علم النفس في التراث الإسلامي
شريف هزاع شريف
كان للنهضة الفكرية الإسلامية أثر ملحوظ في تطور العلوم الإنسانية والتطبيقية للأمم المجاورة التي نقل إليها هذا التراث والذي لازال صداه في العلوم المعاصرة التي بدأ الغرب باجترارها وتطويرها وفق منطلقاتهم الفكرية والثقافية والإجتماعية في حين انحصر التراث العربي الإسلامي في موطنه بين القراءات النقدية التحليلية لأشراقية الماضي وانضواء معظم دارسيه تحت جاهزية المعطيات العلمية والفكرية بالرغم مافي التراث من زوايا علمية تفرد بها دون تراث الأمم الأخرى لاسيما مايملكه من تنوع وخصوبة منهجية ونقدية لازال نبضه سارياً في العلوم المعاصرة وكان من بين هذه العلوم التي كان للمفكرين العرب دور في إبداعها وتدوينها بشكل مميز لايخلو من الجدلية والمعاصرة الملائمة لروحية العصور المختلفة وهو (علم النفس) الذي أدرج ضمن الدراسات الفلسفية والحكمة والطب حيث لم يكتسب استقلاله العلمي التخصصي بل ظهر كجزء مكمل للأبحاث الكلامية والطبية الموسعة التي قام بها الفلاسفة العرب والذي يعود الفضل لهم في نقد وتحليل الفلسفة اليونانية بشكليها الأرسطوي والأفلاطوني ، فكان للنفس أثر في فكر أفلاطون وأرسطو ولم تهمل بعدهم كونها لم تنفصل عن المنظومة الفلسفية " فهذا العلم وجد كفرع من فروع الفلسفة وكان أرسطو أول من سعى لفهم طرق تفكير الناس واعتقادهم بصورة منظمة "(1) كذلك بوب العلماء المسلمون النفس ضمن مصنفاتهم الفلسفية الشاملة بعد أن ملئت شروحاً وانتقاداً على ماهي عليه في اليونانية ثم أفرد بعضهم لها فصولاً في المؤلفات الطبية كأبو بكر الرازي (251 هـ_ 313 هـ) وأبن سينا (370 هـ_ 428 هـ) وعليه أصبح للنفس منحاً نظرياً في المؤلفات الفلسفية ، في حين أخذت طابعاً آخر في المؤلفات الطبية التي لاتهمل الإرتكازات النظرية التي دونها الفلاسفة وأصبحت النفس مبحث علم الأخلاق فأبو بكر الرازي الطبيب الفيلسوف كان يؤمن " بمعالجة النفوس كما تعالج الأجسام لما لها من تأثير في صحة ومرض الأجسام ويرى أن يكون طبيب الجسم في الوقت نفسه عالماً بطب النفوس "(2) وهذا ماسار عليه الأطباء من بعد ، فعلم النفس درس كعلم جزئي من الطب كما هو في الفلسفة إلا أنه أكتسب صفة إكلينيكية (سريريه) في الطب ، وبينوا فيه مفاسد النفوس وإصلاحها وعلاجها مبينين العوامل المؤثرة في تدهور الصحة النفسية كالتربية ، البيئة ، المجتمع ، الشخصية (الطباع) …الخ ، وكان العامل الأخير مزيجاً من الجالينوسية والأبقراطية التي أبدع العرب في تأطيرها ضمن علم الفراسة (Physiognomic ) وكان للعرب تصنيف علمي للأمراض التربوية والإجتماعية ، بمعنى آخر فرقوا بين الأمراض الفردية والإجتماعية منتبهين إلى قنوات الإتصال بين صحة الفرد وصحة المجتمع " فالعلم الطبيعي يؤسس علم النفس ، وعلم النفس يؤسس علم الأخلاق ، وعلم الأخلاق يؤسس علم السياسة وعلم الأخلاق هو تدبير نفس الفرد وعلم السياسة فهي تدبير نفوس الجماعة "(3)
من الطب الجسماني إلى الطب النفسي
كان للأطباء العرب آراء حول علاقة النفس بالجسم وهذا التنوع جاء نتيجة الفهم المنفتح للمنطلقات النظرية التي درست ماهية النفس ، فالرأي الأفلاطوني يرى أن النفس " جوهر قائم بنفسه مستغنٍ عن الجسم وأن الجسم محتاج للنفس تمام الإحتياج في حين أنها صورة للجسم حادثة بحدوثه عند أرسطو "(4) فجاء الرأي الطبي التوفيقي ليقرر العلاقة بين الظواهر النفسية والجسمية ( Psycho Physical Interaction ) وأن بينهما تفاعل ورابطة ، ينقل لنا أبن سينا في أرجوزته الطبية تلك العلاقة النفسجسمية :_
وغضب النفـس يهيـج الحرا وتارة يورث جسماً ضـرا
وفرح النـفس يهيـج البـردا وربما أفرط حتـى أردى
وكثرة الأفراح إخصـاب للبدن ومنه مايؤذي بإفراط السمن
والحزن قد يقضي على المهزول وينفـع المحتـاج للنـحول (5)
وقد بين أبو بكر الرازي ذلك أيضاً وعقد علاقة بين الصحة النفسية والجسمية فكان العلاج النفسي يعتمد عندهما على صحة البدن " وهذه قصة معالجة أبن سينا لفتى من آل بويه تدهورت حالته إثر امتناعه عن الطعام والشراب فزادت حالته سوءً ووصل به الأمر إلى اعتقاد خاطئ وتوهم أنه بقرة وتصرف على أنه كذلك فكان يمشي على أربع ويخور خوراً ويصيح بمن حوله :_ اقتلوني واطبخوا لحمي ، فأمر ابن سينا أحد تلامذته أن يقف على مسمع المريض ويقول ها قد جاء الجزار ما أن يدخل ابن سينا وحين دخل أخرج سكيناً وقال :_ أين هذه البقرة لأذبحها ثم أمر بربط الفتى بالحبال وطرحه أرضاً ووضع السكين على رقبته وقال :_ ولكن هذه بقرة عجفاء لاتساوي مؤنة الذبح حتى تعلف وتسمن ! فأصبح الفتى بعدها يأكل ويشرب وبعد أيام اعتدل مزاجه وصحته البدنية ثم النفسية وذهب ماكان عنده من اعتقاد وتوهم وشفي من علته النفسية "(6) . وهذا مايؤكد علاقة الصحة النفسية بالجسمية وأن صحة الجسد متعلقة بصحة النفس والعكس أيضاً .
كان الطب النفسي والسريري عند الرازي وابن سينا الأرضية العلمية الصحيحة لعلم النفس ، وقتها أخذ العلم بإرساء قواعده متدرجاً من مفهوم الجوهر ، والعرض ، والصورة ، وتدرج النفس في سلم الموجودات وعلاقتها بالجسم وقسم وظائفياً إلى : _
1_ النفس النباتية 2_ النفس الحيوانية 3_ النفس الإنسانية وهي قوى أيضاً يسمونها :
1_ القوة الشهوانية 2_ القوة الغضبية 3_ القوة الناطقة .
والنفس كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة وهو قول فلاسفة الإسلام الأرسطويين واتفق الأكثرون على أن " النفوس الناطقة البشرية جواهر مجردة عن الجسمية وعن الحلول في الجسم ، إلا أنها متعلقة بهذه الأبدان على سبيل التدبير والتصرف "(7) وهذا مايراه الأفلاطونيون باعتبارها جواهر قائمة بذاتها مستغنية عن الجسم ، وأن للنفس قوى تحركها تصدر عنها جميع الأخلاق فـ" القوة التي بها يكون الفكر والتمييز والنظر في حقائق الأمور ( الناطقة ) والقوة التي بها الغضب والنجدة والإقدام على الأهوال والشوق والتسلط والترفع وضروب الكرامات( الغضبية ) وأخرى بها تكون الشهوة وطلب الغذاء والشوق إلى الملاذ ( الشهوانية ) "(8) . وكان لأبن سينا براعة في تصنيف النفس بأجزائها وقواها .
يأتي إصلاح النفس من إصلاح القوى النفسية المحركة للإفراط أو التفريط فبإصلاح القوة الناطقة تنبع الحكمة ومن إصلاح القوة الشهوانية تحصل العفة ومن إصلاح القوة الغضبية تحصل الشجاعة ولم يكتف العلماء العرب بالتقسيم النظري الوظائفي للنفس بل عينوا لها مراكز بدنية رئيسة تعمل فيها هذه النفوس مما أنضج مفهوم النفس وشمولية علم النفس العربي في مفاهيمه ومرتكزاته .
ومن هذه التوافقات النظرية والطبية والأخلاقية اعتبرت النفس وأفعالها وأمراضها على علاقة بالقوى الثلاثة والأمزجة البدنية وإن تأثير الحالة النفسية يظهر في الأخلاط ( الطباع ) البدنية بين إفراط وتقصير ويرون أن يجتهد الإنسان بالطب الجسماني والطب النفسي من أجل " تعديل هذه النفوس لئلا تقصر عما أريد بها ولئلا تجاوره ، والتقصير في فعل النفس النباتية أن لاتغذو ولا تنمى ولا تنشئ بالكمية والكيفية المحتاجة إليها جملة الجسد وإفراطها أن تتعدى ذلك وتجاوزه حتى يخصب الجسد فوق مايحتاج إليه ويغرق في اللذات والشهوات ، وتقصير فعل النفس الغضبية أن لايكون عندها من الحمية والأنفة والنجدة مايمكّنها أن تهزم وتقهر النفس الشهوانية في حال إشتهائها حتى تحول دونها ودون شهواتها وإفراطها أن يكثر فيها الكبر وحب الغلبة كالحالة التي كان عليها الإسكندر الملك ، وتقصير فعل النفس الناطقة أن لا يخطر ببالها إستغراب هذا العالم واستكباره والفكر فيه والتعجب منه والتطلع والتشوق إلى معرفة جميع ما فيه وخاصةً علم جسدها الذي فيه هيئته وعاقبته بعد موته "(9) والنفس الناطقة هنا هي مدار الحياة العقلانية الصحيحة ومنبعها الدماغ وهو ميزان الأمور ورأس النفوس والقوى الذي من خلاله وتدبيره تستقر الحياة النفسية الصحيحة .
يعتبر كتاب ( الطب الروحاني ) لأبو بكر الرازي والذي يسمى بكتاب ( طب النفوس ) أهم المصادر التراثية لعلم النفس حيث أفرده لدراسة النفس من منظور تخصصي إلى جنب الطب الجسماني الذي كان له فيه كتابي ( الحاوي والمنصوري ) ، يتكون الكتاب من عشرين فصلاً ورغم صغر حجمه فقد دون فيه الكثير من المعلومات النفسية فعرف فيه ماهيّة النفس والإنفعال ، الكآبة ، الجنس ، الإدمان ،العاده وحتى عقدة النقص (Inferiority Complex ) سابقاً المدرسة الأدلرية بقرون طويلة (10) كما أظهر فيه باقي العقد التي تحدث أثر خلل يصيب أحد القوى الثلاثة حيث أن كل قوة تندرج تحتها مجموعة من العقد كما يندرج فوقها مجموعة من الفضائل وتنشئ العقدة أثر خروج أحد هذه القوى على ميزان الإعتدال فحين تختل القوة الغضبية يظهر منها الحقد ، الكبر ، التهور ، الحسد ، الشماتة ، الجبن ، الخوف ...الخ .في حين تظهر عقد أخرى من القوة الشهوانية كالشكاسة ، البخل ، الحرص ، الفجور ، الفخر ، الشبق ويظهر من خلل القوة الناطقة عقد منها السفه ، البله ، الضلال ، الحمق ، الحيرة ، الجهل ...الخ .
من علم النفس إلى علم السياسة
يسعى الطب النفسي إلى إصلاح المملكة النفسية للفرد من خلال تأسيس علم الأخلاق ( نيقاماخوس ) الذي يظهر كنتيجة للدراسات النفسية لأن هدف علم النفس وعلم الأخلاق هو الإصلاح ، ولأن علم النفس مداره النفس / الفرد ، كان لعلم الأخلاق مدار آخر هو الفرد / المجتمع ، وتأتي عملية الإصلاح النفسي والإجتماعي من منطلق ثابت هو القرآن والسنّة النبوية وما لها من أثر وتنوع في علاج الحالات الخارجة عن طريق الإعتدال وإرساء القواعد الأساسية لحياة الفرد النفسية والصحية ولحياة المجتمع / الأمة في الدولة ، وكانت القاعدة الكلامية الشهيرة ( كل ما يوافق العقل يوافق الشرع وكل ما يخالف الشرع يخالف العقل ) أحد أهم القواعد التي عني بها الفلاسفة وعلماء الأخلاق في مؤلفاتهم ومن كل هذا التراكم والتنوع الذي تميزت به الحضارة الإسلامية الأساس الذي نشأ منه ( تدبير سياسة الملك ) وهو علم السياسة فعلم النفس العربي منظم عضوياً لايسعى إلى إصلاح الجزء دون الكل كما هو في المجتمع الغربي الذي يقوم بحل المشكلات الفردية الجزئية دون حل المشكلة المجتمعية لذلك كان الربط بين علم النفس والأخلاق والسياسة أمراً مؤكداً في المجتمع العربي الإسلامي حيث يسعى علم السياسة إلى إصلاح المملكة الإنسانية نفسياً واجتماعياً ومادياً على أساس العدالة ، وهذا ما جعل الحضارة الإسلامية ذائعة الصيت وطويلة الأمد في استقرارها . ولد علم السياسة كنتيجة منطقية لعلم النفس وعلم الأخلاق لأن مفهوم الإصلاح والخير ليس فردياً ضيقاً ولا ينغلق في الشخصية إنما يشمل المجتمع فكان الفارابي ( ت 339 هـ ) الفيلسوف الملقب بالمعلم الثاني أول من وضع علم السياسة في كتابه ( المدينة الفاضلة ) الذي تجاوز فيه النظرة الأفلاطونية الطبقية والإنحيازية وأخطاءه في الجمهورية ليرسم المدينة الإسلامية / الإنسانية ، الممكن تطبيقها في كل بقاع الأرض وفضلاً عن مدينته الفاضلة كتب السياسة المدنية وتحصيل السعادة ، والفصول المدني ، وكتاب الملّة وجميعها في الفلسفة السياسية وظهر من بعده من أكمل علم السياسة بإضافة مالم يضيفه الفارابي من جزئيات فظهر القاضي أبي الحسن الماوردي ( ت 450 هـ ) وابن أبي الربيع ( القرن السابع الهجري ) وابن الطقطقي وابن الأزرق وغيرهم من المؤلفين وكان كتاب ( سلوك المالك في تدبير الممالك ) لأبن أبي الربيع من أهم المؤلفات السياسية لما ضمنه من مواضيع وأفكار فلسفية ونفسية وأخلاقية لاتكتفي بالعرض بل برصد الإشكالات وحلولها مستفيداً من إرث الفلاسفة المتقدم فلم يخرج عن آراء من سبقه لكن اهتمامه انصب في وضع كل متعلقات الموضوع في قالب مترابط واحد مبتدأ من الجزء إلى الكل جاعلاً الخيوط في عقدة السياسة وكان الإصلاح الإجتماعي ظاهراً عند أبن أبي الربيع الذي لايتم عنده إلا من خلال إصلاح الأخلاق والتي لاتتم إلا بإصلاح الأفراد .
علم السياسة بمفهومه العربي الإسلامي هو تدبير السلوك الإجتماعي مثلما أن علم النفس هو تدبير السلوك الفردي ، وإصلاح التدبيرات هدفه استقرار حياة الأمة وينظر علم السياسة إلى تدهور النفس الفردية كنتيجة لتدهور الأخلاق والسياسة فكان ديدن الفلاسفة هو ربط العلوم الإنسانية بوحدة كلية ، وكان الدين الإسلامي الدستور الجامع لكل هذا لأنه ثابت لايتغير حتى جاء علم النفس وعلم السياسة بما يوافق الشرع ولا يخالف العقل ومثلما كان الفلاسفة الأطباء ينظرون للنفس كالجسد بأن يصيبها المرض والعلل وأن هناك طرقاً في علاجها نظروا إلى علم السياسة كجسد يعتريه المرض والفساد فأنشئوا علماً لمداواة العلل والأمراض السياسية فعينوا للرأس / الملك ، كيف يداوي أعضاء مملكته وتدبير العلاج لها وأدرجوا له مجموعة من الأمراض وطرق علاجها .
علم النفس تراث عربي إسلامي
بالرغم من الدراسات المكثفة التي قام بها المفكرون المسلمون حول النفس نجد أن علم النفس المعاصر " لازال موضع خلاف وجدل بين علماء النفس فمنهم من يرى أنه يدرس الظاهر المرئي من السلوك بينما يرى آخرون أنه يدرس الباطن الخفي "(11) والحقيقة أن الملاحظات العلمية التراثية كانت أدق من نظرة العلماء المعاصرين الذين عجزوا عن تحديد علم النفس لافتقارهم للأرث الحضاري ، ولأن علم النفس المعاصر لم يبلغ درجة النضوج كما كان عليه في الحضارة العربية الإسلامية فمفكرونا القدماء لم يفصلوا بين ما هو ظاهر وما هو باطن بل جاءت دراستهم شاملة للجوانب الخارجية والداخلية للنفس وأكدوا على تفاعل الداخلي / الباطني بالخارجي / الظاهري ، وانتبهوا للرواسب والأفكار الداخلية وما لها من آثار خارجية والعكس أيضاً فكانت لهم الريادة في الربط بين الظواهر النفسية ودوافعها الباطنية وهم أول من أشار لمشكلة ( العقد Complexes ) سابقين العلماء الغربيين مؤسسين اللبنة الأولى لمدرسة التحليل النفسي لاسيما وأنهم عرفوا نظرية الدوافع Motivation والتعبير Expression والكبت Repression والسيطرة والتسامي Conscious and Unconscious وأن المدرسة ألهورمية ( الغرضية ) والسلوكية ونظرية ماسلو وهرم الإحتياجات قد قال فيهما مفكرونا رأيهم أما مفهوم الأنا والهو والأنا الأعلى الفرويدية فتبدو ساذجة وضئيلة أمام فصل من فصول كتاب ( النفس والروح ) .
لقد كان التنظير العلمي للنفس ناضجاً ( في التراث الفلسفي ) بدرجة تؤهله أن يصبح عالماً مستقلاً إلا أن عصر التخصص لم يظهر وقتها كما هو عليه الآن لأن كليات علم النفس التي تدرس حالياً بشكلها المعاصر لاتختلف كثيراً عن علم النفس بشكله التراثي فهذا الشيخ الرئيس وبعده الفخر الرازي ( 542 هـ_ 606 هـ ) وغيرهم قد بينوا في ثنايا كتبهم نظرية علم النفس بأدق تفرعاتها وتفاصيلها فليست نظرية الإدراك المعاصرة سوى نظرية الأفعال الحسية ونظرية الإنفعال والعواطف يقابلها مفاهيم القوة المحركة أما نظرية النمو فيقابلها النمو (12) .
كما سنجد عند مسكويه ( ت 421هـ ) تنظيراً متكاملاً للعلاج النفسي لا ينقصه سوى المصطلحات الحديثة حتى يصبح نظرية معاصرة ، ومنهجه هو
1_ ( الإستبطان ) :_ دراسة أحوال النفس وكشف عيوبها وعلاجها بحزم واستقصاء خللها .
2_ ( الوقاية ) :_ حفظ الصحة النفسية بملازمة شيء أو تجنب ملازمته .
3_ ( العنصر الإجتماعي ) :_ المعاشرة والمجانسة الصحيحة من اختيار الأصدقاء والخلان والأعوان .
4_ ( الترفيه ) :_ عن طريق الترويح والفكاهة والمزاح الطيب والإلتذاذ بالمأكل والمشرب بما يقدره العقل .
5_ ( العقلانية ) :_ عن طريق الإهتمام بالأمور الفكرية والإنشغال بها لنفع الإنسان لأن في تركها يركن إلى البلادة .
ولا يهمل مسكويه مسألة الإعتدال الذي يسميه الوسط الفاضل الذي يقف وسطاً بين رذيلة الإفراط ورذيلة التفريط فالفضيلة وسط بين الرذائل (13) وإذا كان علم النفس المعاصر يدرس " الظواهر النفسية كما تتمثل في السلوك الإنساني المتعدد الجوانب والعمليات المختلفة التي تتضح فيه كالتفكير والإنفعال والتذكر والتعلم وغير ذلك "(14) فإن الأمر لم يختلف عند ابن سينا والرازي ومسكويه والفارابي وابن حزم والغزالي ...الخ .
من بين أهم المفاهيم التي برع علمائنا في رسم حدودها ( الشخصية الفاضلة ) والتي تسمى حديثاً ( الشخصية الطبيعية السليمة ) التي لايزال العلماء الغربيون حتى هذا الوقت يتعثرون في تحديدها فمنهم من عجز عن تحديدها ومنهم من يعتبرها قيمة ( مثالية ) لاوجود لها واقعياً إنما هي منحنى لقياس الشخصية الإنسانية التي لاتخلو من الأمراض مطلقاً (15) في الوقت الذي برعوا فيه بتعريف وتنظير ( الشخصية ) بما هي مفهوم مجرد وهذه البراعة في تنظيرهم جاءت بعد لم شتات الآراء والإفتراضات التي اختلف فيها علمائهم ، فالشخصية عند فرويد غير الشخصية عند يونغ أو أدلر أو سكنر أو مكدوجل ...الخ . ولم يكن الأمر بهذا السوء والإختلاف عند المفكرين والفلاسفة العرب فقد تحدد لديهم مفهوم ( الشخصية السليمة ) حيث رسموا لها أربع فضائل هي :
وقد أدرج تحت كل هذه الأركان الأربعة جملة من الفضائل النفسية التي تلحقها وعليه يكون لهذه الأمهات " نقائض وعوارض ترفعها أو تصرفها عن كونها فضيلة تسمى أمراضاً نفسانية ، وإنما تحدث عن خلل واقع في كمية إحدى القوى ( الثلاثة ) بالزيادة أو النقصان "(16) وفي الإعتدال نصل إلى الشخصية الطبيعية وبهذه الأركان الأربعة حدد لنا الفلاسفة جوهر وطبيعة الشخصية السليمة .
الحضارة الإسلامية والأمراض النفسية
لم تظهر الأسباب الموجبة لظهور علم النفس العربي الإسلامي كعلم مستقل لتصنيفه ضمن الفلسفة كما ذكرنا هذا من الناحية النظرية أما من الناحية التطبيقية فكان لإستقرار الحياة العربية في الماضي سبب في عدم إستقلال هذا العلم واكتسابه الصفة التخصصية وهذا الإستقرار هو الذي منع من ظهور العقد النفسية بصورها المتعددة كما هو الآن وخاصةً في العالم الغربي الذي دفع إلى تكوين علم النفس كعلم متشعب ، وهذا لايعني أن علم النفس المعاصر علم متكامل بل أن نضوجه لازال شكلياً في الوقت الذي نجد أن علم النفس الشرقي رغم عدم إنفصاله عن المنظومة الفلسفية علم متكامل وناضج وأن معظم الآراء الغربية حول النفس وأمراضها وعلاجها بحاجة للدراسة والنقد وإعادة النظر فيما يخص الوسائل والغايات لأن العالم الغربي ينظر إلى المرض النفسي كوحدة مستقلة ولا يسعى سوى إلى إصلاح الفرد ( الشخصية ) رغم أن هناك علم نفس إجتماعي ، صناعي ، طفل ، مراهقة ...الخ . إلا أن هذا التقسيم هو الذي جعل من علم النفس العام علم مفكك غير متكامل فأخذ كل قسم منه معالجة أخطائه دون النظر إلى الوحدة الكلية التي تجمع العلوم بغاية واحدة هي ( الإنسان ) .
إذا كانت الحياة الإنسانية المعاصرة قد أفرزت الكثير من الأمراض النفسية فهذا لايعني إنتفاء فعالية علم النفس العربي الإسلامي لأن هذا العلم لم يولد من منطلقات جمودية نسبية بل من دستور ثابت ومرن هو القرآن والسنة النبوية فلم يكن علم النفس العربي سوى ترجمان وشرحٍ للآيات والأحاديث الخاصة بالنفس البشرية وأمراضها وعلاجها وقد أثبت علمياً وإنسانياً مطلقية الحجة القرآنية والنبوية الملائمة لكل العصور والأمم لأن الإسلام دين متجدد داخلياً وعلم النفس العربي لايحتاج سوى لتجديد ظاهري لمصطلحاته القديمة ، أما فيما يخص الأمراض النفسية فإنها لم تكن بمثل ماهو عليه الآن حيث وصلت النفس في الغرب المتقدم إلى التدهور والإنحطاط في حين أن طابع الحضارة العربية الإسلامية سعى إلى الحد من استفحال الأمراض والعقد النفسية من الفرد إلى الأمة حيث كانت تعالج جميع الحالات بالشكل الصحيح مما يدل على صحة المنظومة العلمية التي قامت بالعلاج وهي الوسيلة التي من خلالها نصل إلى الغايات وإذا كان العلماء الغربيون قد صنفوا الأمراض النفسية إلى عصابية ( نفسية ) وذهانية ( عقلية _ذات السبب العضوي )(17) فإن طريقة علاجهم كانت غير صحيحة فالمجتمع الإسلامي ينبذ ويستهجن المريض العصابي وينتقد أفعاله ويدفعه للعلاج بالطرق المباشرة والغير مباشرة لأن المريض العصابي يعي حالته ويعرف أنه غير سليم فالمتهور يعرف تهوره والبخيل يعرف بخله والمرائي يعرف ريائه ...الخ . في حين يحترم العصابي في العالم الغربي ويدافع عنه القانون حتى لو ارتكب الجرائم ، أما المريض الذهاني ( المجنون ) فكان يعمل معاملةً إنسانية ويعالج علاجاً صحيحاً ويعيش وسط المجتمع وتراعى ظروفه الصحية ويرعونه من ناحية المأكل والمشرب ولم يحتقر المجنون أو يعذب في تاريخ الحضارة الإسلامية أما في الغرب فقد ذاق الذهاني أبشع أنواع التعذيب من حرق وسجن وحجر لاإنساني باعتباره شيطان في جسد بشري ! وحين ظهرت المستشفيات النفسية في الغرب عانى الذهانيون تعذيباً آخر هو أختبار الأدوية وجلسات الرجّات الكهربائية والعزل عن المجتمع حتى أصبحوا ( فئران مختبرات ) وجربت عليهم المسكنات الخطيرة التي توصلهم إلى حياة أقرب إلى الجماد منها إلى الحيوان ، هذا الخطأ المنهجي في الوسائل والغايات هو الذي جعل الأمراض النفسية أمراضاً مستعصية عند الغرب حتى اختفى مفهوم الشخصية السليمة في مجتمعهم طالما بقت مفاهيمهم منغلقة في الأطر الجامدة في حين نجد الأمر يختلف جذرياً عما هو عليه علم النفس العربي الإسلامي الذي كان منهجه سليماً وكانت الوسائل والغايات بمستوى حضاري يؤهله أن يكون العلم الصحيح لعلاج النفس البشرية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت هذه الدراسة في العدد الخامس عشر (شتاء 2003) من مجلة (الجسرة الثقافية) القطرية
أهم المصادر والمراجع المستفاد منها في الدراسة
1_ الدكتور ( و.أي.سارجنت ) :_ علّم نفسك علم النفس ج1 الموسوعة الصغيرة _ بغداد 1986 ص14.
