّ ما تراكمَ في صدري وعقلي وقلبي ..
صحيحٌ أنكَ كالشاطئ الذي تنتهي على رماله وصخوره أعتى الأمواج .. لكني موجة تمتطي قاربًا فولاذيًا ، فاستعصى على رمالكَ وصخوركَ ..
هبْني ما شئتَ .. إني صديقكَ فُرضْتُ عليْكَ ، وفُرضتَ عليَّ .. وأصْدَرَ القدرُ حكمَهُ القطعيّ علينا بذلك .. فسواءٌ تكلمْتَ أم لم تتكلمْ .. الأمرُ سيّان عندي .. حتى إنه لا يهمُّني رأيُكَ في كل الكلام السابق ، لأني واثقٌ من صحة كل ما قلتُ ، وواثقٌ أنكَ أولُ منْ يُؤيدُني فيه ..
فهلاّ رغبْتَ في الكلام ؟؟ أم ما زلتَ راغبًا عنه ؟؟
قلْ أيَّ شيءٍ .. قلْ لي إنكَ مخطئٌ ، إنكَ مجنونٌ ، العنّي ، اشتمني ، اضربني .. افعل بي ما شئتَ .. أسْمِعْني صوتَكَ ، رأيَكَ ، قل .. تكلمْ .. لا تتركني في لجّة الحيرة ..

لكني ـ وحقِّ السماء ـ لسْتُ مخطئًا .. إنما مكابرتكَ أولا وآخرًا هي التي قادتْك في ذاك الطريق ، وهي التي تمنعكَ عن الكلام الآن ..
كنْ جريئًا كما عهدتُكَ .. أهي الحقيقة المُرّة تكمُّ الأفواهَ ، وتقطعُ الألسنَ ؟؟!!
إني لأخشى أن تثورَ ثائرتكَ عليَّ لوقاحةِ ما أقولُ ..
إني أعرفُ ذلك .. لكنْ .. أقسمُ لكَ ، إنها ليستْ بإرادتي .. ولستُ أقصدُ إغاظتك ، إنما طبيعة الصدق وضرورتها في علاقتنا ، تستوجبُ كلَّ هذه القسوة .
ثم ، مُرْني لأصمت ، إن لم تكن راغبًا في سماعي ..

لله ما أفظعَك !!.. الخنجرُ في صدرها ينزُّ دمًا ، وتأتي صارخا بأعلى صوتكَ ، محتجًّا على معاملتها لك .. وتلومنا على مجاراتها !!
هل كنتَ ترضى أن نتركها تنصرفُ وحيدة ، وهي في هذه الحال ؟؟
أم نأتي بها إليكَ ، وأنتَ بين جليساتكَ ، ليسخرْنَ من دموعها ؟؟!!
أم نترككَ ، ونمشي معها ، لنخففَ عنها ألمَ طعناتك ؟؟
تُرى ؟؟ هل كنتَ أنتَ مقتنعًا بذلك ؟؟ أم جأرْتَ علينا بصوتكَ استباقا للحوادث ، على مبدأ " ضربَني وبكى ، وسبقني واشتكى " ..
كنتُ آملُ أنْ تضعَ نفسَكَ مكانها أولا ، ثم مكاننا ثانيا .. بعدها ، قل ما شئت ، وافعل ما شئت ..
ثم إن معلوماتي تؤكد أنكَ ما تزالُ تعيشُ قصة غرام ، جذورُها في أعمق أعماقك .. فكم من الأسى والمرارة كنتَ ستتجرَّعُ ، فيما لو جافتْكَ حبيبتُكَ مقدارَ طرفةِ عين ؟؟..
منذ متى سيطرَتْ عليكَ كلُّ هذه الأنانية المقيتة ؟؟!!
أليس الحبُّ تضحية ؟؟!! فمن هم الضحايا ؟؟
......................................................................................................................................................
مازال صمتُكَ يشجّعني .. ليتني فاتحْتُك من زمن ،، هل كنت ستلزمَ صمتَ أبي الهول هذا ؟؟ أم إنك فقدْتَ كلَّ أسلحتكَ الدفاعية ، أمام شموس من الحقائق تبهرُ العيون ؟؟!!
ليس بأكثر من خمس كلمات ، وينتهي كل شيءٍ على ما يُرام .. انفضْ من رأسِكَ العنادَ والمكابرة ، وكنْ فوق الأنانيات .. ولستَ بحاجةٍ إلى مثلي ليعرضَ عليكَ حلولا استقاها منكَ خلالَ مِحَنِهِ ..
لكنه في رأيي ، إذا كان الحظ السيئُ حليفَ السبّاح الماهر ، فلا بد له من يدٍ تنقذه إلى برِّ الأمان ..
أعِدْ صياغة العلاقة بينكما ، واجعلها في إطار محدّدٍ ، له أبعادٌ ومقاساتٌ ثابتة .. واشرحْ لها ما يجولُ في رأسكَ ، وما يعتملُ في صدركَ ، بصراحة ووضوح .. عندها ، يتبيَنُ الخيط الأبيضُ من الخيط الأسودِ .. وهذا هو طريقك للخلاص والنجاة ..


الجمعة ـ 17/12/1976




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !