سرد: علام القبيلة
بقلم ذ.بوشعيب دواح
رأيت علام القبيلة على جواده الأسود ذي البقعة البيضاء و سط الجبهة ، جواد عربي أصيل ، أصيل في ألفته ، أليف في خدمته ، خدوم دائما ، لاتوجد لكلمة العجز معنى في قاموسه . رأيت العلام أمام "الصربة"يتمختر في مشيته ...ببلغته الصفراء الفاقع لونها و التي تتحول الى حذاء حينما يكون العلام على خيله الأصيل ..لابسا جلبابه الناصع بياضها كبياض ثلوج قمة جبل توبقال الأطلس الكبير ...عمامة العلام البيضاء تعكس حركات رأسه و التي تختزن بين طيات موجاتها حكمة دفينة لا يفك طلاسيمها الا الراسخون في" بلية" التبوريدة...
أراه يمتطي جواده و الأخير ينسج خطى متثاقلة ، يؤديها في تناغم قل نظيره...أراه شامخا و "الصربة" أمامه كسلطان تؤدى له مراسيم البيعة ...إلا أن علام القبيلة يتموقع دائما أمام الخيالة...
علام القبيلة من كثرة محبته للخيل التمس من السلطان أن يغرس تمثال خيل عربي في وسط مدينته...علام القبيلة كان محبا للبادية ، طموحا جدا ، كان يطالع دروسه على أضواء الزنقة التي كان يسكن بها حينما كان يطفئ عليه جده أنوار المنزل، هكذا كان يروى عنه...درس كثيرا ...، اشتغل...، صعد السلالم الى أن وصل أمام وجه السلطان...أبان على عبقرية المسؤول الكبير...، أصبح خياله مصاحبا لخيال السلطان لا يتلاشى الا مع خفوت أنوار القصر...و مع ذلك لم يتنكر لرائحة تراب البلدة و المدينة الأم...، يتفقدها كل مناسبة راكبا سيارته الرباعية الدفع و المتعددة الخيول، يزور كل مكان يروق له في البلدة و لن يودع المدينة الا و يكون قد زار آخر متسكع بليل المدينة ، مدينة الخيول ، مدينة الكلأ، مدينة الخضر ، مدينة التجارة و الصناعة ...، طالب علام القبيلة بأن يكون للمدينة شاطئا بحريا فأصبحت مدينته مدينة الشواطئ و الحيتان...لم يرق له ما يرى بأم عينيه : جنرالات و محبي التسلط و الشطط ...ذوي البطون النتنة، يتربعون على كراسيهم الفاخرة رؤساء في قبضتهم فرق ...شجع بدوره فريقه كما جلب له دعما و امكانيات يحسد عليها. أعطى لون الفريق لونا يمزج بين لون زرقة سماء المدينة و بياض راية علام القبيلة.أصبح فريقه يقارع بقرونه فرقا افرنجية كما تلهب نار بطولته الوطنية...
من يتجرأ أن يتكلم أمام علام القبيلة ، من يعارض ستعزف عليه مزامير" الربيب" ، سيبكي كثيرا، سيزج به في سجون باردة برودة ملتقى مدينة أزمور و المحيط ، سيذوق حرارة لسعات عقارب زمن تازمامارت...أمام العلام أناس لا يتكلمون بألسنهم ، حتى و ان تكلموا ، يتكلموا خفية و مخافة من بطش السلطان ... ألأفواه مقفلة في الخارج حتى و ان كانت يتيمة الأسنان فهي سليطة اللسان. أما في الحانات فهي مفتوحة تقارع كؤوس الخمر الغالي و الجعة ، و تغازل البارميطات ...، دائما في غياب على بيوتهم ، يسكنون الحانات ، كما يرغمون نسائهم لزيارتهم بجانبها ، لا يتفوهوا إلا و هم مخمورون...مراراتهم تتصبب عرق الحقد و تتقطر عصارة الحسد...أما علام القبيلة فقد كان ضمن منصبه في الأبراج العالية و مقاما شريفا في القصور السلطانية. لا يتحرك السلطان الا بمشورة علام القبيلة ذو الفكر الثاقب حيث منافسيه يكيدون له كيدا و هو لهم يكيد كيدا ...و هو و السلطان معهم رويدا رويدا. في كل مكيدة تنقلب سيوف الغدر الى صدورهم و تنغرس مخالب السلطان في أعينهم ، فلا يرجعون من حيث انطلقوا الا وهم عمي لا يبصرون إلا ظلاما في ظلام حالك.
علام القبيلة قبل انطلاق كل موسم بجهته ، كان يعطي انطلاقة الموسم ، موسم العيطة
و التبوريدة...أو موسم الولي الذي يتربع في وسط المدينة بجانب القصبة الاسماعيلية التي تؤرخ لحضارة المدينة. الأيام السبعة للموسم تمر صاخبة بدوي البارود، سحابات البارود ترسم غمامات فوق رؤوس الخيل التي تركض فوق تربة التيرس الخصبة...أما شيخات العيطة فصوتها يصدح شدوا و بهجة في سماء المدينة ، تخرج الشيخة من حلقها كلاما ، ثقافة لا بل تاريخا يحيي أمجاد الأجداد و تدعو الأحفاد الى شحد الهمم للتشبت بالأصالة و الطموح نحو التجددو المعاصرة...
الأيام السبعة عبارة عن صخرة ينحت فيها زوار المدينة من ساكنيها و قراها بصماتهم و تدخل في سجل تاريخهم و ذاكرتهم التي لن تنسى أبدا ما داموا يمشون على تربتها و يرتوون من مائها ...علام القبيلة ينام في هدوء و طمأنينة ، ما دام سكان بلدته ينسون مشاكلهم و يمسحون الدمع و الآهات على جدران تلك الأيام السبعة...رؤوس الأموال تتحرك كما تتحرك الرؤوس الأدمية ، الكل يأكل و يطعم ،الأمور تسير بخير مادامت مدينة علام القبيلة اتسعت شوارعها و أزقتها ، زاد بنيانها حيث أنك لن تجد دار صفيحية بين العمران...أبناء البلدة يغترفون من بحر العلوم و يطلبون المعرفة من المحيط حيث المدينة أمست ذات شان بين أخواتها مادامت رآية علام القبيلة ترفرف فوق سمائها...
رآية علام القبيلة ثناثرت شظاياها بفعل سم عقارب الزمن وزمن العقارب ...الصربة تفرقت و كل فارس مضى الى حال سبيله .الأبناء غادروا البلدة و تركوا الأم وحيدة ، بلعتهم بطون المدن الكبرى ...أرصفة شوارع المدينة تآكلت و الأزبال تشتت في كل مكان...غاب الموسم و حضرالمهرجان ...
ذوي الأنفس الضعيفة أخذت بلجام الأمورو عقرت كل الخيول..عم الفساد داخل مدينة الخيول...
أما علام القبيلة فكان قد مات منذ أمس بعيد بعدما أصابه الخرف حيث كان عليه الاعتماد داخل الصربة .حلف باليمين كنسر جارح جريح أن لا يموت أمام أعين الأوغاد . مات مغتربا في ديار أوربا القصية و القاسية .عاد الى بلده و هو في صندوق خشبي بارد ...لم يدفن في مسقط رأسه كما أوصى بذلك و كما أراد له أبناء بلدته بحرارة.....لكن دفن علام القبيلة أينما يعلم الجميع...
cdouah@gmail.com
التعليقات (0)