علاقة الإدارة بالأستاذ والصراع المتبادل :
كنت أنتظر منه أن يطلب مني المذكرة اليومية لمراقبتها وتوقيعها أو يطلب جذاذات دروس اليوم التي أقدمها للتلاميذ أو يناقشني في منهجية أي درس قد أخطأت في اتباعها كما هو مسطر في الدليل المنهجي لكل درس على حدة. كنت أنتظر منه أن يعرض علي المذكرات الوزارية والأكاديمية والنيابية كي أطلع عليها وعلى الجديد فيها والتوقيع عليها لكنه لم يفعل، لأن حضوره عندي كان وراءه شيئا آخر غير هذه الأمور الإدارية والتربوية. وهذا الأمر كان بادٍ عليه وهو يدخل خاوي الوفاض ليس كعادة كل مدير مدرسة يزور أساتذته التابعين له. كان هدفه سيئا وشيطانيا وذلك ما بدا على وجهه وهو يبتسم في وجهي تلك الابتسامة الماكرة. وبدون مقدمات وبعد إلقاء التحية المفعمة بالكلام المعسول استرسل في حديث غريب لم أكن أتوقعه منه لأن وضعه الإداري والتربوي يمنع عليه الحديث في أمور الإعجاب والحب والعواطف الشخصية مع أستاذة متزوجة وأم لطفلين داخل فصلها الدراسي مع تلامذتها تقوم بمسؤولياتها التربوية. قررت أن أسمعه إلى الآخر وأن لا أقاطعه هدفا في معرفة مكنوناته وكل غاياته من هذا الكلام وهذا التصرف المرضي والصبياني من رجل الإدارة الذي يفترض فيه الأخلاق واحترام مرؤوسيه وإعطائهم القدوة في التصرف والفعل والقول. أمطرني بوابل من الكلام المعسول كأنه شاب في مقتبل العمر يبحث عن رفيقة وحبيبة هو الرجل الطاعن في السن والمتزوج والأب لدستة من الأبناء أكبرهم يفوقني بسنوات. قلت في نفسي لا بد أن هذا الرجل مريض عقليا ولا داعي للرد عليه والتسبب في مشكلة يصل صداها إلى زوجي الذي يعمل بفرعية تابعة لنفس المجموعة المدرسية التي أعمل بها. خفت أن يكون رد فعل زوجي صعب التحمل وهو المعروف بعصبيته الزائدة وغيرته الكبيرة التي قد تقوده إلى الإقدام على فعل لا يحمد عقباه. قررت أن أتصرف بحكمة مع هذا المريض ولذلك كان عليٌ أن أجاريه إلى أن تنتهي السنة الدراسية وينسى كل شيء خاصة وأنني كنت قد شاركت في الحركة الانتقالية. ولكن لا حياة لمن تنادي فقد استمر هذا المدير المريض في التحرش بي وبدأ يكثر من عدد زياراته إلى الفرعية التي أعمل بها ويعيد على مسامعي نفس الكلام ونفس السمفونية وأنا أتجاهل كلامه بخبث أنثوي علي أخرج من هذه التجربة بأقل الخسائر....
الحكاية طويلة جدا لا يحتمل الحيز الورقي لسردها كلها لأن الأستاذة التي حكت لي بلسانها قصتها هذه لم تتوقف في الانتقال من المؤسسة ومازال هذا المدير يتحرش بها ويؤثر ويضغط عليها كي يحقق أهدافه الشياطنية. ومازالت تعيش بين أمرين أحلاهما مر في أن تخبر زوجها بالأمر فيصل به الأمر إلى فعل ما لا يحمد عقباه وبين أن تعيش هذا الضغط وتجاري هذا المدير سلوكيا إلى النهاية، فهي لا ترى في الأفق أي بوادر للتراجع عن سلوكه الصبياني هذا.
كل أستاذ ورجل تعليم يتمنى عند تخرجه أن يجد كل الوسائل المتاحة لتقديم رسالته النبيلة والعمل في ظروف طيبة ومع أناس وزملاء وإدارة في مستوى المسؤولية التربوية والتعليمية اللائقة. ولذلك فإننا نجده بعد التخرج يفرح لا تسعه الفرحة في التفوق في سنتي التكوين بالمركز من أجل تطبيق كل ما تعلمه داخله. لكن كل هذا ينتفي عند أول خطوة في ميدان العمل. وتبدأ المعاناة في التعيين الذي يفاجأ به ثم تتسلسل المعاناة مع الإدارة والزملاء في العمل ومع السكان في الدوار أو الحي ومع التلاميذ الذين بدورهم يعيشون ظروفا لا يحسدون عليها في وطن يدعي بعض المسؤولين فيه أنهم يهتمون بالطفولة بينما هذه الطفولة تمثل أكبر الفئات المعرضة للإهانة والمعاناة بين باقي فئات الوطن والمجتمع.
والمتتبع لواقع الإدارة التربوية يجد أنها لا ترقى إلى مستوى المسؤولية القائمة على عاتقها لأنها قاصرة معرفيا وبيداغوجيا وإداريا على القيام بمسؤولياتها الخطيرة التي تفترض الحزم والتحلي بالأخلاق والقدوة والدبلوماسية والفطنة والذكاء في معالجة المشاكل التي تعترضها، بل عليها أن تكون ذلك " الدينامو" المحرك لكل العملية التعليمية التعلمية بكل تجلياتها التربوية والمعرفية والإدارية. فما يعيشه رجال التعليم مع إداراتهم يكاد يكون حربا ضروسا وصراعا مفتعلا يكاد يعصف بكل مقومات التعاون والتواصل لإنجاح العملية التربوية. وبالتالي تصبح العلاقة العلاقة بين المدير والأستاذ علاقة تنافر وعدم ثقة وتجاهل وحذر من الطرفين معا كأنهما في حرب باردة يلزمها السلاح فقط لتكتمل معالم الحرب الغبادية لكلا الطرفين.
تنشر وسائل الإعلام المكتوبة العديد من الأخبار حول شكاوى رجال التعليم من إداراتهم ونتابع على شاشات الإعلام المرئي ونسمع من خلال الإعلام المسموع عن العديد من الوقائع التي يكون بطلها الإدراة التربوية أو رجل التعليم وهذا غيض من فيض فيما يقع في مدارسنا العمومية المغربية التي تعيش على واقع صراعات تودي بكل عناصر إصلاح وتطوير المنظومة التربوية إلى الفناء والموت. فهل يعقل أن يقضي رجل الإدارة أورجل التعليم كل وقته في خلق صراعات وهمية مع الآخر بينما وظيفة كل واحد منهما تتجلى في التربية والتعليم والمساهمة في الإصلاح التعليمي وإبداع رؤى لتطوير المنظومة التربوية بالمغرب؟ .
هذه المؤشرات تكشف عن حقيقة مفادها أن هناك قصور معرفي عند الطرفين يتجلى في كيفية بناء العلاقة بين طرفيها، ويكون منبعه تكوين هزيل يتلقاه كل طرف على حدة، إضافة إلى بعض الأفكار الموروثة عن هذه العلاقة بين الرئيس ومرؤوسيه أو إلى بعض التجليات العلائقية التي يتعرض لها المدير وهو يمارس مهامه في ارتباطه برؤسائه الآخرين في النيابة والأكاديمية والوزارة. فمادام المدير لا يحس بتلك العلاقة القائمة على التعاون والاحترام المتبادل من طرف رؤسائه، فإنه سيحاول إسقاط هذا المفهوم العلائقي على الأساتذة الذين يعملون معه في المؤسسة التي يسيرها.
فليس من المبالغة القول بأن المؤسسة التعليمية التي تعيش على مثل هذه الصراعات تخرج أطفالا متشبعين بثقافة العنف والتمييز والصراع. وبالرغم من كل ما يقدم إليهم من معلومات ومعارف تحث على الحب والتعاون والتكافل فإنهم يصطدمون في الواقع بهذه الصراعات التي تقع أغلبها أمام أعين التلاميذ وبالتالي فإننا لا نحصد في الأخير سوى الهباء والفراغ.
إن العلاقة التي تربط بين الإدارة التربوية وبين رجل التعليم يجب أن تكون علاقة مبنية على التعاون والتفاهم لدفع السيرورة التعليمية إلى الأمام. وغير هذا هو مجرد هدم وتدمير للعملية التعليمية التعلمية نتيجة فقدان الثقة بين الطرفين مما يؤدي إلى دفع كل طرف إلى الانتقام من الآخر كل واحد من موقعه أو إلى تصيد زلات وسقطات كل طرف من أجل استثمارها في الأوقات المناسبة.
إن الإدارة التي تترك مسؤولياتها وتبحث عن خلق صراعات ثنائية بينها وبين الأستاذ هي إدارة قاصرة وضعيفة من حيث المعرفة والتدبير والتسيير وفاشلة في تحقيق الجو الملائم للعمل في ظل الشفافية والمصداقية. وقصورها وفشلها هذا يؤدي إلى التأثير سلبا على العمل داخل الفصل وعلى المردودية التعليمية عموما. وهكذا نستطيع أن نقول أن على الإدارة أن تعيد النظر في طريقة تعاطيها مع الأساتذة الذين هم تحت نفوذها الإداري والتربوي، بل عليها أن تساهم في تطوير المفهوم الذي تُعرف به الإدارة بمنظار سلبي لا يقود إلى خلق علاقة إيجابية بين الطرفين مبنية على التعاون والتواصل البناء.
وفي النهاية، فإنه مما لا يمكن تجاهله الإشارة إلى أن هناك الكثير من الإدارات المغربية يسيرها إداريون واعون بعلاقة متقدمة ومتطورة مع الأستاذ لأجل خلق جو ملائم للعمل والدفع نحو تحقيق مردودية تعليمية وتربوية في مستوى التطلعات كلها. فرجل الإدراة لا يختلف عن رجل القسم إلا في المهام الموكولة لكل واحد منهما ولذلك فما عليهما إلا أن يتجاوزا كل مناطق الصراع والاحتراب والبحث عن وسائل لبناء علاقة متينة تساعد الطرفين معا على العمل في جو سليم ومعافىً .
عزيز العرباوي
كاتب من المغرب
التعليقات (0)