2_ الدكتور ناجي التكريتي :_ الفلسفة السياسية عند ابن أبي الربيع دار الشؤون الثقافية _ بغداد 1987 ص41 .
3_ الدكتور محمد عابد الجابري :_ العقل الأخلاقي العربي مركز دراسات الوحدة العربية _ بيروت 2001 ص382 .
4_ لمزيد من التفاصيل راجع :
أ_ الإمام فخر الدين الرازي :_ المطالب العالية من العلم الإلهي م3 ج7 دار الكتب العلمية _ بيروت 1999 ص85 .
ب_ ابن رشد :_ تهافت التهافت مركز دراسات الوحدة العربية _ بيروت 1998 ص535
ج_ الدكتور سليمان دنيا :_ الحقيقة في نظر الغزالي دار المعارف _ مصر _ ط4 1980 ص260.
5_ ابن سينا :_ الأرجوزة في الطب نشرت بالعربية والفرنسية بإشراف الدكتور جان جابي وعبد القادر نور الدين .
6_ مجلة الجامعة ( تصدرها جامعة الموصل _ العراق ) ع7 السنة7/ نيسان 1977 ( العلاج النفسي عند ابن سينا ) بقلم الدكتور خير الدين عبد القادر .
7_ الإمام فخر الدين الرازي :_ المطالب العالية م3 ج7 ص6 .
8_ أحمد بن محمد بن يعقوب الرازي مسكويه :_ تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق تحقيق قسطنطين زريق بيروت 1966 ص37.
9_ أبو بكر الرازي :_ الطب الروحاني ( منشور ضمن رسائل فلسفية ) دار الآفاق _ بيروت ط2 1977 ص29.
10_ علّم نفسك علم النفس ج2 ص101/108 .
11_ مجموعة مؤلفين :_ أسس علم النفس العام مكتبة الأنجلو المصرية ص7.
12_ لمزيد من التفاصيل راجع :
أ_ ابن سينا :_ كتاب النجاة مطبعة السعادة _ مصر 1938 ص162/164.
ب_ الإمام فخر الدين الرازي كتاب النفس والروح وشرح قواهما تحقيق د. محمد صغير حسن المعصومي منشورات الأبحاث الإسلامية _ إسلام آباد 1968 ص74 .
13_ تهذيب الأخلاق ص45 .. وراجع أيضاً العقل الأخلاقي العربي ص410 .
14_ علم النفس العام ص7
15_ الدكتور علي كمال :_ النفس دار واسط _ بغداد ط2 1983 ص27/28 .
16_ مؤلف مجهول :_ قانون السياسة ودستور الرياسة تحقيق محمد جاسم الحديثي دار الشؤون الثقافية _ بغداد 1987 ص75.
( وقد أفرد المؤلف المجهول (( من القرن الثامن الهجري )) في هذا الفصل جميع الأمراض النفسية التي تظهر جراء الزيادة أو النقصان في القوى الثلاثة بشكل دقيق لانجده في كثير من الكتب المشابهة للموضوع ثم أخذ في فصل لاحق كيفية معالجة هذه الأمراض ) .
17_ الدكتور عبد الستار إبراهيم :_ العلاج النفسي الحديث سلسلة عالم المعرفة ع27 الكويت 1980 ص38 .
التعليقات (0)