مواضيع اليوم

على البلاج

وردة الصحراء

2011-06-04 15:50:05

0

على البلاج
قصة قصيرة مجهولة
اشترك في كتابتها ثلاثة أدباء
صالح جودت نجيب محفوظ
عبد الحميد جودة السحار
بدأ القصة الأستاذ صالح جودت :
كان البحر في ثورة على الجمال ... الراية السوداء منصوبة تنذر بعدم الاقتراب من الماء ، ولهذا اكتفت صاحباتنا الثلاث بالاستلقاء على الرمل المتوهج تحت أشعة الشمس التي ينساب سحرها في بشرتهن ، فيكسوها طبقة رقيقة من النبيذ الأسمر المشرب بالحمرة .
ثلاث فتن ، لا يشك من يراهن في رقدتهن هذه ، أن الخطر كل الخطر الذي رفعت من أجله الراية السوداء ، ليس كامنا في الموج ، بل على الرمل ، وأن مغامرة الاقتراب من البحر قد تفقد الرجل حياته على الأكثر ، ولكن مغامرة الاقتراب منهن تفقده دنياه وآخرته معا .

وفيم تفكر هذه الفتن الثلاث ؟ فيم يدور حديثهن الهامس الذي يمتزج بابتساماتهن الحلوة ، ونظراتهن إلى أفق بعيد ؟ لعلهن يتحدثن عن الحب ، ولعل لكل واحدة منهن حبيبا ، ولعل حكاية كل منهن مع حبيبها تصلح لتأليف مادة كاملة لقصة شائقة .
ثلاث قصص راقدة أمامي على الرمل ، وأنا مطل عليها من شرفة كازينو جليم ، ومع هذا لا أجد مادة لقصة واحدة ، قصة تلزمني بها المجلة، ويستعجلها رئيس التحرير للعدد القادم .
وفي غمرة هذه الحيرة تفاجئني ضربة على كتفي من الخلف ، تسقط القلم من يدي ، وأتلفت إلى الوراء فأرى صديقي أنور يضحك من نظراتي إليهن ملء شدقيه ، ويقول :
- إني أرقبك منذ نصف ساعة ...
ثم يرتسم الجد على وجهه ويقول :
- ولكن .. خير لك ككاتب – لا كمفتون – أن تنظر إلى الناحية الأخرى من الشاطيء ..
- ماذا هناك ؟
- هناك .. إلى هذه المظلة المخططة بالأحمر .. ألا ترى نظراتهن مترامية إلى هناك لا تتحول ؟
وسكت لحظة ثم استطرد يقول :
- هل تصدق أن هؤلاء الثلاث مشغولات برجل واحد ..

ثم تبعه الأستاذ نجيب محفوظ :
وكان صاحبنا السعيد ، رجل المظلة الحمراء مشغولا كذلك، ولكن بالفتن الثلاث معا ، فوجد نفسه في حيرة ، وعز عليه أن يستمتع بسعادته السخية في صفاء وسلام ، وقد تواصلت رؤيته لهن على الساحل يوما بعد يوم ، فتردد بصره بينهن طويلا ثم تنقل فؤاده بينهن دون أن يستقر على حال . تخلب لبه حينا السمراء الرشيقة التي تهوى بكل روحها الرياضة والسباحة، فيوحي جسدها اللدن المرن بالانطلاق والحيوية ، ثم تجذبه ذات القد الرشيق والعينين الحالمتين التي تقسم وقتها بين السباحة والاستسلام للكرسي المتمدد فتسبح في تأملاتها أو تقرأ في كتاب ، وبين هذه وتلك تسترعي نظره ذات جسم ناضج ، لم يرهله القعود ولا جففه الإغراق في الرياضة، وسط في كل شيء ، تذكر جلستها الطويلة على الساحل بين أطفال الأسرة بالبيت والأمومة .
طالما ساءل نفسه أيها أحب إلى قلبه دون أن يظفر بجواب حاسم ،وكم تمنى لو يجمع الله الثلاث في واحدة ، فيزين رشاقة الأولى بعقل الثانية ويكملها بقلب الثالثة ، وكم أنفق الساعات وهو يبادلهن نظرا شغوفا ناطقا، وخياله دائب على الإنشاء والاختيار ، والوصل والفصل ، والخلط والمزج ، قانعا إلى حين بلذة الأحلام ، وزاد من حيرته أنهن كن يستجبن لنظراته استجابات متعادلة في حرارتها ودلالاتها ، فلم تستأثر إحداهن باهتمامه بعطف قصرت دونه الحلوتان الأخريان ، أو لتمنع يستثير النشاط والحماس ، ولما ضاق بحيرته ، وضاقت به حيرته صمم على الخروج منها مهما كلفه الأمر ، ما باله لا يسعى للتعرف بهن ؟ أليس من الممكن أن يتمخض الاختلاط عن رأي جديد يكون فيه الخلاص من حيرته ؟
وقال لنفسه : سأتعرف بهن ، وإذا لم يخرجني التعارف من حيرتي كاشفتهن بنجوى قلبي واعترفت بحبي لهن جميعا ، وحيرتي فيهن ، وسألتهن أن ينتشلنني من بلواي ، ولأنظر ماذا يكون بعد ذلك ، ومهما يكن من أمري وأمرهن فهي تجربة بارعة في لطافتها ، وفيما يحتمل أن تتكشف عنه من مختلف الحلول .
ثم اختتم القصة الأستاذ عبد الحميد جودة السحار :
ونهض وقد عزم على أن يسعى للتعرف بهن ، وسار إلى حيث كانت الفتن الثلاث، وما إن دنا منهن حتى اعتدلن في جلستهن ، وتطلعن إليه خافقات القلوب ، ورفت على شفاههن ابتسامات عذبة ، وانبعث من عيونهن سحر، كانت كل منهن تحاول أن تبدي فتنتها لتسلبه لبه وتسبي فؤاده .
وأحس وقع نظراتهن الساحرة في قلبه ، فخفف من خطوه ، وعادت إليه حيرته ، فما كان يدري إلى أيهن يتودد ، وأطرق يفكر في وسيلة تيسر له التعرف بهن ، ومكاشفتهن بنجوى قلبه ، واعترافه لهن بحبه ، وحيرته فيهن ، وفيما هو في تفكيره صك أذنيه صوت نسائي يصرخ ، فالتفت فرأى فتاة في اليم ، تتلقى صفعات البحر الثائر الذي استخفت به ، واقتحمته دون أن تأبه لغضبه أو تحترم ثورته .
وألفى نفسه يندفع إلى البحر كالسهم ،ويلقي بنفسه في الماء ، وراح يشق عبابه ، ويصارع أمواجه ، حتى إذا بلغ الفتاة التي أنهكها الجهد ضمها إليه ، وراح يسبح عائدا إلى الشاطيء ، وخرجا من الماء ، وهو يلف ذراعه حولها ، وهي تستند إلى صدره تحتمي خشية أن تنوء من الإعياء ، وانطلقا إلى المظلة المخططة بالأحمر ، واستسلمت للكرسي المتمدد ، وأخذت تلتقط أنفاسها في جهد ، فيرتج صدرها الناهد الفتان .
ووقف يرنو إليها في دهش وإعجاب ، كانت تجمع ما كان يشتهيه في الفتن الثلاث ، كانت سمراء رشيقة ، يوحي جسمها اللدن المرن بالحرية والحيوية والانطلاق ، وكانت عيناها حالمتين ، ويستشف من قسماتها الرقة والحنان .
ورفعت صدرها الرائع ومدت يدها في دلال ، تسوي شعرها السبط المتهدل . ثم راحت تتحدث إليه في صوت حلو أخاذ ، وهو يصغي إليها منشرح الصدر ، متفتح القلب ‘ فقد قابل من كانت تتراءى له في أحلامه على غير ميعاد .
ونهضا وفي عيونهما حب ، وفي صدريهما نشوة ، وعلى شفاههما يرف الأمل البسام ، وسارا ومرا على الفتيات الثلاث فلم يحس بمن كن يملأن أقطار نفسه منذ لحظات ، كان مشغولا عنهن بحوريته التي خرجت له من الماء .
ونظرت إليهما الفتيات فأخذت عقارب الغيرة تنهش صدورهن ، فغامت الوجوه الحلوة بسحائب من الحزن ، وبان فيها الأسى العميق ، ورفعت إحداهن بصرها إلى الراية السوداء ، فازداد ضيقها فلولاها لما قابل من كانت ترتجيه تلك الفتاة !
ولم يطقن البقاء بعد أن سخر القدر بهن ، فقمن وسرن خافضات الرؤوس ، يجرجرن أرجلهن فقد تملكهن اليأس ، بعد أن تكسرت آمالهن على الرمال .
والتفت إلى صديقي أنور فألفيته فاغرا فاه ، أذهله ما جرى في لحظات قصار ، فلم يسعفه لسانه ليعلق على ما رآه ، والتفت ثانية إلى الفتيات المنسحبات من الميدان ، فحز في نفسي أن ينهزم السحر والرقة والفتنة والجمال .

;;;;;;;
نشرت هذه القصة المجهولة منذ ستين سنة أي في يوم 5 أغسطس سنة 1950 - حسن توفيق

 

,,,,,,,,,,,,,

 

 

 

 


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !